الجمعة 15 نوفمبر / November 2024

أطفال غزة الشهداء ليسوا أرقامًا.. حكايات تروى وابتسامات وأحلام

أخبار فلسطين
أطفال غزة الشهداء ليسوا أرقامًا.. حكايات تروى وابتسامات وأحلام
الثلاثاء 20 فبراير 2024

شارك القصة

أطفال غزة الشهداء لهم جميعًا سير تروى وصور حلوة وابتسامات وأحلام، وليسوا مجرد أرقام
أطفال غزة الشهداء لهم جميعًا سير تروى وصور حلوة وابتسامات وأحلام، وليسوا مجرد أرقام

استشهد آلاف الأطفال في قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. الحصيلة في ارتفاع مع استمرار آلة القتل، فيما يبقى آخرون في عداد المفقودين، لهم جميعًا سير تروى وصور حلوة وابتسامات وأحلام، وليسوا مجرد أرقام. 

إحداهن هند رجب، الطفلة التي تلقّى العالم قبل أيام قليلة خبر العثور على جثمانها شهيدةً بعد 12 يومًا من انقطاع المعلومات عنها، إثر استهدافها وعدد من أقاربها برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة.

"العربي" كان عمل على مدار أشهر على تتبّع كيف يشكل الأطفال أكثر الضحايا في الحرب على غزة. وجمع في الوثائقي الذي يحمل عنوان "ليسوا أرقامًا" بعضًا من قصصهم، ووثقها لتبقى شاهدًا على جرائم الاحتلال.

وثّق "العربي" بالأسماء والصور 500 طفل شهيد هم والآخرين ليسوا أرقامًا
وثّق "العربي" بالأسماء والصور 500 طفل شهيد هم والآخرين ليسوا أرقامًا

أطفال غزة.. أحلام لم تكتمل

على مساحة قطاع غزة المحاصر، التي لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، يشيّد أبناؤه حياة تتحدى الموت بين حربين وثلاث وأربع.

لغزة أيضًا أحلام تتشكل في أعين صغار يكبرون ويرفلون في المحبة، لكن الكثير منها لم يكتب لها أن تكتمل.

فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي الجديد على القطاع، تئن الأحياء والبيوت والمدارس والمستشفيات تحت وابل الموت، فيما يستغيث أمهات وآباء وأجداد ضمير هذا العالم.

انطلق "العربي" بتوثيق أسماء الأطفال الشهداء وصورهم من غزة بعد أيام معدودة من بدء العدوان، وبعد أن صار جليًا أن الفقد كبير، وأن الأطفال هم أكثر الضحايا.

حينها كانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف"، قد أعلنت في اليوم السابع من المجزرة المستمرة استشهاد 700 طفل في غزة.

لم تكن وزارة الصحة الفلسطينية قد أصدرت بعد أي بيانات بأسماء الأطفال، فلم يتوفر في ذلك الوقت سوى الأرقام وغابت الأسماء والصور. ولم يكن من نقطة بداية سوى ما عد الأسهل للبحث، ولكنه الأصعب على القلب: البحث عن صور أطفال شهداء لعائلة من أقارب أحد الزملاء قضت بأسرها تحت الأنقاض في بيت لاهيا، وهو ما قاد فريق "العربي" إلى حكاية الشتات الفلسطيني.

فللحصول على صور الأطفال تواصلنا مع أفراد أسرتهم في عمان، الذين تواصلوا بدورهم مع أقارب آخرين في نابلس، ومن هناك استقبل فريق "العربي" صور صغار العائلة وأسماءهم. وكان الموت في غزة والحزن طاغيًا في نابلس وعمان وغيرهما من المدن.

بعد ذلك، استمر البحث عن أسماء الشهداء الصغار وتتبع أثرهم مع عداد موت لا يتعب. وقد استوقفت "العربي" في رحلة البحث صفحة تشير إلى الشقيقات الصغيرات لجين ولانا وميس اللواتي لم يكن في عداد الأطفال الشهداء ولا في قوائم الناجين من مذبحة مخيم الشاطئ في الثاني عشر من أكتوبر، سادس أيام العدوان.

