في 20 مارس/آذار 2003، أطلقت الولايات المتحدة آخر معاركها الكبرى في العقود الأخيرة، أو ما عُرِف بـ"غزو العراق". مَلأَ مئات الآلاف من جنود وضباط الجيش الأميركي، مدعومين بقوات دولية، أرض وسماء العراق وليس لديهم جميعًا إلا مهمتين واضحتين: إسقاط النظام وصدامه والحصول على أسلحة الدمار الشامل.
تحقّقت الأولى دون عناء كبير، ومرّ عام تلو عام ولم يعثر أحد حتى اليوم على تلك الأسلحة. ستمرّ سنوات قبل أن يعلن قادة الحرب الأميركية ومهندسوها بشكل واضح: "لقد كنّا مخطئين. لم تكن هناك أسلحة نووية في العراق"، حتى إنّ كولن باول، وزير الخارجية السابق، سيعتبر أنّ خطابه الشهير أمام الأمم المتحدة لإقناع العالم بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل كان "وصمة عار" في تاريخه.
باختصار، كشف واقع الحرب مدى التزوير الذي حدث في التمهيد لغزو العراق، والذي وُصِف بأنه أكبر عملية تضليل مارستها أميركا، حتى إنّ قادة أميركا السابقين واللاحقين قالوا إنّ هذه الحرب كانت خاطئة، فبين ثنايا مذكراته التي أطلقها الرئيس السابق باراك أوباما مؤخّرًا، وجّه نقدًا شديدًا لقادة الحرب، التي وصفها بالحرب "الغبيّة".
"الحرب على الإرهاب".. بحثًا عن نصر سياسي
ما بين قرار الحرب وسقوط بغداد، كثير من التفاصيل التي كانت خلف الكواليس لا يزال بعضها طيّ الكتمان، إلا أنّ مذكّرات قادة الحرب تظلّ أهمّ مصدر لتلك الحقبة، وعلى رأسها ما كتبه كل من كولن باول ودونالد رامسفيلد، الشخصيتين الأهم في صناعة قرار الحرب على العراق.
كان باول وزير الخارجية وحامل رسالة تسويق الحرب للعالم، فيما كان دونالد رامسفيلد وزيرًا للدفاع وقائد الجيش الذي أسقط حكم صدام، في إطار ما سُمّيت بـ"الحرب على الإرهاب"، التي أطلقتها الولايات المتحدة على خلفية أحداث 11 سبتمبر 2001.
فقد مثّلت أحداث سبتمبر الشهيرة، صفعة قوية هدّدت مستقبل الرئيس السابق جورج بوش السياسي، وأنذرت بأفول حظه في انتخابات رئاسية قادمة، ومن ثمّ كان عليه أن يبحث عن نصر سياسي سريع يرمّم به شعبيته المتصدّعة. فكان الحل في الشرق الأوسط، في أفغانستان، ومن ثمّ في العراق.
رامسفيلد.. بوش طلب خيارات "إبداعية"
يقول دونالد رامسفيلد في مذكراته إن جورج بوش طلب منه في 27 سبتمبر، أي بعد 15 يومًا من أحداث 11 سبتمبر، الانضمام إليه في المكتب البيضاوي وحده، حيث طالبه بوش يومها بخيارات "إبداعية"، الأمر الذي فهم منه رامسفيلد أنّ الرئيس الأميركي يريد شيئًا مختلفًا عن القوة البرية الهائلة التي تمّ تجميعها خلال حرب الخليج الثانية عام 1991.
أما صاحب فكرة "غزو العراق"، فيقول وزير الدفاع الأميركي إنها لم تكن من بنات أفكاره، إنما اقترحها مساعده آنذاك بول ولفويتس أحد أبرز الصقور في إدارة الرئيس بوش الإبن، وهو رئيس سابق للبنك الدولي، الرجل الذي أصبح يُعرَف لاحقًا على أنه مهندس حرب العراق، ويقول إنها جاءت في سياق اجتماع بمنتجع كامب دايفيد الرئاسي بعد وقت قصير من وقوع الهجمات.
وفي مذكراته، يشير رامسفيلد أيضًا، إلى لقاءاته المتعددة بقادة دول عربية في الخليج وشمال إفريقيا ويقول إنه تلقى رسالة تكررت على مسامعه كثيرًا، منهم "إذا طاردت صدام فافعل ذلك بسرعة".
