حقّق فيلم "أوبنهايمر" رقمًا قياسيًا للتقييم على المستويين الجماهيري والنقدي، خلال أيام فقط من طرحه في دور السينما العالمية الأسبوع الماضي.
ويروي الفيلم قصة حياة جيه روبرت أوبنهايمر الشهير بكونه "أبو القنبلة الذرية"، والذي يُعتبر أحد أبرز الشخصيات وأكثرها إثارة للاهتمام في القرن العشرين.
ومع ذلك، خلف التوهّج المضيء لإنجازاته العلمية، تكمن شخصية معقّدة متعدّدة الأوجه تضمّ حياتها مجموعة واسعة من الاهتمامات، ومفارقات عميقة، وتأثيرات غير متوقّعة.
ورصد موقع "ليست فيرس" (lisverse.com) حقائق غير معروفة وراء صورة أوبنهايمر المألوفة، وتلقي ضوءًا مختلفًا على حياته الرائعة.
براعة لغوية استثنائية
نشأ أوبنهايمر في بيئة تعليمية لم تركز فقط على العلوم، ولكن أيضًا على العلوم الإنسانية، حيث طوّر مجموعة منتقاة من الاهتمامات التي امتدت إلى اللغات اليونانية، واللاتينية، والفرنسية، والألمانية.
وتميّز أوبنهايمر بسرعته في تعلم لغة جديدة عند الحاجة، إذ أُفيد بأنّه أتقن اللغة الهولندية في ستة أسابيع فقط، من أجل إلقاء محاضرة تقنية في هولندا.
ماذا تعرفون عن فيلم "#أوبنهايمر" الذي اجتاح دور السينما خلال أقل من اسبوع؟#صباح_جديد pic.twitter.com/7E9mTScbKd
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) July 26, 2023
ولم تكن قدرته السريعة على التكيّف مع اللغات الجديدة مجرد عرض لقدراته المعرفية الاستثنائية فحسب، بل كانت أيضًا شهادة على شغفه بالأصالة، وتفضيله الوصول إلى المعرفة بلغتها الأصلية كلما أمكن ذلك.
وامتد حبّه للغات إلى اهتمامه اللامتناهي بالكلاسيكيات والفلسفة الشرقية.
التفّاح المسموم
عام 1926، وأثناء إجازة في كورسيكا مع زملائه الطلاب من جامعة كامبريدج، كشف أوبنهايمر سرًا مروّعًا، بأنّه حاول قتل معلمه مرة أخرى في كامبريدج. وكان سلاحه المفّضل هو تفاحة محقونة بمواد كيميائية سامة تركها على مكتب المعلم.
وأصيب أصدقاؤه بالذهول لفهم كيف يمكن أن ينغمس في مباهج الإجازة، بينما كانت مؤامرة القتل تنكشف في الجامعة.
وكشفت هذه الحادثة جانبًا أكثر قتامة من الفكر المضطرب الذي اشتهر به أوبنهايمر، وسلط الضوء على التعقيد الذي تجاوز بكثير إنجازاته الأكاديمية الرائعة.
الحماسة للفيزياء الكمية
كان أوبنهايمر شغوفًا بدراسة الفيزياء الكمية. وعام 1925، تخرج بامتياز مع مرتبة الشرف من جامعة هارفارد، حيث أظهر قدرة فكرية رائعة، لكنّه لم يكن مقتنعًا بالبقاء في عالم الفيزياء التقليدية.
وحرصًا على المزيد من البحث والدراسة الصارمة، انتقل أوبنهايمر إلى جامعة غوتنغن في ألمانيا لدراسة الفيزياء الكمية. وهناك، أتيحت له الفرصة للقاء والدراسة مع بعض الشخصيات البارزة في هذا المجال، بما في ذلك ماكس بورن، ونيلز بور.
وبلغت هذه المرحلة غير العادية من حياته ذروتها عام 1927، عندما طور أوبنهايمر، جنبًا إلى جنب مع ماكس بورن، نموذج "Born-Oppenheimer Approximation"، وهو نموذج مؤثر في ميكانيكا الكم الجزيئية. وكان لهذا العمل الرائد مساهمة كبيرة في المجتمع العلمي.
علاقاته بالحركات الشيوعية
كان لأوبنهايمر علاقة معقّدة بالحركات الشيوعية خلال ذروة الحرب الباردة. وكانت الدائرة الاجتماعية لأوبنهايمر خلال فترة عمله في جامعة كاليفورنيا ببيركلي، تعجّ بأعضاء الحزب الشيوعي الأميركي، أو المتعاطفين مع الأفكار الشيوعية.
ومن المثير للاهتمام، أن أوبنهايمر المعروف بروح الدعابة، ردّ على استبيان أمني لمشروع مانهاتن لصناعة القنبلة النووية بأنه "من المحتمل أنه ينتمي إلى كل منظمة للجبهة الشيوعية في الساحل الغربي".
وعلى الرغم من علاقاته بالشيوعية، كان أوبنهايمر يعتبر بالغ الأهمية لنجاح مشروع مانهاتن لدرجة أن الجنرال ليزلي آر غروفز رفض المخاوف بشأن خلفيته السياسية.
ولاحقًا، لعبت هذه الانتماءات الشيوعية دورًا في إلغاء تصريحه الأمني عام 1954، ما مثّل نقطة تحول دراماتيكية في حياة أوبنهايمر المهنية.
