وقف فيصل بن الحسين في 18 يناير/ كانون الثاني 1919 في مؤتمر الصلح في باريس، بوصفه ممثل العرب الأوحد أمام مجلس العشرة.
يومها نادى بوحدة العرب واستقلالهم، متسلحًا بوعود الإنكليز للشريف حسين ومبادئ ويلسون الـ14 وأهمها الحق في تقرير المصير.
يقول الملك فيصل في مذكراته: "وصلت باريس ودخلت المؤتمر وجمعية الأمم لبثّ رغائب الشعب على قدر اجتهادي. رأيت أمم الغرب في حالة جهل عميق بأحوال العرب".
ويضيف: "كانوا لا يعرفون عن العرب إلا ما يعرفونه عنهم في حكايات ألف ليلة وليلة، ليس إلا، يظنون أن العرب عبارة عن عرب البادية الذين يسكنون الصحراء، ولا شك أن جهلهم هذا جعلني أصرف وقتًا طويلًا لأفهم هذه الأمم".
وعندما عاد إلى دمشق كان قد بدأ يقتنع بأن الحلفاء لن ينفذوا وعودهم له ولأبيه، فخطب للناس قائلًا: "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، حرية الأمة بيدها. لنسعى متحدين فنحيا حياة عزيزة، الاستقلال التام في الاتحاد التام".
في 8 مارس/ آذار 1920، اجتمع المؤتمر العام للشعب السوري في قاعدة النادي العربي بدمشق وقرأ عوني عبدالهادي بيان إعلان استقلال المملكة السورية، بحدودها الطبيعية ومن ضمنها فلسطين.
كيف تطورت الأمور في ذلك الحين وصولًا إلى هذا الإعلان، ودور فيصل في تلك الفترة؟
النشأة والانتقال إلى إسطنبول
وُلد فيصل بن الشريف حسين، شريف مكة، ربيع عام 1883 في مدينة الطائف. كان محط رعاية والده الذي أراد تنشئته تنشئة عربية فترعرع في أحضان البادية.
عندما بلغ فيصل العاشرة من عمره، انتقلت أسرته إلى الأستانة لتلحق بأبيه الشريف حسين، الذي كانت أصداء زعامته السياسية تتردد في عاصمة الدولة العلية العثمانية. فقرر السلطان عبد الحميد الثاني أن يبقيه قريبًا منه وتحت أنظاره.
يشير خالد زيادة، مدير فرع المركز العربي للأبحاث في بيروت، إلى أن الأمير فيصل عاش فترة طويلة في إسطنبول مع والده وإخوته استمرت لخمسة عشرة عامًا، وهذا يعني أنه أصبح على دراية بالمجتمع التركي والحياة السياسية التركية.
ويشرح في حديث إلى "العربي" أن هذا الأمر سيجعله يلعب دورًا لاحقًا، لا سيّما بعد عام 1908 والانقلاب الدستوري، لأنه سيكون قائدًا للثورة العربية.
في 24 فبراير/ شباط 1908، عيّن السلطان عبد الحميد الشريف حسين أميرًا على مكة، فعاد فيصل وأسرته إلى موطنه في الحجاز.
لكن تصاعد الصراع بين السلطان وحركة الاتحاد والترقي، ترك الشريف حسين حائرًا بين الحفاظ على الولاء لخليفة تتضاءل سلطته، أو التعامل مع قيادة عسكرية قومية تمسك بزمام الحكم.
وخلال عام واحد تمكّن حزب الاتحاد والترقي من عزل السلطان عبد الحميد الثاني.
وعام 1912، عاد فيصل إلى إسطنبول ليبدأ مسيرته السياسية كنائب لـ"مجلس المبعوثان" عن مدينة جدة، ويتعرّف مباشرة إلى القادة الأتراك والضبّاط العرب في أجواء مشحونة نتيجة سياسات التتريك.