فبات بحث أمهن جزءًا من بحث "العربي" وسؤاله قبل أن يصل إلى إجابات في وقت لاحق من تحقيقه، الذي وثّق فيه حكايات تدمي القلب.

وقد جاءه رد في إحدى الرسائل حول طلب صور الأطفال سيلين وإيلين ومحمود ومحمد، الذين استشهدوا جميعًا في الرابع عشر من أكتوبر، ما يفيد بأن "إيلين كانت تحب الرسم وكانت تحلم بالسفر وتود اقتناء لعبة ليغو".

لم تكتف آلة القتل الإسرائيلية، وكل صباح يأتي بوداع جديد
لم تكتف آلة القتل الإسرائيلية، وكل صباح يأتي بوداع جديد

إيلين قُتلت وإخوتها من دون رحمة بينما كانوا يبكون خائفين من أصوات القصف. وأُخرجت الصغيرة من حضن أمها أشلاء.

يقول أحد أفراد العائلة في رسالته: "عذرًا لم أكن في وعيي ولم أستوعب غياب الصغار والكبار، غاب الجد والجدة وأختي وزوجها وأولادها، كلهم رحلوا، كلهم رحلوا".

وبعدما انتهت الرسالة وردت الصور تباعًا مع الأسماء والأعمار، ليستعاد صخب رقصات إيلين وأغنيات شقيقتها سيلين.

بدورها، رثت الأم الغزية مرام ابنتها يمنى ذات الخمسة أشهر، فقالت إنها اختارت اسمها بعناية وأحبته كثيرًا، واستذكرت أن صغيرتها كانت قد بدأت بتناول قطع الكعك والحليب، لتنهي منشورها بدعاء إلى الله بأنه يجزها في مصيبتها خيرًا، واصفة يمنى بأنها "عصفورة شهيدة".

وفي اليوم التاسع من العدوان، استهدف القصف مرام أم يمنى.

منذ بدء العدوان الإسرائيلي الجديد على القطاع، تئن الأحياء والبيوت والمدارس والمستشفيات تحت وابل الموت، فيما يستغيث أمهات وآباء وأجداد ضمير هذا العالم

والفاجعة تجر الفاجعة. فبعد أقل من عشرة أيام على بدء العدوان، بلغ عدد الشهداء قرابة 3000 شهيد منهم 853 طفلًا، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية.

في مستشفى الأهلي المعمداني وحده، استشهد أكثر من 500 فلسطيني، بعدما احتموا في المكان هربًا من وحشية آلة الحرب الإسرائيلية.

بحَث "العربي" عمّا تبقى من أثر الصغار وأيامهم في صفحات المدارس ورياض الأطفال، مستعيدًا أغانيهم وصياحهم. كما بحث عن درجاتهم المدرسية وفرح الآباء والأمهات بنجاح أطفالهم، وتتبّع أحلامهم.

من بين أولئك الأطفال سما المقيد، التي صفق زملاؤها قبل الحرب لنباهتها. لكنها تركت ابتسامتها وخجلها ورحلت مع إخوتها. عمر حلاسة ذو الثمانية أعوام استشهد أيضًا، ولم يعد يشارك أصدقاءه اللعب.

وبينما لم يستثن الموت أحدًا من بين براثنه، تظهر الفيديوهات لمحات لما كانت عليه غزة، بما في ذلك أجواء كنيسة برفيريوس التي قصفها جيش الاحتلال في العشرين من شهر أكتوبر.

فقد استيقظت رعية المسيح على لون الدماء وهو يغطي ساحتها. وقد تواصل "العربي" مع إحدى أقارب الشهداء. فجاء الرد خلال لحظات مثقلًا بالفجيعة، وجاءت الصور مع الأسماء والأعمار "كلهم رحلوا": عاليا الصوري (7 أشهر)، وجولييت الصوري (سنة ونصف)، وسهيل الصوري (14 عامًا)، وعيسى الصوري (12 عامًا)، ومجد الصوري (12 عامًا)، وجولي الصوري (13 عامًا)، وجورج الصوري (3 أشهر).

