تقف دولة الاحتلال اليوم عاجزة أمام مخيم جنين. ففيما فشلت في تطويعه عبر ممارسات ترغيبية، ليس بمقدورها ضبط المقاومة داخله. بموازاة ذلك، تتصاعد المقاومة وتخرج خارج حدود المخيم، مقدمةً نموذجًا نضاليًا يلهم الشباب الفلسطيني.
فما الذي يجري في هذا المخيم، الذي يُعد ثاني أكبر مخيمات الضفة الغربية وأقربها من الأراضي المحتلة عام 1948 وشكل أحد عناوين ورمزيات الانتفاضة الثانية، وكيف عاد ليكون اليوم أيقونة المقاومة في عموم فلسطين، وكيف يفكر المستوى الأمني والعسكري لدولة الاحتلال في التعامل مع هذا الواقع؟
مواجهة يومية مع الاحتلال
يعيش الفلسطينيون في مواجهة يومية مع الاحتلال؛ ففي القدس ثمة نشاط تهويدي وصل إلى درجة غير مسبوقة، وفي الضفة وغزة تستخدم الآلة العسكرية القوة المفرطة ضد الشعب الفلسطيني.
في الوقت نفسه، تعيش السلطة الفلسطينية تحت ضغط إسرائيلي اقتصادي وأمني، وتحت ضغط الوقت الذي يتسارع مع عدم معرفة شكل السلطة بعد محمود عباس.
وتفيد تقديرات الأجهزة الأمنية بأن السلطة لن تتمكن من إعادة مكانتها بسبب فقدان شرعيتها في الشارع الفلسطيني، وهو ما سيؤدي إلى استمرار حالة الفراغ والفوضى.
إلى ذلك، يصف مسؤول التقييم الإستراتيجي في معهد الأمن القومي الإسرائيلي التحوّل الذي يجري في مخيم جنين بقوله "قطاع غزة مركز ثقل، وجنين المركز الآخر".
وكان المخيم قد شهد صبيحة يوم 13 مايو/ أيار 2022 عملية اقتحام نفذتها قوة من وحدة "اليمام" الخاصة لاعتقال محمود الدبعي.
خرج يومها المقاومون لصد الاقتحام واشتبكوا مع القوة المقتحمة لأكثر من 6 ساعات متواصلة، فقُتل ضابط كبير من الوحدة في الاشتباك، الذي وقع بعد سنوات طويلة من تنفيذ سياسة "كي الوعي"، التي تبناها شاؤول موفاز، رئيس أركان جيش الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية.
كتيبة جنين نواة المواجهة
عبّر الإعلان عن تشكل كتيبة جنين عبر بيان الكتيبة العسكرية الأول عن استعداد مقاومي المخيم للانضمام إلى معركة الأسرى باحتضانهم في المخيم والدفاع عنهم، وعن نواة لحراك لمواجهة الاقتحامات، ومدخلًا لعهد جديد لمخيم جنين وللضفة الغربية عمومًا.
فمنذ تلك اللحظة، بدأ عدد من المقاومين من داخل المخيم بتنفيذ عمليات في الداخل المحتل.
يقول مقاتل من كتائب شهداء الأقصى، كتيبة مخيم جنين: إن "المقاتل الفلسطيني هو أغلى ما نملك"، مشددًا على أن المقاتل داخل المخيم "يبحث عن النصر والكرامة والحرية قبل الموت، لكن الجرائم الإسرائيلية هي من تقوم بإعدام الأهداف بدم بارد".
ويلفت إلى أن الروح القتالية التي تتجسد في الشبان المقاتلين عالية وغريزية، وتكوّنت في شخصياتهم.
ويشير إلى وجود 18 ألف مقاتل في مخيم جنين، مؤكدًا أن كلًا منهم يقاتل على طريقته الخاصة.
ويوضح أن المقاتلين المسلحين يعيشون حياة روتينية طبيعية، ويجهزون عتادهم ويتخذون أماكنهم في غضون 5 دقائق لدى رصد معلومات عن هجوم قوات الاحتلال على المخيم، للتصدي وحماية أبناء شعبهم.
ويردف بأن هناك من يشارك أيضًا بالحجارة، وآخرون بالمولوتوف والعبوات المحلية وبالدعاء..
من ناحيته، يشير المقاتل من "سرايا القدس"، كتيبة مخيم جنين، إلى أن كل شاب في مخيم جنين متى بلغ الرشد وبات قادرًا على اتخاذ القرار، يقرر القتال في سبيل الله.
ويلفت إلى أن اجتياح المخيم حصل عندما كان هو في التاسعة من عمره، ثم سُجن للمرة الأولى في السابعة عشرة.
ويستذكر أحداث غزة عام 2012، فيلفت إلى توجه الشبان إلى نقاط التماس في الجلمة، لإلقاء الحجارة على الحواجز وعلى جنود الاحتلال.
"كنت أعلم أن الثمن باهظًا"
بعد اتصالات مكثّفة ومحاولات تنسيق متواصلة، استطاع "العربي" وبسرية تامة الوصول إلى الشخصية، التي برزت في مخيم جنين وبات أحد أهم المطلوبين للاحتلال اليوم: أبو رعد حازم، والد الشهيدين رعد حازم منفذ عملية تل أبيب في أبريل الماضي، وعبد الرحمن حازم.
يروي الرجل كيف تبلغ نبأ استشهاد نجله من أحد أبنائه، فيقول: "بكيت في اللحظة الأولى بكاء أب على ابنه".
ويردف بأن هاتفه رن بعد ذلك، فأجاب دون أن يشاهد جهة الاتصال، فجاءه صوت يقول له: "على ما يبدو أنه قد وصلك الخبر، سلم نفسك".
ويستطرد بالإشارة إلى تفاصيل المكالمة التي اشترط فيها تسليم نفسه بتسليمه جثمان ابنه لدفنه ورثائه كما يُرثى الشهداء، ثم المكالمة الثالثة حيث قرر أنه لن يسلم نفسه أبدًا، وجاء ذلك عقب محاولة الاحتلال اغتيال زوجته وابنيه عبد الرحمن وآدم ذي الست سنوات، واستشهد الطفل محمد زكارنة الذي كان على دراجته الهوائية ثم ترجل ضابط القوة من المركبة وأطلق النار بشكل مباشر عليه.
يقول فتحي حازم: "سُجنت ثلاث مرات طوال حياتي منذ عام 1982 وحتى 1993، وطوردت من قبل الاحتلال ثلاث مرات وأعرف معنى السجن والزنازين والتعذيب وما معنى أن يحيى الإنسان مطاردًا يقضي الليل وحيدًا في أزقة يرقب فيها كل لحظة أن يُغتال أو أن يُأسر أو أن يجرح ويُطلق عليه النار ويجرح".
ويردف: "كنت أعلم أن الثمن باهظًا، وأنني لست ابن 24 ربيعًا بل ابن 56 عامًا، وأن العمر والجسد ما عادا يحتملان المطاردة. ولكني قررت أن أقارع عدوًا أجرم وبالغ في إجرامه تجاه شعبي".
برأي حازم، سر مخيم جنين هو وحدته ووحدة مقاتليه ووحدة اجتماعه، حيث يلفت إلى أن ما يراه اليوم في المخيم هو ما يريده كل عاقل، من حيث أن تكون كلمة المقاتلين واحدة وصفهم واحد.
ويشير إلى أنه يحاول اليوم أن يمثل هذه الوحدة، دون أن يكون قائدًا أو موجهًا ولا حتى ملهمًا، بل يمثل صورة الأب لهؤلاء المقاتلين، معربًا عن أمله في أن تشتعل الضفة كلها في وجه المحتل.
الأيقونة والحالة الاستثنائية
يوضح الباحث إبراهيم ربايعة، أن جنين كانت المدينة الوحيدة في فلسطين، التي سقطت عام 1948 وأُعيد تحريرها، وهو الأمر الذي يعطيها برأيه حالة استثنائية في تلك المرحلة في سياق الهزيمة العام.
ويشير إلى أن هذا الموضوع استمر بالتدريج لتكون جنين بعد عام 1965 من المناطق التي اختارتها الثورة الفلسطينية لتشكل فيها الخلايا الأولى. ويشرح أن كل ذلك لم يأت بالصدفة، بل بسبب التراكم وتوارث الفكر المقاوم والرافض للاحتلال.