ويلفت زيادة في حديثه إلى "العربي" إلى أن الاتحاد والترقي كان حزبًا راديكاليًا، له أفكار متشددة في ما يتعلق بتصوره للدولة العثمانية والنظام السياسي الذي يفكرون بإقامته.
ويوضح أن الاتحاديين كانت لهم، عندما تسلموا السلطة في إسطنبول بعد الانقلاب الدستوري، آراء قائمة على المبادئ القومية، إن جاز التعبير، وبدأ من هنا التنافر بين العرب والأتراك.
اتصالات سرية مع الشباب العربي
خسرت حكومة الاتحاد والترقي مساحات واسعة من البلاد، لا سيّما بعد حرب البلقان. واضطرت تحت الضغوطات الإيطالية إلى التنازل عن ليبيا ومنحها استقلالها، ما أثار مخاوف النخب العربية حول مصير بلدانهم في مواجهة الأطماع الاستعمارية ومدى قدرة السلطنة على حماية ولاياتها.
ويشرح محمد جمال باروت، رئيس دائرة البحوث في المركز العربي، أن ما حصل بين عامي 1913 و1914 هو أن الحكومة العثمانية وقعت على اتفاقات مع كل من بريطانيا وفرنسا، وقبلها إيطاليا، ومع ألمانيا، بتوزيع الدولة العثمانية إلى مناطق نفوذ اقتصادية لمصالح هذه الدولة.
وعليه، يشير في حديث إلى "العربي"، إلى أن فكرة سايكس بيكو هي أقدم من تاريخ توقيع الاتفاقية، غير أن هذه الأخيرة نقلت توزيع مناطق النفوذ عبر جانب اتفاقي مع الحكومة العثمانية الرسمية إلى جانب سياسي لتصفية الدولة العثمانية.
ويوضح أنه في "الولايات العثمانية اتبعوا سياسة معادية للأعيان، ما جعل هؤلاء ينفضون عنهم وينضمون إلى الليبراليين والحركة اللامركزية العربية، التي اجتمعت وعقدت ما يؤرخ في تاريخ الحركة القومية بالمؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913".
وفي يناير/ كانون الثاني عام 1915، وصلت إلى الشريف حسين رسائل مكتوبة تقترح قيام حركة تمرّد عسكرية ضد الأتراك.
وفي الوقت ذاته، ناشدت جمعيتا العهد والعربية الفتاة الشريف حسين العمل على إنقاذهم من طلعت باشا وكمال باشا، فأرسل ولده فيصل إلى دمشق ليقيم اتصالات سرية مع الشباب العربي هناك.
ويلفت زيادة إلى أن الشريف حسين كان قد أرسل في هذه الآونة الأمير فيصل للتوسط من جهة مع الاتحاديين، ولمفاوضتهم ومماطلتهم في طلباتهم المتعلقة بإرسال مقاتلين من الحجاز إلى جبهات القتال من جهة أخرى.
ويقول إنّ فيصل زار لهذا السبب دمشق والتقى جمال باشا أكثر من مرة في غضون 1915 ثم 1916، موضحًا أن الأمور حينها كانت تتجه نحو مزيد من التعقيد والعداء بين الأتراك والعرب.
ويشير إلى أن فيصل أقام في هذه الأثناء علاقات مع الناشطين من العربية الفتاة في دمشق، والتقاهم سرًا خارج دمشق، ونسقوا الخطوات المقبلة لأن مسألة الثورة أصبحت شبه مؤكدة ولكن مؤجلة لظروف.
بدوره، يلفت باروت إلى أن جمال باشا اتبع – لا سيما بعد إخفاق حملته المدوي على السويس – سياسة القبضة المشددة على بلاد الشام ونخبها، واعتبر أن هناك شبح ثورة عربية ستندلع في بلاد الشام.
وفي 6 مايو/ أيار 1916، نصب جمال باشا أعمدة المشانق لنخب ومثقفين عرب في بيروت ودمشق. وأثارت تلك الإعدامات غضبًا عارمًا بين العرب. وبعدما صرّح فيصل بأن جمال باشا سيدفع لما ارتكبه ثمنًا باهظًا، أصبحت حياته مهددة في دمشق، فغادرها حاسمًا أمره بإطلاق الثورة.
