لم يجد الكاتب والباحث الفلسطيني أنيس الصايغ من يكتب عنه، فكتب عن نفسه، فاستفتح مذكراته ملخصًا 50 عامًا سعى فيها لتحرير فلسطين ولم يحمل السلاح يومًا وكان قلمه سلاحه.
وقال: "50 سنة وهدفي تحرير فلسطين أولًا وأرض العرب ثانيًا، لإلغاء الكيان المغتصب وعودة الشعب المقتلع وتحرير الإنسان والأرض معًا، وفي الوقت ذاته أمارس الصنعة الثقافية لتصبح المعرفة على التحرير ركنًا أساسيًا في بنيان فلسطين المحتلة، فالثقافة تحرر والتحرير يثقف، فهدفهما معًا غنى حضاري".
ووُصف الصايغ بحارس الذاكرة الفلسطينية لأهمية أعماله في الموسوعة الفلسطينية ومركز الأبحاث الفلسطيني. فقد وُلد في طبريا من أب سوري وأم لبنانية، واعتبر نسب عائلته الممتدة صفعة بوجه اتفاق "سايكس بيكو".
مذكرات شاملة
في هذا السياق، قال الكاتب في الشأن الفلسطيني محمود شريح في حديث إلى "العربي" ضمن برنامج "مذكرات": إن أمين الصايغ "شخصية لا تتكرر في الثقافة الفلسطينية، ولد في طبريا عام 1930 ودرس في فلسطين ومن ثم في صيدا اللبنانية، قبل أن يأخذ تعليمه الجامعي في بيروت".
من جهته، أشار الكاتب والباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات صقر أبو فخر، إلى أن أهمية مذكرات الصايغ تكمن في أنها تشمل كل شيء.
وروى الصايغ في مذكراته ظروف الانتقال من طبريا مع والده قائلًا: "قد وصل يوسف صباح يوم الرابع من شهر فبراير/ شباط من عام 1948 لأخذي من المدرسة، وكانت الوالدة قد تعرّضت لنوبة قلبية قضت بنقلها إلى المستشفى قبل ساعات. وفي هذا الجو الحزين غادرت طبريا. وإذا كنت قد التقيت الوالدة بعد عشرة أسابيع في بيروت التي أصبحت مأوى العائلة، فإني لم ألتق بطبريا حتى اليوم، إلّا عبر نظرات خاطفة من بعيد من فوق تلال أم قيس في شرق الأردن".
القومي العربي
وفي أواسط الخمسينيات، اقترب الصايغ من التوجه الناصري متأثرًا بأفكار الحزب القومي العربي، بعد أن كان متبنيًا لأفكار الحزب القومي السوري الاجتماعي، وعبّر عن ذلك في كتابيه "الفكرة العربية في مصر" عام 1958، وتطور المفهوم القومي عند العرب.
من هنا، أكد شريح أن "الصايغ نشأ كأخوته قوميًا اجتماعيًا وقرر أن يكون قريبًا من القوميين، حيث كان يصيّف في بلدة ضهور الشوير اللبنانية مسقط رأس أنطون سعادة، إلى أن بدأت حرب السويس التي انتصر بها جمال عبد الناصر، فأصبح قوميًا عربيًا. لكن أنطون سعادة بقي قابعًا في داخله".
وقال الصايغ في مذكراته: "إن الحزب يبقى فيّ وإن لم أبق أنا في الحزب. تبقى فيّ علمانيته وتقدميته ونظاميته ونضاله من أجل فلسطين. لم تعد تحديداتي لمفهوم الأمة والقومية تتطابق مع المفهوم الحزبي. وإن كانت حدود الوطن لا تتطابق في قناعاتي كما هي في مبادئ الحزب".
عشرون كتابًا ومئات الأبحاث والمقالات العلمية هي حصيلة إنجاز الصايغ بالكتابة، حيث بدأ حياته مبكرًا فيها. وترأس فور عودته لبيروت بعد إكمال تعليمه في الخارج إدارة القاموس العربي الإنكليزي.
وعام 1966، ترأس إدارة مركز الأبحاث الفلسطيني بالإضافة لإنشائه الموسوعة الفلسطينية.
وأشار أبو فخر إلى أن للصايغ باعًا طويلًا في العمل الصحافي والترجمة، حيث عمل في جريدة النهار، ولفت إلى نشوب خلاف سياسي بين الصايغ ومؤسسة "فرانكلن" التي كانت تسير في إطار السياسة الأميركية بشأن القاموس، ما أدى إلى انسحابه منها.
مركز الأبحاث الفلسطيني
ولفت أستاذ الفلسفة والكاتب الفلسطيني محمود شريح إلى أن فايز الصايغ شقيق أنيس الصايغ هو من أسس مركز الأبحاث الفلسطيني في البداية عام 1964.
وقال الصايغ في مذكراته: "عندما تسلّمت مهام إدارة مركز الأبحاث، كان يقع في شقة متوسطة الحجم، وحينما غادرت كان قد انتقل إلى مبنى مجاور في شارع كولمباني، شغل 6 من طبقاته. تجاوز عدد المنشورات الـ300. وأضيف إليها مجلة شهرية ونشرة رصد. أمّا الباحثون فقد ارتفع عددهم من 3 إلى 40. وارتفع عدد الإداريين والمحررين من 5 إلى 20، وارتفع جهاز التوثيق من 4 إلى 10. وهذا هو الذي نصّب مركز الأبحاث على عرش الثقافة الفلسطينية المؤسسية في سبعينيات القرن الماضي".