جائزة "إنريكو فيرمي" الرئاسية
فاز أوبنهايمر بجائزة "إنريكو فيرمي" الرئاسية التس أسّسها الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور وهيئة الطاقة الذرية تكريمًا لعالم الفيزياء المشهور لدوره الحاسم في تطوير الطاقة الذرية، وتعترف بالإنجازات العلمية أو التقنية أو الهندسية أو السياساتية أو الإدارية الاستثنائية المتعلقة بمهام وزارة الطاقة الأميركية وبرامجها.
وتشهد قائمة الفائزين بالجائزة، بما في ذلك جون فون نيومان وارنست لورنس وروبرت أوبنهايمر، على مكانة الجائزة والمكانة غير العادية للعلماء الذين تحتفل بهم.
الولاية التي سرقت قلب أوبنهايمر
أحد الجوانب اللافتة للنظر في حياة روبرت أوبنهايمر، هو حبّه العميق طوال حياته لولاية نيو مكسيكو التي قضى فيها فترة التعافي من مرض الزحار عام 1922.
خلال ذلك الوقت، قضى أوبنهايمر وقته بركوب الخيل، والتجوّل عبر المناظر الطبيعية الخلّابة لسلسلة الجبال هناك. وترك جمال المنطقة بصمة لا تمحى عليه، وبلغت مغامراته في البرية ذروتها في زيارة لا تُنسى لمدرسة لوس ألاموس رانش. وبعد عقدين من الزمن، أصبح هذا الموقع بالذات مركزًا لمشروع مانهاتن بناءً على اقتراح أوبنهايمر.
وتعمّقت علاقة أوبنهايمر مع نيو مكسيكو بمرور الوقت، بحث أنّه حتى مع تقدّمه في حياته المهنية اللامعة في الفيزياء، عاد بانتظام إلى الولاية. وفي صيف عام 1928، ذهب هو وشقيقه الأصغر فرانك في رحلات لتعبئة الخيول في المنطقة، حتى أن أوبنهايمر استأجر كوخًا ريفيًا على مساحة 154 فدانًا في جبال سانجر دي كريستو، والذي اشتراه في نهاية المطاف عام 1947.
جان تاتلوك.. شخصية مؤثرة في حياة أوبنهايمر
من الجوانب المثيرة للاهتمام في حياة أوبنهايمر كذلك، النهاية المأساوية لجان تاتلوك، الطبيبة الأميركية النفسية والمتعاطفة مع الشيوعية، والتي ارتبطت بعلاقة عاطفية مع أوبنهايمر الذي عرض عليها الزواج مرتين، لكنّها رفضت.
وعندما فتح مكتب التحقيقات الفيدرالي ملف ارتباط أوبنهايمر بالمنظمات الشيوعية، بما في ذلك علاقته مع تاتلوك، راقب الـ"أف بي آي" أنشطتهما، ما أدى إلى انتحار تاتلوك في النهاية، بعدما عانت من اكتئاب سريري حاد.
معركة أوبنهايمر الخفية
بذكائه المذهل، حقّق أوبنهايمر إنجازات علمية ملحوظة، لكن تحت قشرة الإنجاز هذه، كافح مشاكل الصحة العقلية العميقة الجذور.
كان صراع أوبنهايمر مع الصحة العقلية شديدًا خلال الفترة التي قضاها في مختبر كافنديش في كامبريدج، حيث شعر بأنه محاصر في العمل المخبري الروتيني، والافتقار إلى الديناميكية في الفيزياء التجريبية. وقوبل شغفه بالفيزياء النظرية بمهام عادية، مما أدى به إلى الحضيض العاطفي.
ولم تنحسر تحديات الصحة العقلية لأوبنهايمر بعد كامبريدج، إذ فاقم دوره القيادي في مشروع مانهاتن وما تلاه من إنشاء القنبلة الذرية، مشاكله النفسية. وبعد تفجيرات هيروشيما وناغازاكي، واجه أوبنهايمر الدمار الهائل الذي ساهم فيه عمله العلمي، ما أدى به إلى دوامة من الذنب والندم.
وتسلّط هذه الفترة من حياته الضوء على الضغط الهائل والمعضلة الأخلاقية التي واجهها، ما دفعه إلى الاستقالة من مختبر لوس ألاموس، والانسحاب من العلن. وتجربته هي تذكير صارخ بأنّه حتى أكثر العقول ذكاءً يمكن أن تكافح مع الصحة العقلية، وتؤكد أهمية تفهّم ودعم أولئك الذين يتصارعون مع مثل هذه القضايا.
العدالة بعد الوفاة
بعد وفاته، استعاد أوبنهايمر تصريحه الأمني في أواخر عام 2022، وهي الخطوة التي بدأتها وزيرة الطاقة الأميركية جينيفر غرانهولم، وأدت فعليًا إلى إلغاء قرار لجنة الطاقة الذرية الأميركية الصادر عام 1954، والذي ألغى تصريح أوبنهايمر وسط مزاعم بوجود روابط بالشيوعية.
وأثّر إجراء لجنة الطاقة الذرية آنذاك بشكل كبير على حياة أوبنهايمر ومسيرته العلمية، ما أدى بشكل فعال إلى قطع مساهماته في المزيد من التقدم في الأبحاث النووية.
ويقدّم إلغاء قرار عام 1954 شكلًا من أشكال العدالة بأثر رجعي، مع الاعتراف بالهجمات الشخصية والسياسية غير العادلة التي كان على أوبنهايمر تحمّلها. ويُسلّط الضوء على الاعتراف الدائم بمساهمات أوبنهايمر الضخمة في العلم والعالم، بما في ذلك دوره كمدير لمشروع مانهاتن، حيث قاد فريقًا لتطوير القنبلة الذرية في 27 شهرًا مذهلًا.