دخل سعد الحريري قصر الرئاسة أمس ليخرج هذه المرة من مأزق آخر أوقعته فيه السياسة: تشكيل الحكومة في لبنان.
أقل من نصف ساعة كانت كافية ليحسم قراره وليخبر الرئيس ميشال عون بالاعتذار، دون أن تملك البلاد ما يكفيها من الوقت لتستدرك فراغًا آخر تعلق فيه من جديد.
وعاد الحريري هذه الخطوة بحاجز الصدّ المنيع الذي أشهرته رئاسة الجمهورية في وجهه، بتمسك الرئيس عون بالثلث المعطل.
وقد أُهدرت تسعة أشهر أخرى من عمر الأزمة في لبنان لم يستطع خلالها الحريري تشكيل الحكومة، سينقل رئيس الجمهورية إلى البرلمان مرة أخرى مسألة الحكومة المتعثرة ليطلق دعوة جديدة للاستشارات النيابية.
فما البدائل المتاحة لتشكيل حكومة جديدة؟ وهل ذلك ممكن أصلًا في ظل حالة الانسداد السياسي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد؟ وما الدور الذي يمكن أن تضطلع به مجددًا القوى الدولية والإقليمية لمنع مزيد من الانهيار؟
"رئيس الجمهورية تعمد المناكفة"
يؤكد الكاتب الصحافي راشد فايد أن "الاعتذار عن عدم تشكيل الحكومة لم يكن خيار الرئيس الحريري المفضل لأنه هو من رشح نفسه لهذه المهمة، باعتباره المرشح الطبيعي لتشكيل الحكومة ولأنه رئيس أكبر كتلة نيابية سنية، ولأنه يرى في المبادرة الفرنسية المخرج الأنسب لما وصلت إليه البلاد من أحوال".
ويشير في حديث إلى "العربي" من بيروت، إلى أن الحريري أمضى 9 أشهر في محاولة تشكيل الحكومة وزار القصر الجمهوري أكثر من 20 مرة، وحمل أكثر من تشكيلتين أو ثلاث لكن رئيس الجمهورية تعمد المناكفة، بدليل أن القصر الجمهوري سرّب في بداية التكليف شريط فيديو يظهر فيه رئيس الجمهورية وهو يتحدث مع رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب ويصف الرئيس الحريري بأنه كاذب".
ويشدد على أن "هذا الأمر ينافي اللياقة والاحترام المتبادل بين الأناس العاديين، فكيف بالأمر بين رؤساء الجمهورية والحكومات وإن كانوا مكلفين؟".
ويلفت إلى أن عون عمد إلى مزيد من المناكفة بأن أوفد دراجًا حاملًا إلى الحريري تشكيلة يمليها عليه، فرفضها الرئيس المكلف، متحدثًا عن إساءة معنوية في ذلك للحريري.
وإذ ينفي بأن تكون المسألة شخصية، يذكّر بأن الرئيس عون يعارض اتفاق الطائف منذ البداية، مشيرًا إلى أنه "خاض حربًا لإسقاط هذا الاتفاق، فكان أن خرج من لبنان وذهب إلى فرنسا لاجئًا منفيًا".
ويضيف أن لعون "موقفًا من الحريرية السياسية ويعتبر أن الرئيس رفيق الحريري كانت له اليد الطولى في تكوين اتفاق الطائف الذي يعارضه، وهو يستأنف اليوم ما كان بدأه وفشل به في عام 1989".
إلى ذلك، يؤكد فايد أن "أي مرشح لتولي مهمة تشكيل الحكومة لن يستطيع النزول عن سقف الشروط التي وضعها الرئيس الحريري؛ أي لن يقبل بالثلث المعطل لأي طرف من الأطراف، وسيصر على حكومة أصحاب اختصاص، ولن يكون رئيسًا مكلفًا إذا لم يوافق الرئيس الحريري".
"ما جرى سببه تعنت الحريري"
في المقابل، يشدّد عضو المجلس السياسي في التيار الوطني الحر وليد الأشقر على أن الرئيس عون كان مسهلًا دائمًا لتشكيل حكومة، مذكرًا بأنه التزم بقرار الأكثرية النيابية التي سمّت سعد الحريري بغض النظر عن رأيه الشخصي بأدائه خلال الفترة السابقة.