أين مبرّرات الحرب؟
من جهتها، تكشف كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي للرئيس بوش، في مذكراتها، أنه بعد أيام قليلة من أحداث 11 سبتمبر، كان فريق الأمن القومي للرئيس بوش يتحدّث بكثرة عن ضرورة غزو العراق، وكانت نقطة الاعتراض الأساسية إيجاد مبرّر للحرب من خلال الربط بين الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل التي يسعى صدام حسين لامتلاكها، لكنّ المجلس، كما تقول، وجد أنّ الوقت غير مناسب حينها.
لكنّ قرار الحرب كان قد اتُخِذ في أروقة البيت الأبيض. وفي خطاب حالة الاتحاد في 28 يناير/كانون الثاني 2003، حدّد الرئيس الأميركي جورج بوش الإبن مبرّرات الغزو الأميركي للعراق، مؤكدًا أنه لن يسمح لصدام بالسيطرة على منطقة حيوية يهدد من خلالها الولايات المتحدة، على حدّ قوله.
وفي مذكراته التي جاءت بعنوان "في قلب العاصفة"، ألقى جورج تينت مدير الاستخبارات الأميركية بتصريح كان له دويّ القنبلة، قائلًا إنّه تمّ إقحام 16 كلمة في ذلك الخطاب تزعم أنّ صدام حسين سعى لشراء اليورانيوم من إفريقيا، وأنّ بوش قال عقب الخطاب إنّ الأمر مؤكّد في كلمة اشتهر بها فيما بعد.
يوم "محفور في ذاكرة" كولن باول
ومن أجل حشد المزيد من الدعم الدولي وزيادة الضغوط على صدام، قرر بوش في فبراير/شباط 2003 تقديم الولايات المتحدة عرضًا رئيسيًا في مجلس الأمن حول التهديد الذي يشكله العراق بتحديه لقرارات الأمم المتحدة، وكان الشخص الرئيسي الذي وقع عليه الاختيار لتقديم ذلك العرض هو كولن باول وزير الخارجية والذي ألقى خطابه الشهير أمام قادة العالم وساق فيه الحجج الأميركية لغزو العراق، وكانت حجّته الأكبر آنذاك امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.
بعد سنوات، سيكتب كولن باول عن ذلك اللقاء الشهير، إذ يعتبره في مذكراته "وصمة عار" شكلت عبئًا ثقيلًا على تاريخه السياسي. ويضيف: "بالرغم من مرور سنوات على خطابي الشهير، أو الخطاب السيء السمعة الذي ألقيته في الأمم المتحدة أمام العالم عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، فإنني غالبًا ما أُسأل عن هذا الخطاب يوميًا أو أقرأ عنه في الصحف دائمًا".
ويتابع باول: "الخامس من فبراير 2003 هو يوم محفور في ذاكرتي بحروف من نار مثل يوم ميلادي تمامًا، وسيكون هذا الحدث بعد وفاتي هو الفقرة الأبرز من فقرات نعيي في الصحف. هل هو وصمة عار في سجلك الوظيفي وسيرتك الذاتية؟ هكذا سألتني باربرا وولترز في أول مقابلة رئيسية معها بعد مغادرتي موقعي الرسمي في وزارة الخارجية الأميركية. أجبت: نعم. ما تمّ قد تمّ، ليس في مقدوري منعه الآن، أو الحيلولة دون منعه في الماضي، فقد انتهى الأمر، وعليّ أن أتعايش معه".
فضائح بالجملة.. ولا أدلة
بعد الغزو، لم يتمّ العثور على أيّ أدلة قوية عن وجود أسلحة دمار شامل، وواجهت التبريرات التي روّجتها إدارة بوش لشنّ الحرب انتقادات شديدة داخل الولايات المتحدة، فظهرت حملات لمعارضة الحرب داخل العراق، بعدما انتشرت فضائح سجن أبو غريب، وغيرها من الانتهاكات، وهو ما شكّل قوة ضاغطة على إدارة بوش، فبدأت بسحب قواتها في شتاء 2007.
ثمّ بدأ عدد الجنود بالتراجع شيئًا فشيئًا في العراق في عهد الرئيس باراك أوباما، لتعلن الولايات المتحدة رسميًا انسحاب جميع وحداتها القتالية من العراق بحلول ديسمبر/كانون الأول 2011، لتُسدَل الستارة على حقبة، لن ينساها من صنعوها وكانوا جزءًا منها.