لغزة أحلام تتشكل في أعين صغار يكبرون ويرفلون في المحبة، لكن الكثير منها لم يكتب لها أن تكتمل
لغزة أحلام تتشكل في أعين صغار يكبرون ويرفلون في المحبة، لكن الكثير منها لم يكتب لها أن تكتمل

"كانت هناك حياة"

ثم بعد أسبوعين من العدوان، ارتفع عدد الشهداء إلى أكثر من 4000 بحسب وزارة الصحة. وعزّت المعلومات وصعب التوثيق بعد قطع الاتصالات والإنترنت.

حينها، أعلنت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين، أن جيش الاحتلال الإسرائيلي قتل في أسبوعين ما لا يقل عن 1661 طفلًا. وكان "العربي" قد وصل في الوقت ذاته إلى أسماء 120 طفلًا وصورهم، هي حصيلة يوم واحد فقط.

تقول فاطمة أبو عبيد في رثائها لبنات أخيها "كانت هناك حياة". وردًا على رسالة فريقنا على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، تضيف: "أنا عمة الأطفال، كلهم ماتوا كلهم استشهدوا ولم يبق منهم سوى بعض الذكريات".

وتتابع: "هذه صورهم وأسماؤهم وحكاياتهم. لم يبق في البيت سوى صدى أصواتهم والموت".

وبعد يوم من غياب العمة الثكلى، وردت رسالة قصيرة منها تقول: "وأنا إن استشهدت من سيعرفني ومن سيذكرنا ومن سيعطيك صورتي".

ثم وصلنا مزيد من صور أبناء العائلة وبناتها الشهداء: غزل أبو عبيد (12 عامًا)، وندى أبو عبيد (6 أعوام)، ومنة الله أبو عبيد (3 أعوام)، وإلين أبو عودة (عامان)، وياسمين أبو عودة (11 عامًا)، وخالد أبو عبيد (12 عامًا)، ومحمد أبو عودة (16 عامًا).

وبعد يوم من دفن عائلة أبو عودة، سقطت قنبلة على منزل عائلة أحمد الناعوق في دير البلح وسط القطاع، فسوته أرضًا.

تواصل "العربي" مع الرجل، فوصلت الرسالة ردًا على طلبنا بإفادتنا بأسماء الأطفال الشهداء من عائلته، وكان بالكاد يستطيع الرد؛ استشهد 21 فردًا من أسرته، منهم 14 من أبناء إخوته جميعهم أطفال. وكانت أشلاء أحبائه الصغار ما تزال تحت الأنقاض، فلا وداع ولا جنازة تليق بحجم الفقد.

بالتوازي، استمر "العربي" في تقصي مصير الأخوات الثلاث لجين ولانا وميس، على أمل أن يكنّ تائهات وسط الخراب.

بحث في كل المواقع والقوائم للشهداء ولا مجيب على نداءات أم الصغيرات. وبنهاية الأسبوع الثالث للعدوان، ارتفع عدد الشهداء في غزة إلى 7703 منهم 3195 طفلًا، بحسب وزارة الصحة.

الأطفال هم جزء من حكاية غزة المكلومة والمحاصرة
الأطفال هم جزء من حكاية غزة المكلومة والمحاصرة

وقالت منظمة "أنقذوا الأطفال" إن مجموع من قتلتهم إسرائيل من الأطفال في 24 يومًا فقط هو أكبر من مجموع الأطفال الذين سقطوا سنويًا في عشرين منطقة صراع في العالم منذ العام 2019.

من بين هؤلاء يوسف، الذي رثته أمه بأنه طفل جميل ذو سبع سنوات وشعره "كيرلي"، ووعدته بأن تطبخ له قلاية بندورة، لكنه رحل دون أن يأكلها.

وهناك أيضًا حبيبة عبد القادر (9 أعوام)، التي كانت تحب المدرسة وتحب الغناء والموسيقى، وبكت في إحدى الصور بسبب نهاية العام الدراسي.

وثّق العربي بالأسماء والصور 500 طفل شهيد هم والآخرين ليسوا أرقامًا، لأن الأطفال هم جزء من حكاية غزة المكلومة والمحاصرة، ومع ذلك لم تكتف آلة القتل الإسرائيلية، وكل صباح يأتي بوداع جديد، ويبقى من كتبت له الحياة رغم القصف الأملَ من بين ركام الموت

وقد رثاها المعلم عبد القادر أبو قاسم، قائلًا: "خبرك يا حبيبة صدمني. لا يمكنني أن أصدقه حتى الآن. رحمك الله يا أجمل طلابي".

