يُعد الخوف من فقدان الموظفين والعمال وأصحاب المؤسسات أعمالهم من جراء الذكاء الاصطناعي أمرًا مشروعًا، لا سيما بالنظر إلى التطوّر المستمر لقدراته ولما يُسمع ويُرى ويُقرأ في وسائل الإعلام عن الأعداد الهائلة من الوظائف المهدّدة.
وللوقوف على هذا التطور المتواصل، يمكن النظر إلى الأدوار التي بات بإمكان هذه الأدوات لعبها.
فقبل أربعة أعوام، أعلنت وكالة "شينكوا" الإخبارية الحكومية في الصين قيام تجارب لتطوير أول مذيع إخباري يعتمد على أدوات الذكاء الاصطناعي.
وفي أبريل/ نيسان الماضي، أصبحت "سانا" المذيعة المطوّرة من أدوات الذكاء الاصطناعي جزءًا من فريق العمل في مجموعة India Today Group بالهند.
إلى ذلك، بات عدد كبير من الصحافيين والمؤسسات الإعلامية يستعينون بأدوات الذكاء الاصطناعي على غرار chatgpt.
وفي مايو/ أيار الماضي، عرض تطبيق Waymark لصناعة المحتوى البصري فيلمًا قصيرًا مدّته 12 دقيقة بعنوان The Frost، وكانت كل عناصره البصرية والسمعية من صناعة أدوات الذكاء الاصطناعي، فيما جاء النص الاستثناء الوحيد حيث قام المنتج جوش روبن بكتابته.
مع ذلك لا تعد الكتابة الإبداعية بمنأى عن الاستبدال. فمع ازدياد استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي من قبل تحالف شركات الإنتاج وشركات الأنيمايشن، أعلن 11 ألف كاتب وسيناريست بالولايات المتحدة الأميركية الإضراب عن العمل حتى تثبيت حقوق الملكية الفكرية لعملهم.
ويهدف هذا الشرط لضمان حقوق المؤلفين المادية كون حماية الحقوق الفكرية تقتصر بحسب القانون حتى اللحظة على البشر.
لكن ما الأثر الحقيقي للذكاء الاصطناعي على وظائف البشر؟
لطالما كان الخوف من فقدان الوظائف مع كل اكتشاف علمي بالغ الأثر في حياة الناس وعملهم؛ منذ أن تم اختراع المحرك في المصانع وصولًا إلى chatgpt.
ففي العام 1921، وعلى الرغم من استقرار مفاعيل الثورة الصناعية، عنونت صحيفة "نيويورك تايمز": "الإنسان ستلتهمه آلاته".
وفي الثمانينيات وبعد دخول الكومبيوتر واقتراب إنشاء شبكة الإنترنت، استمر الخوف والتهويل لتصبح منذ ذلك الحين سرقة الروبوتات للوظائف هاجسًا موجودًا.
لكن على الرغم من زيادة عدد سكان الأرض من حوالي مليار نسمة في القرن الثامن عشر، إلى أكثر من 8 مليارات نسمة في يومنا هذا، لم يحصل أن وصلنا إلى ما كان يهوّل به.
ففي مقابل الكثير من الوظائف التي اختفت أو قل عدد العاملين فيها، ظهرت الكثير من الوظائف الجديدة التي أنتجها الاقتصاد. فكانت بعددها ومداخيلها أكبر من تلك التي اختفت.
إلى ذلك، يُرد جزء من الخوف من تأثير التطورات التقنية والتكنولوجية على وظائف الناس إلى كون الوظائف المهدّدة بفعل اكتشاف ما معروفة إلى حد ما.
فقد كان من السهل التقدير أن عمال الغسيل والمغاسل هُددت وظائفهم بعد اختراع آلة الغسيل الأوتوماتيكية، ومثلهم الحائكون وعمال النسيج مع اكتشاف المحرك البخاري.
كما أن الوظائف السكريتارية والكتبة انخفضت بنسبة 57% بين العامين 1992 و2014، حسب إشارة دراسة لديلويت.
في المقابل، فإن الوظائف التي ستنتج مستقبلًا بفعل "تطورات ما زالت في طور نموها" لا يمكن التنبؤ بها.
ففي العام 2003، عندما كان الإنترنت ما يزال في طور أولي، كان الخوف كبيرًا على الصحافة الورقية وقراءة الكتب والضرر الذي سيصيبها مع تواصل توسع الإنترنت وصولًا للهواتف التي أصبحت ذكية ومن بعدها الأجهزة اللوحية وغيرها.
وفيما كان الخوف مبررًا ومحقًا، إلا أنه لم يكن من الممكن تصوّر أن العام 2005 سيشهد ظهور يوتيوب الذي خلق بدوره مجموعة وظائف جديدة، ليس فقط لمشغّلي الموقع بل لمنتجي المحتوى عليه.
وفيما يخص الذكاء الاصطناعي، نحن اليوم كما كنا في العام 2003 مع التطور الذي كانت تشهده الشبكة العنكبوتية: نعرف شيئًا عن الوظائف التي يهددها هذا الذكاء، ولكن ليس لدينا أدنى فكرة عن الاختراعات أم الاكتشافات التي سيأتي بها وما هي الوظائف التي سيخلقها.
