ما إن دخل قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيّز التنفيذ حتى بدأت الاحتفالات في غزة والضفة الغربية وسائر المدن الفلسطينية بـ"نصرٍ" يقول الفلسطينيون إنّ فصائل المقاومة حسمته لصالحهم، بعد إفشال عدوانٍ استمرّ 11 يومًا.
ولا تقف حسابات المقاومة عند الحصيلة الثقيلة للعدوان، فقد أربكت صواريخها صفوف العدو واستهدفت مدنًا إسرائيلية وشلّت حركة الملاحة الجوية، حتى إنّ أحد الطيّارين الإسرائيليين أقرّ، بحسب ما نُقِل عنه، أنّ تدمير الأبراج كان هدفه رفع معنويات قوات جيش الاحتلال المحبطة.
ولعلّ من نقاط القوة التي راكمها الفلسطينيون خلال العدوان وبعده، أنّ كل التقسيمات الجغرافية والإيديولوجية سقطت، وتوحّد الفلسطينيون في الداخل والخارج خلف هدف واحد وهو إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطين عاصمتها القدس، وهي مطالب دعمتها مظاهرات في عواصم عدّة من أنحاء العالم.
ماذا بعد انتهاء العدوان على غزة؟
كانت البداية بهبّة شعبيّة فلسطينية انطلقت من القدس وانتقلت إلى غزة والضفة وتخطت الخط الأخضر، في مواجهات أشعلت فتيلها قرارات تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح وباب العامود في القدس المحتلة، لتخط فصلاً جديدًا في مواجهة الاستيطان.
وسرعان ما بدأت النتائج العملية تظهر في إعادة ترتيب الأوراق لدى المجتمع الدولي، من خلال تأكيد أممي على أن غزة جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، وإقرار من برلين التي دعمت تل أبيب خلال العدوان على أن الحل يكمن في تنفيذ القرارات الأممية.
كما أنّ حل الدولتين كأخفّ الأضرار الذي يميل إليه بايدن، فرضته أيضًا أصوات داخل الكونغرس وصفت إسرائيل بأنها دولة فصل عنصري، وقدّمت رواية مختلفة عن الرواية الإسرائيلية أمام المشرّعين الأميركيين.
وفي وقت تتصاعد فيه الأصوات بتحرير فلسطين كاملة -وهو ما لا ترغب واشنطن في العودة إليه- تُطرَح تساؤلات بالجملة من قبيل: ماذا بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة؟ هل نحن أمام بداية هدنة أم بداية مفاوضات؟ وهل استطاع الفلسطينيون إرساء قواعد جديدة في الصراع مع الاحتلال؟
أيام "حاسمة وحرجة" واختبار ميداني
يرى رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الأمة عدنان أبو عامر أننا أمام أيام "حاسمة وحَرِجة" بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار، الذي يصفه بـ"الهشّ" رغم رصد حالة من الحراك الميداني العاملة على تثبيته بشكل أو بآخر.
ويعتبر أبو عامر، في حديث إلى "العربي"، أنّ وقف إطلاق النار تم بجهود إقليمية ودولية كبيرة ولا سيما أميركية، لكنّه يشير إلى "أننا أمام اختبار حسّاس ميداني لوقف النار ومدى إمكانية صموده".
ويحذّر من بعض الخطوات الاستفزازية التي بدأ الاحتلال ينفذها، على غرار اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى بحماية الشرطة الإسرائيلية، وهو ما من شأنه "صبّ الزيت على نار التوتر"، ما يعني أنّ "وقف إطلاق النار قد لا يصمد كثيرًا في حال تجدد التوتر".
وإذ يعتبر أنّ الاحتلال لا يبدو متجرّعًا لمرارة الهزيمة التي مني بها حتى الآن، يشدّد على أنّ "الذي منع الاحتلال من استمرار العدوان هو صد المقاومة له، وهذا متفق عليه بين كل الفلسطينيين وحتى الإسرائيليين".
بلينكن يأتي "لتخفيف الضغط عن إسرائيل"
من جهتها، تلفت الإعلامية والباحثة في شؤون الشرق الأوسط عبير كايد إلى الحراك الدبلوماسيّ على خطّ جهود وقف إطلاق النار، إذ يصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى المنطقة يوم الأربعاء، وفي جعبته مقترح التهدئة.
لكنّ كايد تصف، في حديث إلى "العربي"، هذا المقترح بـ"الهشّ"، لأسباب عدّة، أهمّها "أننا أمام قضية عدالة اجتماعية وحقوق إنسان، في حين أنّ الولايات المتحدة شريكة في جرائم الحرب التي قادتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، وحتى في التمييز العنصري في أراضي 48".
وتشدّد كايد على أنّ المبدأ الأول في هذه المعادلة يكمن في أن "لا سلام مع استيطان"، معتبرة أنّ الشعب الفلسطيني لا يستطيع أن يعيش بسلام في ظلّ هذه المعطيات والوقائع، ولا سيما بعدما نجحت مقاومته في كسر مقولة "الجيش الذي لا يُقهَر" في إشارة إلى جيش الاحتلال.
وانطلاقًا من ذلك، تعتبر كايد أنّ بلينكن يأتي إلى المنطقة "لتخفيف الضغط عن إسرائيل وحماية أمنها"، معربة عن اعتقادها بأنّه "لا يوجد فعل أميركي جاد ودبلوماسي".
وحدة "تاريخية" للشعب الفلسطيني
أما عضو القائمة العربية المشتركة في الكنيست سامي أبو شحادة فيعتبر أنّه تمامًا كما أنّ العدوان بدأ من دون سبب يبرّر نشوبه، انتهى أيضًا من دون سبب واضح لذلك.
ويلفت أبو شحادة، في حديث إلى "العربي"، إلى أنّ ما ميّز مرحلة العدوان كان "الموقف التاريخي" للشعب الفلسطيني بوحدته غير المسبوقة، مذكّرًا بقرار الإضراب العام الذي خرج أولًا من مدينة يافا، ثمّ تمّ تبنّيه على مستوى فلسطين التاريخية.
وإذ يرى أنّ هذا الأمر "لم نشهد مثله منذ النكبة"، يضيف: "بالفعل كانت هناك هبّة جماهيرية من كل أبناء الشعب العربي الفلسطيني ضد الاعتداءات على أهلنا وإخوتنا في غزة".
ويشدّد على وجوب عدم تحميل المقاومة الفلسطينية ما لا تستطيع أن تتحمّله، لافتًا إلى عدم جواز المقارنة في موازين القوى بينها وبين إسرائيل. لكنّه يؤكد في الوقت نفسه أنّ المقاومة التي تقاتل بمقدراتها ومواردها حقّقت إنجازات، "وهذا أمر يعوّل عليه".