محاولة اغتيال الصايغ
وفي أوائل السبعينيات، وضع الاحتلال الإسرائيلي قائمة اغتيالات تطال النشطاء والمثقفين الفلسطينيين، وكان مركز الأبحاث على رأس القائمة بثلاث محاولات استهداف.
وعام 1971، فجّر الاحتلال مداخل المركز بالديناميت. وفي العام التالي، كانت محاولة اغتيال الصايغ بظرف ملغوم. وعام 1974، تم قصف المركز بالصواريخ، إلّا أن الضربة القاضية كانت بنسفه وضياع محتوياته أثناء اجتياح لبنان عام 1982.
وأوضح أبو فخر أنه تم تحذير الصايغ من الاغتيالات قبل ثلاثة أشهر من قبل المسؤول الأمني في السفارة المصرية في بيروت. وقد اتخذ بعض التدابير فعلًا بالاتفاق مع السلطات اللبنانية، حيث كانت مراسلات المركز تمر على الأجهزة اللبنانية.
وبحسب شريح، تسبب انفجار الطرد الذي رماه الصايغ عندما استشعر وجود سلك بداخله، إلى تضرر حاسة السمع لديه، ودخول شظايا أثرت على نظره.
وقال الصايغ في مذكراته: "أمّا الرسالة الثانية فلم تكن إنذارًا بل كانت تحمل كل الرغبة في إنهاء المركز عن طريق قتل مديره وإرهاب العاملين فيه. كنت في صباح 19 يوليو/ تموز 1972 قد عدت من القاهرة. ووجدت على مكتبي حينما دخلته في الثامنة صباحًا قبل أي موظف آخر، رزمة من الرسائل وصلت في غيابي القصير. وجاء دور رسالة أثخن من زميلاتها فاعتقدت أنها تضم مقالة للمجلة. وبدأت بفض الرسالة وإذ بها تنفجر في وجهي. فأدركت أن الإرهاب الصهيوني قد أوقع بي".
وبعد علاجه، عاد الصايغ إلى المركز مجددًا. وعند نهب المركز، روى أبو فخر كيف شاهد بأم عينيه من مسافة غير بعيدة كيف كان جنود الاحتلال يحملون مقتنيات المكتبة.
وأصبحت المكتبة فيما بعد بعهدة الاحتلال الإسرائيلي، لكن جرى الاتفاق على تسليم مكتبة مركز الأبحاث إلى منظمة التحرير الفلسطينية ضمن صفقة تبادل أسرى.
ولم تغب فكرة إنشاء الموسوعة الفلسطينية عن الصايغ منذ عام 1966، وباشر في العمل فيها أواخر السبعينيات، بعد حصوله على تمويل لها.
واعتبر أبو فخر أن الموسوعة والمركز من أهم إنجازات الصايغ، بالإضافة إلى تأسيس وإصدار أهم مجلات مثل: "شؤون فلسطينية" و"المستقبل العربي".
اتفاقية أوسلو
وازدادت حدة التوتر في العلاقة بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والصايغ إثر تصاعد خطاب التسوية مع الاحتلال الإسرائيلي في السبعينيات وبعد استقالته من إدارة الموسوعة الفلسطينية عام 1988. وكانت أوسلو مفصلًا تاريخيًا وبداية مرحلة جديدة للصايغ، سلّط فيها هجومه على كل من وافق على الاتفاقية عام 1993.
وأشار أبو فخر إلى أن الصايغ كان ضد السياسة العامة لياسر عرفات، ولا سيما بعد عام 1974 بعدما ذهب الأخير إلى الأمم المتحدة في فيينا وألقى خطابه المشهور.
وأضاف الصايغ في مذكراته: "في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 سقطت الأقنعة نهائيًا عن وجه السيد ياسر عرفات ومعاونيه وحاشيته، وانكشفت النوايا والمخططات. وتبين لماذا كان مركز الأبحاث ومجلته والموسوعة الفلسطينية المجندة كلها ضد الاستسلام هدفًا دائمًا للطعن ومحاولات الإلغاء والتدمير. إن وصول المسيرة إلى تسوية أوسلو الاستسلامية كانت تفرض هدم العقبات وإزاحة العراقيل. لا بد من شطب النضال الثقافي لتحقيق الاستسلام السياسي".
وحول رفضه لاتفاق أوسلو، قال الصايغ: "وقع المحذور بعد أن أوهمنا أنفسنا بأن ما من زعيم فلسطيني يستطيع أن يبرم مثل هذا الاتفاق مع العدو. إنه اتفاق استسلام وإذعان وخضوع وخنوع من كل النواحي وعلى كل الصعد".
وأضاف: "تحملت الطعنات وسكت عن التهجمات واستوعبت الاعتراضات وقفزت فوق العراقيل وتجاهلت الإساءات كل ذلك من أجل بقاء الموسوعة والمركز".
قريب من فلسطين وبعيد عنها في آن واحد، اعتاد الصايغ رؤية طبريا من تلال أم قيس على الحدود الأردنية الفلسطينية، وبقي ممسكًا بقلمه حتى وفاته في عمان نهاية عام 2009 رافضًا تكريمه في الاحتفالات بقوله: ما من فلسطيني يستحق التكريم وما زالت فلسطين ترزح تحت نير الاحتلال.