ويلفت زيادة إلى أن العرب وبينما كانوا يطالبون عام 1913 بنوع من اللامركزية، لم يعد الكلام عنها مجديًا بالوصول إلى عام 1915.
ويردف: لهذا السبب أخذ الشباب العربي يطالبون سرًا وعلانية باستقلال البلاد العربية، موضحًا أن الشريف حسين كان على دراية بكل هذه التطورات من خلال ابنه فيصل والذين يأتون إلى مكة.
إعلان بدء الثورة العربية الكبرى
السبت 10 يونيو/ حزيران 1916، خرج الشريف حسين بن علي إلى شرفة قصره في مدينة مكة وأطلق رصاصة من بندقيته معلنًا بذلك بدء الثورة العربية الكبرى، وعيّن فيصل قائدًا لجيش الشمال.
يقول فيصل: "إنني لا أعمل أبدًا لا لإنكلترا ولا لفرنسا، بل للعرب وللعرب فقط، وأنا دائمًا أخ لإخواني في الجنس والدين".
ويضيف: "لقد طلب والدي في كتاب أرسله عام 1915 ما يلي: أولًا يجب أن تعترف إنكلترا باستقلال البلاد العربية، وعليها فوق ذلك أن توافق على إعلان خليفة عربي للمسلمين، وثانيًا على دولة الشريف العربية أن تعتبر إنكلترا الدولة المفضلة في جميع المشاريع الاقتصادية".
وضعت قيادة الثورة العربية إستراتيجية عسكرية تستهدف قطع طرق إمداد الجيش العثماني وعزل وحداته وتطويقها في الصحراء الشاسعة. ونفذ الثوار عمليات خاطفة ومركزة على الأهداف الحيوية، وأهمها سكك الحديد التي مثلت الشريان الرئيسي لإمدادات الجيش العثماني.
واقترب من فيصل في هذه الفترة النقيب توماس إدوارد لورانس، المعروف بلورانس العرب، وهو ضابط استخبارات بريطاني كان يرى أن فيصل يمثل رأس حربة التحالف بين بريطانيا والثورة العربية في مواجهة العثمانيين.
ثم عام 1917، انتهت حرب الحجاز عقب انتصار قوات فيصل المدعومة من بريطانيا في معركة العقبة، ليصبح فيصل قائد الجيش العربي، ويرنو بعينه إلى مركز قيادة القوات التركية في دمشق.
"العرب لا يرغبون بالانفكاك"
بموازاة ذلك، أدى قيام الثورة البلشفية إلى خروج روسيا من الحرب العالمية الأولى، فقام المفوض السابق للشؤون الخارجية ليون تروتسكي بنشر تفاصيل اتفاقية سايكس بيكو ما كشف عن نوايا القوى الكبرى ومطامعها الاستعمارية.
ويشير باروت إلى أن جمال باشا قام بنشر هذه الاتفاقية ووجّه رسالة إلى الحجاز بأن يتم الاتحاد العربي – التركي في مواجهة خطط التقسيم التي قررها الحلفاء.
ويلفت إلى أن الاتصال الحقيقي بين فيصل والقيادة العثمانية العسكرية، حدث قرابة الشهر الأخير من الحرب، موضحًا أن جمال باشا المرسيني، وهو غير جمال باشا السفاح، وجه بالاتفاق مع القيادة الألمانية رسائل إلى فيصل بأن يتم عقد صلح عربي تركي.
ويبيّن أن فيصل أكد في سلسلة المراسلات هذه، والتي تم نشرها، أن العرب لا يرغبون بالانفكاك عن الدولة العثمانية، بل بأن يعيشوا مع الأتراك في دولة تشبه ملكية النمسا المجر.