ويوضح في حديث إلى "العربي" من بيروت، أن "ما جرى في الأشهر التسعة الأخيرة كان سببه تعنت الرئيس الحريري وتمسكه بتشكيل حكومة من وجهة نظره هو فقط، ودون التنسيق مع رئيس الجمهورية".
ويضيف بأن "آخرها كان النسخة التي قدمها لرئيس الجمهورية بالأمس معلنًا أنها مؤلفة من 24 وزيرًا، ورافضًا أن يناقشه بمضمونها رئيس الجمهورية؛ فإما أن يقبل بها أم يرفضها".
وإذ يؤكد أن "الدستور اللبناني واضح بهذا الشأن، وهو أعطى لرئيس الحكومة كما لرئيس الجمهورية حق التشاور معًا والتوقيع معًا على التشكيلة الحكومية"، يوضح أنه "لا يحق تاليًا للرئيس الحريري فرض شروطه على رئيس الجمهورية بأي تشكيلة".
ويلفت إلى أن الحريري نفسه كان شكل حكومتين في بداية عهد عون، وحينها كان التنسيق كاملًا بينهما، معتبرًا أن "المتغيرات الأساسية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم هي عند الرئيس الحريري وليس رئيس الجمهورية، ولا في الدستور الذي بقي كما هو أيضًا".
ويؤكد الأشقر أن رئيس الجمهورية سيدعو إلى الاستشارات النيابية الملزمة في الأيام القليلة المقبلة، لافتًا إلى أن فترة الانتظار لا يجب أن تطول.
ويضيف: "عن الأسماء لا أستطيع أن أجزم أن هناك اسمًا متوافقًا عليه حتى الساعة. لكن الطائفة السنية الكريمة تحمل بالتأكيد عددًا كبيرًا من الكفاءات. وهناك أرجحية لاسمين أو ثلاثة".
"المبادرة الفرنسية مستمرة"
من ناحيته، يشير أستاذ التواصل الاستراتيجي والعلاقات الحكومية نضال شقير إلى أن الجهود الفرنسية مستمرة، وكذلك المبادرة الفرنسية، لأنها في الأصل مبادرة إنقاذية.
ويؤكد في حديث إلى "العربي" من باريس، أن عملية الإنقاذ ستستمر وورقة الضغوطات لا تزال مستمرة أيضًا.
وإذ يشير إلى أن الوضع في لبنان يتأزم يومًا بعد يوم، يلفت إلى أن المشكلة من الداخل أكثر مما هي عليه من الخارج.
ويضيف أن "أوروبا وفرنسا تنظران إلى الطبقة السياسية اللبنانية على أنها فاسدة ولا تتمتع بالأهلية. حتى أنه ينظر إلى لبنان حاليًا باعتباره بلدًا فاشلًا".
ويشدد على أن المشكلة في لبنان كبيرة جدًا ويأتي في طليعتها النظام الطائفي المليء بالفساد، مؤكدًا أن أي حلول سريعة لن تؤدي إلى الخروج من هذه الأزمة.
ويردف بالإشارة إلى التوجه الفرنسي المدعوم من الأميركيين والأوروبيين بضرورة أن تكون هناك حكومة تقوم بأمرين أساسيين: محاولة القيام بالأعمال الإنقاذية والتخفيف من الارتطام الكبير، وإجراء انتخابات نيابية.
وفيما يشير إلى أن فرنسا تريد حكومة في أسرع وقت ممكن لمنع انهيارات أخرى، ومن بينها الانهيار الأمني، يتحدث عن تعويل كبير من جانب المجتمع الدولي ـ ولا سيما فرنسا ـ على نتيجة الانتخابات من حيث إمكانية حدوث تغيير في الطبقة السياسية.
وإذ يرى شقير أن كل الأطراف في لبنان معرقلة وإن اختلفت النسبة، يتحدث عن مسؤولية جماعية، لا سيما وأن البلد يغرق والوضع خطير جدًا.