أبقت المحاكمة، التي عُدّت الأكبر في تاريخ ألمانيا منذ توحيد شطريها، على الأسئلة مفتوحة، كما على جراح أهالي الضحايا طرية لا تندمل.
شملت المحاكمة 250 جلسة خلال سبعة أعوام، و600 شاهد و95 مدعيًا، و40 مخبرًا سريًا وأطنانًا من الورق والصور، فضلًا عن عشرات المتهمين من النازيين.
وجاءت "محكامة القرن"، عقب الإعلان في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 عن انتحار عضوين في خلية عرفت باسم خلية النازيين الجدد NSU، وهو ما شكل بداية الخيط لاكتشاف سلسلة من الجرائم ارتكبتها الخلية بين عامَي 2000 و2006، وراح ضحيتها 9 مهاجرين وشرطية ألمانية.
فبعد أربعة أيام من انتحار أوفه بونهارت وأوفه موندلوز سلّمت عضوة ثالثة تُدعى بياته تشيبه نفسها للسلطات. وفي السادس من شهر مايو/ أيار 2013، انطلقت المحاكمة.
"عقبات وعراقيل وتكتم"
يؤكد غابرييل فولغاريديس، شقيق أحد الضحايا أن أسئلة كثيرة ما زالت من دون إجابات، معتبرًا أن ما حدث كان اتفاقًا، و"نحن لا نعرف لماذا قُتل أخي ولماذا قُتل الآخرون".
ويرى أن مشكلة العنصرية في ألمانيا تزداد حدة، مشيرًا إلى تمدّد الأوساط اليمينية المتطرفة مثل السرطان.
ويستذكر غابرييل شقيقه الذي يصفه بـ"الإنسان الجيد"، مؤكدًا أن كل الضحايا كانوا أشخاصًا طيبين.
ويسأل: "لماذا يُقتل شخص يعمل في محل للمفاتيح أو صاحب كشك أو بائع شاورما، لماذا يُقتل أرباب عائلات يواظبون على دفع الضرائب ويعيشون بسلام وانتظام في هذا المجتمع؟".
يروي غابرييل كيف تبلّغ خبر مقتل شقيقه في متجره، ثم يشدد على أن ما حدث أكبر من المعلن، موضحًا أن كل ما شاهده لغاية الآن هو عقبات أمام التحقيقات وعراقيل وتكتم.
ويتساءل: "كيف يتوفى من خمسة إلى ستة شهود مهمين؛ أحدهم كان مريضًا بالسكري، وآخر توفي إثر تزحلقه في الحمام، وثالث أضرمت النار به في سيارته؟".
وبينما يعتبر أن شقيقه كان ليبقى على قيد الحياة لو تم التحري بشكل جيد، يستذكر كيف ذهبت تحقيقات الشرطة في أعقاب الجريمة باتجاه المافيا وتجارة المخدرات والدعارة، وباتجاه قيام شقيقه في إحدى المرات بالسفر إلى بلغاريا، أو ارتكابه بعض الزلات في شبابه.
ويشير إلى تحقيق الشرطة في الأوساط العائلية للضحايا، متحدثًا عما عرفه لاحقًا حول تنصت الشرطة على هواتف عائلته.
ويذكّر بشائعات ترددت بعد حدوث الجرائم عن أن القتلى أجانب، وربما تقف عائلاتهم وراء مقتلهم"، لافتًا إلى أن كثيرين يعملون في هذا البلد منذ عشرات السنين، وبعد هذه الجرائم حزموا حقائبهم.
"مشكلتنا تتعلق بعنصرية ممنهجة"
من ناحيتها، تلفت تبيترا باو، القيادية في حزب اليسار، إلى أن الموضوع كان واضحًا على الفور من حيث أنه لا يتعلق بفشل الدولة، بل أيضًا بفشل المجتمع.
وتروي عن تسلمها المهمة عند تعيين لجنة برلمانية للتحقيق في ما حدث، وتوضح "أننا اكتشفنا كبرلمانيين أن الاخفاقات لم تحدث بسبب أعطال معلنة، بل بسبب مشاكل هيكلية في أجهزة المخابرات وأيضًا في جمهورية ألمانيا بشكل عام". وتردف: "لقد ثبتنا أن مشكلتنا تتعلق بعنصرية ممنهجة".
وتلفت إلى أن التحريات على سبيل المثال أُجريت في غضون عشرة أعوام في أوساط عائلات الضحايا فقط، وهو ما حوّلهم بشكل أو بآخر إلى متهمين، مؤكدة أن للأمر علاقة بالأحكام المسبقة الممنهجة.
وتقول إنّ أحد التحقيقات التي أجراها جهاز المخابرات في ولاية بادن فورتمبرغ توصّل إلى نتيجة تفيد بأن العنف الذي تم من خلاله تنفيذ الجرائم لا يتناسب مع الثقافة الأوروبية"، سائلة: "ماذا يعني ذلك؟".
وتشير إلى أنه عند شيوع خبر العثور على جثتي النازيين في إحدى المقطورات في مدينة آيزناخ ومحاولة العضو الثالث في خلية "إن إس يو" تفجير الشقة السكنية، لم يكن لدينا أي تصور عن حجم هذه القضية.