برأي ربايعة، "هذه الحالة بلا قيادة وفيها شيء من العشوائية المنظمة إن صح التعبير، فضلًا عن تراكمية ومصادر تعبئة على غرار الشهداء والرموز.
ويشدد على أن "هذه الحالة مستمرة ما دام الاحتلال مستمرًا؛ تصعد أحيانًا وتخبو أحيانًا"، لافتًا إلى أن هذا الواقع يعتمد على أمرين: الحالة الفلسطينية الداخلية والقدرة على التماسك والتنظيم الداخلي من جهة، وإسرائيل وتدخلاتها وطبيعة تدخلاتها من جهة أخرى.
من جانبه، يؤكد جمال حويل، القيادي الميداني في معركة مخيم جنين عام 2002، أن مخيم جنين أصبح أيقونة ومنارة وهداية لكل إنسان يقاوم الاحتلال والظلم والاضطهاد.
ويعتبر أن المخيم في سياقه العسكري والأمني والتاريخي والاجتماعي استطاع أن يشكل مقاومة باسلة لهذا الاحتلال عنوانها الأعرض: نحن في المخيم لاجئون: لجأنا مرة واحدة ولن نكرر اللجوء إلا العودة إلى حيفا ويافا وعكا وصفد وكل مكان محتل في فلسطين المحتلة، وأن أبناء هذا المخيم ليسوا لقمة سائغة لهذا الاحتلال يمضغها متى يشاء، وبأن هذا الاحتلال كلما دخل هذا المخيم يجب أن يدفع الثمن.
ويشدد على أن مخيم جنين يقاتل الآن ليس فقط نيابة عن الشعب الفلسطيني والأمة العربية، ولكنه في مواجهة المشروع الأميركي والشرق أوسطي الكبير.
ويذكر بأن ذاك المشروع "هدفه الرئيسي القضاء على القضية الوطنية الفلسطينية، لأن النقيض الرئيسي للحركة الصهيونية ومشروعها هو الشعب الفلسطيني ووجوده على هذه الأرض".
مخيم جنين "الرقم الصعب"
من ناحيته، يتعامل الاحتلال عبر المستوى الرسمي والأمني مع مخيم جنين على أنه الرقم الصعب في الضفة.
ولمجرد اقتحامه توضع الخطط التي يُتوقع خلالها وقوع إصابات وقتلى في صفوف جيش الاحتلال، فأغلب الاقتحامات التي وقعت في المخيم كان الجنود يتلقون فيها إصابات بالغة.
وتنقَل عن ضباط وجنود الاحتلال شهاداتهم في هذا الصدد، فيقول أحد الجنود الذين شاركوا في معركة مخيم جنين عام 2002: وصلنا بداية إلى معسكر "إليكيم" للتدريب قبل أيام من مهاجمة جنين، لكننا لم نكن نعلم أن مخيم جنين جاهز بمهنية وكفاءة حتى وصلناه بعد أيام.
يضيف جندي الاحتلال "وجدنا مقاتلين مدربين ومسلحين ومجربين. توقعنا إطلاق نار عشوائي، لكن لم نتوقع مقاومة منسقة وناجعة داخل المخيم، واكتشفنا أن التقديرات الاستخباراتية لم تكتشف ما ينتظرنا".
بدوره، يشير ضابط في جيش الاحتلال إلى أنه "يخدم في الجيش منذ عشرين عامًا، وشارك في اجتياح الضفة وفي حرب لبنان الثانية وفي الرصاص المصبوب ضد غزة وخاض جميع المعارك".
لكنه يتدرك بالقول إنها "لا تقارب ما واجهنا اليوم في جنين، جررنا المركبات العسكرية ودواليبها معطبة كيلا نضطر للعودة إلى جنين. ومن حسن حظنا أن الزجاج كان مضادًا للرصاص".
المزيد من شهادات جنود الاحتلال عن اقتحاماتهم لمخيم جنين وتصدي الشبان الفلسطينيين لهم، في الحلقة المرفقة من برنامج "عين المكان".