ثم أنهت تطورات الأحداث الميدانية مسار الاتصالات بين الأتراك والعرب، إذ قطعت قوات الجنرال اللمبي خطوط الإمداد والاتصالات الجنوبية عن دمشق، وخاضت قوات فيصل المعركة الأخيرة في الكسوة غرب دمشق، وهُزم الجيش العثماني الرابع هناك.
"هكذا اكتشفنا الحقيقة المرة"
دخل فيصل على رأس الجيش العربي إلى دمشق مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 1918، ورفع علم الحجاز رباعي الألوان ابتهاجًا بانتصار العرب.
عن المرحلة التي تلت ذلك، يكتب الملك فيصل: "ظهرت الخديعة الأولى عندما أخبرني الماريشال اللمبي أن سوريا ستُقسم إلى ثلاث مناطق بحجة أن هذا الترتيب سيكون إداريًا ومؤقتًا فقط".
ويضيف أن "الضربة الثانية كانت عندما أعلنوا لاحقًا أن سايكس بيكو كانت اتفاقية حقيقية، بعدما أنكروا هذا سابقًا".
ويشير إلى أنه رأى بعينيه الخريطة ذات الألوان الثلاثة التي تقسم البلد، ويردف: هكذا اكتشفنا الحقيقة المرة.
وسارعت فرنسا مع انزياح خطر العثمانيين في الشام إلى المطالبة بتسليم حصتها من الأراضي السورية، تنفيذًا لاتفاقية سايكس بيكو. فأمرت بريطانيا الأمير فيصل، قائد الجيوش الشمالية، بترك السواحل وتسليمها إلى القوات الفرنسية.
ويقول باروت إن اللمبي أمر بإنزال العلم العربي عن سرايا بيروت وتسليمها إلى الوحدة الفرنسية، التي دخلت إلى المدينة.
ويلفت إلى أن فيصل اضطر رغمًا عنه إلى الموافقة على هذا الإجراء، بعدما أخذ من اللمبي تعهدات بأن هذا الإجراء عسكري وليس سياسيًا، إلى أن يتم انعقاد مؤتمر الصلح وأن يقرر ترسيم الحدود".
بعد ذلك، انتهت الحرب العالمية الأولى وارتفعت الراية البريطانية المضلعة في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق.
وفي 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1918، حملت سفينة إنكليزية عبرت البحر المتوسط من بيروت إلى مرسيليا، فيصل بن الحسين ومستشاريه إلى أوروبا الغربية، ليشارك في مؤتمر الصلح في باريس، الذي يعد أحد المؤتمرات المؤسسة لعالمنا اليوم.
وبينما شارك في المؤتمر ممثلون عن 32 دولة، كان لفرنسا وبريطانيا دور تاريخي في إصدار قرارات حددت مصائر شعوب ودول. وكانت فرنسا ترفض بتعنت المشروع العربي.
ويكشف باروت، أن لورانس حاول إقناع فيصل بإمكانية الاعتماد على الحركة الصهيونية من أجل الحصول على دعمها في مواجهة المطامع الفرنسية في الساحل.
وبناء على نصيحته، التقى فيصل حاييم وايزمن ممثل الحركة الصهيونية. وفي 3 يناير 1919، وقبل أسبوعين من انعقاد مؤتمر باريس للسلام، وُقعت اتفاقية من 9 نقاط عُرفت لاحقًا باتفاقية فيصل – وايزمان.
وتضمنت الاتفاقية الاعتراف بوعد بلفور وتنظيم هجرة اليهود إلى فلسطين، مع الحفاظ على حقوق العرب في فلسطين والحرية الدينية فيها وتقديم المساعدة للحكومة العربية المستقبلية.
ماذا عن الجدل الذي أثارته هذه الاتفاقية، وبأي عبارة كان قد ذيّلها فيصل، ثم كيف سحب ما وعد به فيها؟
الإجابات وتفاصيل إضافية عن تلك المرحلة في الحلقة المرفقة من وثائقي مذكرات الملك فيصل بن الحسين.