وتردف بالقول: "كنت أعرف أن الإرهاب اليميني جزء من تاريخ ألمانيا، ولكن أن تتمكن هذه الخلية من الانتقال من مكان إلى آخر في ألمانيا وأن ترتكب جرائمها، هذا الأمر لم يكن واضحًا في حينها"، وتلفت إلى "أننا عرفنا عندما ظهر الفيديو الذي اعترف فيه المذنبون بجرائمهم، أن الحديث يدور عن جرائم بشعة".
وتعبّر باو عن غضبها، لأن المحققين ركّزوا بسرعة على فرضية اتهام الثلاثي الأساسي في خلية "إن إس أو" بارتكاب هذه الجرائم، وعلى أن الحديث يدور حول جرائم فردية، ولأنه لم يتم لغاية الآن الكشف عن الشبكة التي دعمت هذا الثلاثي في ارتكاب الجرائم.
"أمر معيب للقضاء الألماني"
بدوره، يصف أحمد كولاشي، رئيس تحرير صحيفة "حريات" التركية، ما شاهده في الجلسة النهائية للمحكمة؛ من حيث تصفيق اليمينيين المتطرفين للجناة أمام القضاة، بالأمر المعيب للقضاء الألماني.
برأيه، كثيرون وليس فقط عائلات الضحايا، بل بشكل عام مواطنون ألمان من أصول تركية، فقدوا ثقتهم في القضاء والشرطة والمخابرات، حيث يؤكد أن هذه الجرائم ساهمت في تعميق الشعور بعدم الثقة في الشرطة والقضاء.
ويشير إلى أن الحكومة حظرت الاطلاع على جميع الأوراق لمدة 100 عام، ثم تم تخفيض المدة إلى 30 عامًا.
وبينما يذكر بأن المستشارة الألمانية السابق أنغيلا ميركل كانت قد وعدت بإسم الحكومة الألمانية، بأنها ستفعل كل شيء لإيضاح جميع ملابسات هذه الجرائم، يقول: "أعتقد أن السيدة ميركل حاولت ذلك، ولكن هذا في النهاية لم يحدث".
إلى ذلك، يشير أنور أوزاتا، أحد محامي الضحايا، إلى أنه كانت هناك مؤشرات على وقوف يمينيين متطرفين وراء هذه الجرائم، مذكّرًا بأن مجرد اختيار الضحايا بحسب معايير معينة إشارة مقّنعة، وهم جميع تقريبًا كانوا من أصول تركية.
ويعتبر أن الأكثر إيلامًا في هذه القضية هو أن السلطات لم تُصغ لأهالي الضحايا، وهذا ينطبق على عدم الإصغاء لهم أمام المحكمة"، موضحًا أن "النيابة العامة الألمانية حاولت بطريقة ممنهجة عرقلة التحقيقات من خلال رفضها مبادرات للأهالي وتقديم دلائل".
وفيما يصف بـ"الفضيحة"، رفض إيضاح ملابسات قضية تتعلق بسلسلة جرائم يمينية متطرفة لا مثيل لها في ألمانيا، وعدم أخذها على محمل الجد، يقول: "إذا كنا نعتبر أنفسنا دولة قانون ديمقراطية تسعى إلى إظهار الحقائق والتعلم من الأخطاء، فعلى هذه الدولة تقديم وثائق التحقيق والمحاكمة، لأن الضحايا لهم الحق في معرفة من قتل أقاربهم، ولماذا قتلوهم وما هي الأخطاء التي ارتكبتها السلطات".
توثيق الأماكن.. وساحة أنور شيمشيك
بدورها، قامت المصوّرة ريغينه شميكن بتوثيق مكان جرائم النازيين. وتروي كيف دُهشت عندما بدأت عام 2013 تصوير أماكن ارتكاب هذه الجرائم الموزعة في جميع أنحاء ألمانيا، في أماكن ومدن عادية؛ مثل محل لبيع الورود أو كشك أو محل للخياطة.
وترى أنه تم - بكل ما للكلمة من معنى - إعدام الضحايا، حيث تم العثور عليهم مستلقين على الأرض وسط الدماء، لافتة إلى أنها أرادت أن تعكس حقيقة ما شهده المكان، وأنها تركت للصورة أن تنقل الإحساس الحقيقي.
وتردف: "أردت من خلال صوري القول للناس أنظروا، هنا حدثت جريمة". وتسأل: لماذا بقيت الحلقات لفترة طويلة مجهولة، فنحن نعرف أن التحقيقات تعطلت أكثر من مرة وكانت ربما بطيئة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تم تفسير المعلومات المتوفرة بطريقة خاطئة واتهام ذوي الضحايا بالتورط في هذه الجرائم لدرجة أن الصحافة كانت تصفها بجرائم الشاورما" أو "جرائم الكباب".
في مدينة نورنبرغ، أُطلق إسم أولى ضحايا خلية النازيين، أنور شيمشيك، على إحدى الساحات التي قُتل فيها. يقول نجله عبدالكريم سيمشيك، إنه سعيد بهذه الخطوة. ويشير إلى أنه كان يرافق والده إلى هذه الساحة التي اعتاد اللعب فيها ليساعده في بيع الورود، لذا فإن علاقة خاصة تربطه بها، ويؤكد أهمية ألا ننسى الضحايا وذويهم، والمواظبة على التذكير بهم.
من جانبه، يقول عمدة مدينة نورنبرغ، ماركوس كونيغ، "نحن نعترف الآن بأننا أثقلنا على عائلات الضحايا، ووجهنا الاتهامات لهم جزافًا. هذا الدرس يجب علينا تعلمه".