وعليه، لا يمكن لأغلب الاقتصاديين تقديم أي إجابة حاسمة حول هذا الموضوع، على غرار ما تجرؤ عليه الكثير من الوسائل الإعلامية لكسب التفاعل.
نسخة محدثة للحد الأدنى للأجور
وفي حال وصل العالم إلى السيناريو الأسوأ بفقدان أغلب الناس لوظائفهم، لن يخاف العمال المهددة وظائفهم اليوم وحدهم، بل سيكون أصحاب المؤسسات الكبرى معهم أيضًا.
ويعود ذلك، إلى كون قدرة هذه المؤسسات اللامتناهية ساعتئذ على الإنتاج بفعل المكننة والذكاء الاصطناعي، يقابلها فقدان أي طلب على السلع بنتيجة فقدان القدرة الشرائية مع خسارة الناس لوظائفهم.
كما أن فقدان الطلب بهذا الحجم سيعرض من ناحيته النظام الرأسمالي برمته لمخاطر تصيب آليات عمله.
ولهذا السبب، بدأ البعض منذ اليوم إعادة طرح أفكار شهدت حماسة في فترة من الفترات ثم خفتت لاستباق احتمال كهذا.
ويقوم الاقتراح على اعتماد الدخل الأساسي الشامل (universal basic income) القائم على تخصيص الحكومة لمبلغ مالي معين للجميع، بما يؤمن الحد الأدنى من القدرة على استهلاك منتجات، أبعد من مجرد تأمين الحد الأدنى للاستمرار على قيد الحياة.
وعليه، فإن الدخل الأساسي الشامل يمكن اعتباره إلى حد ما حدًا أدنى للأجور بنسخته المحدثة، إذ يؤمن القدرة على استهلاك منتجات تشهد انفجارًا بالعرض نتيجة القدرة اللامنتناهية على الإنتاج بفضل التطور التكنولوجي وأدوات الذكاء الاصطناعي مقابل تراجع حاد في القدرة الشرائية.
إلى ذلك، يظهر بمعاينة آثار الثورة الصناعية على الوظائف، الخطر الأكثر عقلانية فيما خص التأثير المحتمل للذكاء الاصطناعي على الوظائف.
الخطر المشار إليه ليس الإطاحة بوظائف البشر، بل يكمن في المرحلة الانتقالية التي ستشهد تراجع أعداد وظائف أو اندثارها، وتغيّر طبيعة أخرى وظهور وظائف جديدة ستتطلب مجموعة من المعارف لن يمتلكها بالضرورة من يفقد وظيفته في الفترة نفسها.
فتلك الفترة الانتقالية بين ما سبق الاختراع والاستقرار على طبيعة جديدة للأعمال والوظائف والاقتصاد والحياة بشكل عام، يمكن أن تطول وأن تكون المعاناة فيها كبيرة.
وباسترجاع الفترة الزمنية الفاصلة بين الثورة الصناعية والوصول إلى أشكال رفاهية الحياة اليوم، فإن العقود التي مرت على من عايشها كانت عبارة عن بؤس لفئة كبيرة من الناس.
ويطال ذلك العمل من 12 إلى 16 ساعة يوميًا على مدى 6 أيام في الأسبوع، ووفاة آلاف العمال في حوادث العمل بالنظر إلى عدم وجود أي معايير للسلامة في المصانع، وتشكّل أحزمة البؤس بجوار المدن الكبرى بعد النزوح من الأرياف، والعيش في ظروف تفتقر إلى الحد الأدنى من معايير الصحة والرفاهية.
لكن أجواء البؤس التي رافقت التحولات الكبيرة كانت الوقود لنشوء وازدهار نقابات وأحزاب سياسية وتيارات فكرية انغمست في نضال طويل لتحصيل الكثير من الحقوق الاجتماعية والمرتبطة بالعمل، والتي تطلب تطبيقها نضالات واسعة لكون القوانين والتشريعات تقلل من هامش الأرباح لدى قوى مالية واقتصادية كبرى قاومت تلك المطالب.
الاستفادة من التجارب السابقة
في المحصلة، يبقى أن التحولات المتسارعة لدخول الذكاء الاصطناعي بإيجابياتها وسلبياتها ما تزال في بدايتها ومن الصعب تحديد حجمها.
كما يظل الأهم من التهويل منها أم "التطبيل لها" الاستفادة من تجاربنا السابقة لتخفيف آلام المرحلة الانتقالية، التي غالبًا ما تكون أكلافها الأقسى على الناس. وعوضًا عن استمرار المرحلة الانتقالية لعقود وعقود على غرار الثورة الصناعية، أن نختصر الطريق لانتقال أكثر تنظيمًا.
وفي هذا الصدد، يتعلق السؤال الجوهري بالسلطات السياسية في دول العالم بشكل عام، التي ستكون المسؤولة عن تنظيم التحوّل من خلال القوانين والتشريعات، وما إذا كان من يشغلون مراكز السلطة مهيئين للخوض في نقاش من هذا النوع.
فهل تبشر الوقائع بما يسهل ذلك؟ وما الغاية أساسًا من التهويل الذي تقوم به وسائل الإعلام إزاء الذكاء الاصطناعي؟ الإجابة وأكثر في الحلقة المرفقة من "الرأس والمال".