وتلك ريم "روح الروح" كما يصفها جدها الشيخ خالد، الذي حرّكت كلماته قلوبًا في أنحاء العالم. تركته حفيدته مع الذكريات على شكل حلق علّقه نيشانًا قريبًا من القلب، وعمد بعد أن رحلت روحه إلى تقديم المواساة وتخفيف آلام آخرين خطفت آلة الحرب أحباءهم.

وفي عائلة الدرة، يشاء العدوان أن يفتح الجرح من جديد جيلًا وراء جيل. فجمال والد محمد الدرة، الطفل الذي اغتالته إسرائيل أمام أعين العالم قبل 23 عامًا وانتفاضتين وأربع حروب، جلس محاطًا بجثامين إخوته وأبنائهم، إحداهم أريان الدرة (12 عامًا).

على مساحة قطاع غزة المحاصر، التي لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، يشيّد أبناؤه حياة تتحدى الموت بين حربين وثلاث وأربع
على مساحة قطاع غزة المحاصر، التي لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، يشيّد أبناؤه حياة تتحدى الموت بين حربين وثلاث وأربع

وداع جديد في كل صباح

وبعد أكثر من شهر على بدء العدوان، أعلنت وزارة الصحة في القطاع أن عدد الشهداء من الأطفال بلغ 4500 طفل شهيد.

وفي المحصلة، وثّق العربي بالأسماء والصور 500 طفل شهيد هم والآخرين ليسوا أرقامًا، لأن الأطفال هم جزء من حكاية غزة المكلومة والمحاصرة.

ومع ذلك لم تكتف آلة القتل الإسرائيلية، وكل صباح يأتي بوداع جديد، ويبقى من كتبت له الحياة رغم القصف الأملَ من بين ركام الموت.

وفي حين نجت تالين من المجزرة، إلا أنها لم تنج من ألم فقد أمها. وجوليا نصار ذات الثلاث سنوات نجت أيضًا لكنها فقدت والديها.

وقد تواصل "العربي" مع وزارة الصحة لإفادته بأعداد الصغار الذين فقدوا عائلاتهم وذويهم، وهم بالآلاف بحسب مؤسسات العمل الخيري، ولكن لا يوجد عدد نهائي.

وبالتوازي، أُصيب آلاف الأطفال ومنهم رضّع، وتعرّض بعضهم لحروق بالغة وعمليات بتر للأطراف. حتى أن المستشفيات اضطرت لإجراء عمليات جراحية على الأطفال دون تخدير.

بدورها، تشكل المدارس في غزة جزءًا من مأساة الأطفال. ففي بداية الحرب تحولت إلى طوق للنجاة أو هكذا ظن الآملون في مأمن من القصف، لكن بعضها تحول إلى مقابر جماعية.

ووسط الموت، يكون الحديث عن العودة إلى المدرسة ضربًا من الترف. فمنذ بدء العدوان والدراسة معطلة بالكامل، إذ شمل القصف مئات المدارس ما يعني أن مئات الآلاف من الطلبة سيحرمون من حقهم في التعليم لمدة طويلة.

وبالعودة إلى الطفلات الثلاث لجين ولانا وميس، فقد جاء خبر استشهادهن قبل الهدنة التي بدأت في الرابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني.

عاود "العربي" الاتصال بجهات عدة وأصحاب صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي ذكرتهن، خلال رحلة بحثه عن مصير الصغيرات. فجاء الرد من إحدى قريباتهن التي روت تفاصيل استشهادهن، فما الذي قالته عن لحظاتهن الأخيرة وكيف خطف الاحتلال أحلامهن؟


الإجابة وأكثر في وثائقي "العربي" المرفق بعنوان "ليسوا أرقامًا" عن الأطفال الشهداء في قطاع غزة وسط العدوان الإسرائيلي المستمر.
المصادر:
العربي
Close