بعد أكثر من أربعة أشهر على اندلاع القتال في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، ظهر رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان متنقلًا بين مناطق عدة خارج الخرطوم وصولًا إلى مدينة العلمين ولقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في أول زيارة خارجية له منذ بدء المواجهات المسلحة.
شكل خروج البرهان مفاجأة وجدلًا واسعًا بين السودانيين، لا سيما وأن الدعاية المضادة من قوات الدعم السريع أشاعت أن قائد الجيش كان محاصرًا داخل مقر القيادة العامة وسط العاصمة الخرطوم.
دفع هذا للتساؤل عن حقيقة الموقف العسكري على الأرض، بعد أن اقتصر القتال في العديد من المواقع على القصف والقصف المتبادل لأماكن تمركّز كل من الجيش والدعم السريع.
الموقف العسكري للجيش وقوات الدعم
ففي الخرطوم التي شهدت أعنف المعارك وأشرسها بعد اندلاع القتال في أبريل/ نيسان الماضي، ما زال الجيش يحافظ على مواقعه في مقر القيادة العامة ومعسكر سلاح المدرعات، الذي تدور في محيطه معارك شرسة في ظل محاولات مستمرة لاقتحامه من قبل قوات الدعم السريع.
ويعد معسكر سلاح المدرعات أحد أكثر حصون الجيش مناعة في العاصمة إلى جانب مجمع اليرموك للصناعات العسكرية، حيث استطاع صدّ قوات الدعم في أكثر من مواجهة، إضافة إلى معسكر الذخيرة بضاحية الشجرة في الخرطوم.
وكان للتفوق الجوي للجيش السوداني دور كبير في تدمير الكثير من معسكرات الدعم السريع في العاصمة الخرطوم وأم درمان ودافور واستهداف قوافل الدعم القادمة من الغرب نحو الخرطوم.
لكن مع ذلك بقيت قوات الدعم السريع تحافظ على المواقع التي سيطرت عليها في العاصمة لا سيما الأحياء المتاخمة للقيادة العامة في جبرة والرياض التي تنطلق منها لشن الهجمات وعمليات القصف على المقر، وهي الأحياء التي تستهدفها عادة الغارات الجوية للجيش.
القصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي
من جهة أخرى، ما زالت عناصر الدعم تسيطر على القصر الجمهوري القديم بالرغم من التدمير الهائل الذي تعرض له منذ بداية القتال بسبب القصف والاشتباكات المتواصلة في محيطه.
وإلى جانب هذا المكان تسيطر قوات الدعم السريع على القسم الأكبر من مطار الخرطوم الدولي ما عرضه لقصف مكثف من قبل الجيش على مدار الأشهر الماضية.
أمّا في أم درمان فيسيطر الجيش على سلاح المهندسين الذي يعد قاعدة العمليات الرئيسة في تلك المنطقة، إلى جانب قاعدة وادي سيدنا الجوية التي تشكل منطلق الهجمات الجوية ضد الدعم السريع المتمركزة في الأحياء السكنية جنوب المدينة وغربها.
وإلى الغرب تشهد ولاية جنوب دارفور اشتباكات عنيفة لا سيما في مدينة نيالا عاصمة الولاية ما تسبب بحالة نزوح واسعة بين المدنيين وتفاقم الأوضاع الإنسانية.
وتجدر الإشارة إلى أن مسرح العمليات القتالية ما زال متحركًا خصوصًا في الأحياء السكنية مع تمترس كل طرف في المواقع التي يسيطر عليها، في وقت لم تفلح فيه كل محاولات الوساطة لوقف القتال والجلوس إلى طاولة المفاوضات.
البرهان يتعهد بمواصلة القتال حتى آخر جندي، ويعد الشعب السوداني بنهاية قريبة وحاسمة لقوات الدعم السريع #السودان pic.twitter.com/2bM8Qd6G5v
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) August 29, 2023
خروج البرهان من الخرطوم
في مصر حط قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان والتقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، في مستهل جولة خارجية يأمل من خلالها تدشين مرحلة جديدة لدعم موقف المجلس السيادي الذي يرأسه بوصفه الوجه الشرعي للبلاد.
وجاءت الزيارة بعد أيام من ظهوره الأول خارج الخرطوم يجول بين جنوده ومقرات جيشه، من أم درمان إلى عطبرة والدامر وصولًا إلى بورتسودان ووجوده أمام جنوده في قاعدة فلامنغو البحرية.
تعددت الروايات بشأن الطريق الذي سلكه البرهان متحديًا الحصار المفروض على مقره في القيادة العامة، ومتجنبًا المعابر التي تسيطر عليها عناصر الدعم السريع وهو ما عده أنصاره دليلًا على ثقته بالموقف العسكري لجيشه وقواته المسلحة.
