أدت ليز تراس دور رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر في مسرحية مدرسية في سن السابعة من عمرها. حينها، أخفقت في كسب الاقتراع، لكنها بعد 40 عامًا حققت حلم الطفولة لتصبح زعيمة لحزب المحافظين وثالث سيدة في رئاسة الوزراء.
قبضت تراس على مفاتيح مبنى 10 داوننغ ستريت متفوقة على منافسها ريشي سوناك في انتخابات حزب المحافظين. وفي حقيبتها وعود متناقضة كشخصيتها، فهي سيدة مشهورة بتقلب مواقفها، حيث كانت من دعاة البقاء في الاتحاد الأوروبي واصفة بريكست بـ"المأساة الثلاثية"، لتنقل بعدها البندقية من كتف الرفض إلى كتف تأييد بريكست.
ليز تراس.. "وعود وردية"
معارض لليز تراس أم مؤيد لها، لا يهم. المهم بالنسبة إلى المواطن البريطاني تجاوز الأزمات المعيشية الكبيرة. لكنّ وعود تراس الوردية لا توحي بالثقة، فالخطط تستنسخ نفس برامج حزب العمال لخفض الضرائب ومنها ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5% والاستثمار في الطاقة والقطاع الصحي.
أمّا في التفاصيل فتكمن شياطين المصالح، فتراس تريد ميزانية لا تنفق على الأسر الأكثر احتياجًا لأن ذلك يثقل خزينة الدولة، كما تقول. وخفض الأعباء الضريبية لا يعني توزيع الإعانات على شعب سبق وأن وصفته بـ"أمة تركب الأوبر وتأكل الطعام عبر خدمة التوصيل".
وتحتاج خطط ليز تراس إلى اقتراض مبالغ كبيرة وتحميل الاقتصاد البريطاني مزيدًا من التكاليف ورفع سقف الدين الحكومي، حيث افتتحت ولايتها بهبوط الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى له منذ 37 عامًا.
إرهاق المستهلك البريطاني
أمّا بدائل الطاقة التي تقترحها فتنتجه لاستخراج النفط والغاز من بحر الشمال وبناء محطات طاقة نووية عوضًا عن تعزيز الطاقة المتجددة مع ما يعنيه ذلك من إرهاق فواتير المستهلك البريطاني الذي لا يعلم كيف يحل مشكلته الآنية لفصل الشتاء في ظل الحرب الروسية الأوكرانية.
وتراس جاهزة لقيادة بريطانيا بمزيج شخصيتها المثيرة للجدل وعلاقاتها المالية والتجارية والخارجية، فقد استبقت فوزها بتصويبها على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ولا تعرف ما إذا كان "صديقًا أم عدوًا"، حسبما قالت. لكن ماكرون يرفع في وجهها لواء "التضامن الأوروبي" في مجال الطاقة وشراء الغاز.
ولم تسهل تراس - على ما يبدو - على ماكرون مهمة زعامة فرنسا لأوروبا عبر مخزون الطاقة. أمّا سياستها عندما كانت وزيرة اتسمت بالتشدد ضد روسيا، فكيف ستكون عندما تصبح رئيسة للوزراء؟.
"لا ثقة بحكام بريطانيا"
وتعليقًا على انتخاب تراس لقيادة حزب المحافظين، يرى الباحث في العلاقات الدولية أحمد عجاج أن "الشعب البريطاني لم يعد لديه ثقة في الطبقة السياسية نتيجة لأخطاء وتراكمات كثيرة ارتكبها الحكام على مدار السنوات الماضية".
ويوضح في حديث إلى "العربي" من لندن، أنّ الحكومة التي يقودها حزب المحافظين منذ 12 عامًا "لم تستطع إيصال الوعود إلى الشعب وتطبيقها"، لا سيّما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي والوقوع في أزمة داخل بريطانيا.
ويعتبر أن الأزمة نشبت في بريطانيا نتيجة للخروج من الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية وما نتج عن ذلك من عوامل أخرى أثرت على الاقتصاد البريطاني.
ويشير إلى أنّ تلك الأزمات التي تعيشها بريطانيا "بحاجة إلى مهمة جبارة وكبيرة تشبه ما قامت به رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت هناك إضرابات عمالية وعدم تقنين الكهرباء وتضخم هائل وديون كبيرة، لافتًا أن الظروف الحالية تشبه الوضع الماضي.
وإذ يلفت إلى أن تصريحات ووعود ليز تراس بشأن تحسين الأوضاع الاقتصادية "يجب أن تحصل"، يسلط الضوء على "صعوبة تحقيقها على أرض الواقع" نتيجة للأزمة العميقة والصعوبات الكبيرة التي تعترض طريقها في رئاسة الوزراء.
"أزمة الطاقة توحد أوروبا"
وبالنسبة إلى العلاقة المنتظرة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بعد فوز تراس، يشير المحاضر في جامعة هايدلبرغ الألمانية تقادم الخطيب إلى أنّ ما يهم برلين على وجه الخصوص هو "الوحدة في الموقف" جراء التهديدات المتعلقة بملف الطاقة.
ويعتبر الخطيب في حديث إلى "العربي" من برلين، أن الإشكال في العلاقات بين بريطانيا والأوروبيين يأتي دائمًا من لندن التي ترى نفسها أنها ليست جزءًا من الاتحاد الأوروبي، لكنه يؤكد أن مسألة الطاقة والأمن يوجد بشأنها "وحدة أوروبية وبريطانية".
وإذ يرى أنّ مسألة الطاقة ستفتح المجال أمام التوافق أكثر بين لندن وبرلين وباقي دول التكتل الأوروبي، لا سيما في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وتبني تراس لمواقف متشددة ومتقاربة مع الموقف الأميركي أيضًا من تلك الحرب.
ويلفت إلى أن الإشكالات الداخلية فيما يتعلق بملف الطاقة سواء في بريطانيا أو ألمانيا أو دول الاتحاد الأوروبي ككل هي أكبر من هذه الدول، باعتبار أنها لا تزال تعيش على تداعيات الوباء والتضخم والحرب.
ويعتبر أن الدول الأوروبية وبريطانيا ستعمل على "مد جسور التواصل" أكثر في ظل وجود "عدو مشترك"، لا سيّما الأزمة المتواصلة مع روسيا.
تواصل العلاقات مع باريس
من جانبه، يتوقع أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جنيف حسني عبيدي أن تتعامل رئيسة الوزراء البريطانية المقبلة مع الرئيس إيمانويل ماكرون على الرغم من تصريحاتها الأخيرة أثناء حملتها الانتخابية، مذكّرًا بأن العلاقات بين بوريس جونسون وماكرون "لم تكن على ما يرام".
ويرى في حديث إلى "العربي" من باريس، أنّ الموقف الأوروبي لخصته رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين التي تحدثت عن التطلع إلى تعاون رئيسة الوزراء الجديدة لا سيّما في الاتفاقية بين التكتل الأوروبي وبريطانيا.
ويخلص إلى أنّ "من مصلحة فرنسا أن تكون هناك علاقات جيدة مع لندن باعتبار أن رئيسة الوزراء الجديدة هي تكملة لحزب المحافظين"، في ضوء العلاقات بين اليمين الفرنسي ونظيره البريطاني.