على تخوم السفوح الجبلية لمرتفعات الوسط الغربي التونسية المعروفة بمنطقة سباسب العليا بمحافظة القصرين، يعيش الآلاف في تجمعات سكانية متناثرة.
لم تنشر السلطات التونسية إحصائيات رسمية لعدد الضحايا والمصابين جراء الألغام الأرضية التي زرعتها الجماعات المتمركزة بالجبال من المدنيين والعسكريين والأمنيين، أو استنتاجات تقريبية حول أعدادها وهامشها المكاني.
أمّا التقديرات الإعلامية فتشير إلى أنهم يقتربون من المئات بعد عقد من الزمن، في حين ينقل الموقع المختص "ماينز ويبيرز" أن كلفة إنتاج لغم تبدأ بثلاثة دولارات فقط، مقابل ألف دولار لنزعه. وتؤشر هذه الأرقام لخطورة هذا السلاح الموصوف دوليًا بالقذر.
وتدق أجراس التأكيد على أن هذه المعضلة تنشد الحل في هذه المنطقة ولو بعد حين. فيوميات الحياة باتت مليئة بالخطر بعد أن دسّت مجموعات تتبع لتنظيمي القاعدة والدولة الموت في التراب.
وتوغل فريق "العربي" في التضاريس الوعرة بخطوات محسوبة ومحاذير السلامة داخل حيز جغرافي ضيق، وقد قطعت انفجارات الألغام في أحيان عديدة عزلة المكان وهدوءه.
قصص الألم الصامتة
وتحت اخضرار جبل سمامة، تسكن قصص صامتة لمن فقدوا أطرافًا أو عزيزًا عليهم أو من هم في دوامة الصدمة وتبعات المعاناة النفسية والحكايات المؤلمة بسبب الألغام الأرضية المزروعة.
وتروي فضيلة العباسي، وهي ضحية انفجار لغم أرضي، أنها أعدّت الطعام لها ولزوجها، قبل أن يذهبا إلى العمل في هذه المنطقة الخطرة.
كان زوجها يصعد على شجرة الصنوبر بينما تجمع هي حبات الصنوبر المتساقطة على الأرض، لكنها استفاقت ولم تجد ساقها في مكانها، فبدأت تصرخ مستغيثة.
أمّا وئام العباسي التي توجهت إلى الجبل برفقة جدها، فقد وجدت شيئًا يشبه لعبة حملتها ولعبت بها ثم وضعتها في فمها، ولم تستطع فتحها فرمتها على الأرض فوق حجرة، فطارت ثم سقطت وارتفعت مجددًا، قبل أن تنفجر فوقها. فوقعت وئام أرضًا فهرول إليها جدها وحملها إلى المستشفى.
خلفت الحادثة لدى وئام حالة من الرعب المستمر، فهي لا تستطيع التركيز مع المعلمين في المدرسة، وتقول: "قلبي يدق وأشعر بخوف مستمر".
منطقة عسكرية عازلة
يمثل جبل الشعامبي أعلى قمة جبلية تونسية بارتفاع 1544 مترًا، وبمساحة تقترب من الـ100 كيلومتر مربع، حيث أقامت هذه المجموعات منذ انفجار أول لغم أرضي في نهاية أبريل/ نيسان 2013 ما يشبه أعشاش الألغام في المواجهة المفتوحة بينها وبين الجيش والأمن التونسي، لتطال من يدوس عليها إنسانًا أو حيوانًا.
نزفت هذه المنطقة كثيرًا بفعل هذه الألغام العشوائية والعيش في مساحة قاتلة.
أمّا السلطات التونسية، فقد أعلنت في مناسبة أولى حدودها الشرقية مع ليبيا والجنوبية مع الجزائر منطقة عازلة في عام 2013.
وبعدها بسنة، أصبحت جبال الشعامبي وسمامة والسلوم والمغيلا منطقة عمليات عسكرية مغلقة، بعد أن بات الشريط الجبلي الطويل المتاخم للحدود التونسية الجزائرية منطقة نشاط لهذه الجماعة وليس عبور.
مواجهات مفتوحة مع المجموعات المسلحة
دفع عسكريون وأمنيون الثمن في مواجهات مفتوحة مع هذه المجموعات التي تتحرك بأعداد صغيرة لتقليل خسائرها وعدم تفكيك خلاياها المتشعبة.
وقد رافق فريق "العربي" وحدة مختصة لقوات الحرس الوطني منذ ساعات الصباح الأولى في عملية تمشيط دوري لتلال جبل الشعامبي لمراقبة الحدود ورصد أي تحركات مشبوهة.
وتسير حرب الأجسام المخفية دون هدنة. فقد ركّزت التنظيمات التابعة لتنظيمي الدولة والقاعدة إستراتيجيتها على زرع الفوضى الأمنية انطلاقًا من تلك الجبال، وسيجت أماكن تركز عناصرها بالألغام.
ويشير العميد المتقاعد مختار بن نصر، وهو رئيس سابق للجنة الوطنية التونسية لمكافحة الإرهاب، إلى أن المجموعات الإرهابية تتخذ من المغاور والأودية أماكن اختباء لها.
ويتعامل المسلحون مع الألغام كجرس إنذار، فعند انفجار أحدها يهربون من المنطقة. وقد صنعت هذه الألغام من مواد بدائية يصعب على كاشفات الألغام الحديثة رصدها، بحسب بن نصر.
مجال اقتصادي
مثّلت الجبال بمجالها الغابي جزءًا مهمًا في الاقتصاد الريفي في هذه الربوع. ففي السفوح وعمق الجبل يتدبر السكان قوتهم من الغطاء النباتي والرعوي الموجود.
ويقول محافظ القصرين رضا الركباني: إن "وضع المنطقة العسكرية المغلقة يبعد المستثمرين عنها كما يبعد مختلف أنواع السياحة البيئية والجبلية والترفيهية"، مؤكدًا أن المشاريع القائمة صغيرة جدًا.
وبعد عقد كامل من المواجهات تمكنت الوحدات العسكرية والأمنية من فتح ثغرة كبيرة في جبهة المعركة المتواصلة مع هذه التنظيمات، بعد قتل عدد من قيادات رئيسية في التنظيم.
وتنتشر الحواجز الأمنية على كامل منافذ المحافظة وفي مجمل نقاطها الحيوية وطرقاتها المؤدية إلى محافظات أخرى وإلى المدن الحدودية مع الجزائر.
وعلى الرغم من توجيه ضربات قوية للتنظيم وقطع خطوط إمداد رئيسية عنه، إلا أن مهمة السلطات الأمنية والعسكرية هناك لم تنته، فتجفيف مستنقع الألغام يبقى التحدي الأكبر.
لمشاهدة الحلقة الكاملة من برنامج عين المكان، تابعوا الفيديو المُرفق: