توقفت عقارب الزمن في تشيرنوبل والقرى والبلدات المحيطة بها منذ انفجار المفاعل الرابع من المحطة النووية التي صُمّمت لتكون الأكبر في العالم فكانت الكارثة الأبشع في التاريخ.
توقفت عقارب الزمن تحديدًا في السادس والعشرين من أبريل/ نيسان عام 1986، في ليلة تستّر عنها الاتحاد السوفياتي لعدّة أيام حفاظًا على كبرياء الدولة، إلى أن ساقت الرياح سحابة الموت إلى القارة الإسكندنافية.
حينها فقط، اكتشف السويديون والعالم هول الكارثة، كارثة لم تنتهِ فصولًا بعد 35 عامًا، حيث لا يزال الهواء مسمومًا من "مفاعل الموت"، وفق ما لمسه فريق "العربي" الذي زار المكان، موثِّقًا عبر صور وشهادات حيّة ما باتت تُصنَّف بأنّها الكارثة النووية الأبشع في تاريخ البشر.
كيف بدأت "قصة الرعب" في تشيرنوبل؟
في غرفة التحكم بدأت قصة الرعب في تلك الليلة الرهيبة. تراكمت الأخطاء بعد تجارب رفعت حرارة المفاعل. شغّل المهندس ألكسندر أكيموف زرّ الأمان لوقف التفاعل النووي، لكن بعد فوات الأوان.
كان ذلك الزرّ هو المفتاح إلى الجحيم. انفجر المفاعل وتطاير الحطام المشعّ ومعه سحب دخان وأبخرة وغازات مشبعة بإشعاعات تفوق بأربعمئة مرّة قنبلتي ناغازاكي وهيروشيما.
فرّقت الرياح الغيوم المسمومة إلى ثلاث سحابات غطّت أجواء 12 دولة أوروبية. مُسِحت أحياء بأسرها من فوق الأرض ودُفِنت تحت أكوام من التراب مع إشعاعاتها النووية.
"مقبرة المدن" في تشيرنوبل
مارس السوفيات الغموض وظلّت أعداد الضحايا مجهولة. ضاعت الأسرار في أدراج الحزب الشيوعي السوفياتي ودهاليز جهاز المخابرات السوفياتية.
لكنّ المنازل التي أضحت في ليلة واحدة "مقابر" لم تعد سرًّا. وثقّتها "مقابر المدن" التي تضمّ شواهد لأسماء مدن وقرى وبلدات انعدمت فيها الحياة.
زار "العربي" في إطار وثائقي "مفاعل الموت" هذه المقبرة، وهي منطقة دائرية يبلغ نصف قطرها 30 كيلومترًا محرّمة على البشر، يحيطها سياج تحرس مداخله نقاط تفتيش عسكري.
"مدينة أشباح" وأكثر
يجول الوثائقي الخاص بـ"العربي" أيضًا في معالِم أخرى لـ"مفاعل الموت" انعدمت فيها الحياة، منها مثلًا روضة أطفال تفصل بينها وبين مركز الانفجار النووي أربعة كيلومترات فقط لا غير.
أضحت هذه الروضة وحيدة في مدينة الأشباح منذ 35 عامًا، من دون أن يبقى بها سوى "دمى تشرنوبيل" المحرومة من أحضان أطفال رحلوا إلى الأبد.
ومن روضة الأطفال إلى المستشفى والمدرسة والسجن، تكرّر المشهد نفسه الذي وثّقه "العربي": جحيم وسط الجحيم، وزمن متوقّف منذ 35 عامًا.
شهادات حيّة.. صفحات تشيرنوبل لم تُطوَ
في وثائقي "مفاعل الموت" أيضًا، شهادات حيّة لمن عاينوا وبحثوا وتعمّقوا في هذه الكارثة النووية، منهم المسؤولة بالوكالة الأوكرانية لإدارة منطقة الحظر النووي برينا نيكوليانيكا التي تتحدّث عن "آمال جديدة لتنمية وتطوير المنطقة المحيطة بالمحطة النووية، والتي تُعتبَر فعليًا منطقة ميتة". وتقول: "إنها أكبر قبة متحرّكة في العالم، ومنذ تثبيتها في 2016 تقلّصت مستويات الإشعاع المنبعثة من المفاعل".
من جهته، يستذكر الباحث المهتم بتداعيات كارثة تشرنوبيل ماكسيم بوليفكو، اللحظات الأولى، مستندًا إلى شهادات حيّة، فيقول: "عندما انفجر المفاعل الرابع في 26 أبريل، قذف جوفه حطامه المشعّ وأجزاء من قضبان اليورانيوم وحطّت في أعماق قناة مياه، حيث تعمل المياه حاليًا درعًا يمنع انبعاث الإشعاعات إلى الطبيعة".
أما الجندي السابق في قوات الجيش الأحمر الخاصة سيفالوت ستيبانيوك فسيفولود، فيروي تجربته بدوره: "كان الطقس لصالح أوكرانيا. هبّت رياح شمالية غربية أبعدت السحب السامة ممّا جنّب كييف بكثافتها السكانية كارثة. يمكننا القول إنّ الحظّ كان حليفًا للعاصمة".
ويختصر الباحث في الشؤون السياسية الأوكرانية أندري بوزاروف المأساة بمفارقة ملفتة: "وقع الانفجار في نهاية شهر أبريل وفي الأول من مايو الذي يصادف عيد العمال الذي يحتفل به السوفيات، ومع ذلك واصلت آلة الدعاية عملها وأجبرت السلطات الحزبية الناس على الخروج للاحتفال في أرجاء أوكرانية، غير عابئة، رغم علمها بأنّ ما حدث يشكّل خطرًا على الصحة".
باختصار، عرّى الانفجار النووي مقوّمات الاتحاد السوفياتي وكشف أسراره الواحد تلو الآخر، لكن في تشيرنوبل، لم تُطوَ الصفحات وإنما ظلّت مفتوحة منذ الانفجار الشهير. توقّف الزمن في تلك الليلة الرهيبة، لكنّ المعالِم لا تزال حاضرة لتذكّر بأنّ الحياة كانت موجودة هنا، في يومٍ من الأيام.