لكن البرهان سرعان ما كشف عن العملية الدقيقة بمشاركة القوات البحرية والجوية التي مكنته من مغادرة القيادة العامة، معترفًا بمقتل اثنين من عناصره أثناء العملية، قاطعًا بذلك الطريق على التكهنات التي توقعت وجود اتفاق بين البرهان وحميدتي.
وأقرّ متابعون للشأن السوداني بجرأة الخطوة المفاجئة التي أقدم عليها البرهان. فهي من جهة تثبت سيطرة الجيش وقدرته على اتخاذ زمام المبادرة، ومن جهة أخرى تحرر رئيس المجلس الانتقالي من قيود المكان والتفرغ لإدارة المعركة السياسية وما توجبه من مرونة التنقل.
فالبرهان وبعد أكثر من أربعة أشهر على تمترسه داخل الخرطوم بات قادرًا على القيام بجولات خارجية والمشاركة في المباحثات والمفاوضات التي تتوسط فيها جهات إقليمية ودولية كالوساطة التي تقودها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة.
رؤية الدعم السريع لحل الأزمة
يتزامن ذلك مع إعلان قوات الدعم السريع انفتاحها على وقف إطلاق النار مع الجيش السوداني، إذ عرضت عبر بيان نشر في صفحة محمد حمدان دقلو "حميدتي" على منصة "إكس" رؤية قوات الدعم السريع للحل الشامل وتأسيس الدولة السودانية الجديدة، بحسب ما جاء في مقدمة البيان.
وتحت عنوان "مبادئ عامة" طرح حميدتي عشر نقاط تدعو إلى معالجة جذور الأزمة السودانية لإنهاء الحرب في البلاد وإنشاء نظام ديمقراطي مدني تتمتع فيه السلطات المحلية بصلاحيات واسعة في ظل نظام فيدرالي لإدارة شؤونها.
وطالب بضرورة إنشاء جيش سوداني جديد من الجيوش المتعددة الحالية بغرض بناء مؤسسة عسكرية مهنية غير مسيّسة مهمتها حماية الدستور والنظام الديمقراطي، بحسب البيان
بين بيان حميدتي وخروج البرهان في جولته العربية والدولية تستمر المعارك المحتدمة بين الجيش وقوات الدعم السريع، تاركة الشعب السوداني بين قتيل ومشرد مع فشل كل جهود الوساطة العربية والدولية لإنهاء الأزمة في البلاد حتى الآن.
ما هي دلالات خروج البرهان من الخرطوم؟
يعتبر أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة قطر أحمد أبو شوك أن زيارات البرهان خارج الخرطوم تعطي مؤشرًا على أن الجيش "في وضع أفضل مما كان عليه قياسًا على المعطيات العسكرية على الأرض".
ويرى في حديث إلى "العربي" من استديوهات لوسيل، أنه من خلال المفردات التي استخدمها البرهان في خطاباته يمكن النظر إليها من جوانب عدة.
ويشير في هذا السياق إلى أن خطاب البرهان في بورتسودان كان مختلفًا عما ألقاه في مدينة العلمين المصرية، معتبرًا أن الخطابين كان بينهما تناقض واضح.
ويوضح أن خطاب بورتسودان كان تحشيديًا ويُظهر فيه البرهان أن الصراع هو صراع وجودي بين الجيش وقوات الدعم السريع وأن القوات المسلحة ستقاتل حتى النهاية لإنهاء التمرد.
أمّا في خطابه في العلمين، فقد طرح البرهان مسألة إيقاف الحرب، لكنه – بحسب أستاذ التاريخ الحديث – "لم يحدد أدوات إيقاف تلك الحرب أو الإطار الزمني لذلك".
ويلفت أبو شوك إلى أنّ خطاب البرهان في مصر يطرح علامات استفهام عدة حول الغرض من زيارته إلى مصر وأهدافها وما الذي جناه من تلك الزيارة.
ورغم ذلك، يؤكد أن خروج البرهان كان يحمل رسالة لقوات الدعم السريع بأنه يستطيع الخروج خارج مقر القيادة العامة للجيش بعد حديث قادة هذه القوات بأنه لا يمكن ذلك إلا بموافقتهم.
ويخلص إلى أن قوات الدعم السريع لا تزال تسيطر على مواقع مؤثرة داخل العاصمة الخرطوم ومعابر رئيسية، لكنه يرى من خلال متابعة خطاب الجيش أن هذا الأخير في "مرحلة هجومية على مواقع الدعم السريع أكثر من هجوم تلك القوات على الجيش".