شهدت تونس خلال الأيام القليلة الماضية حملة جديدة من الاعتقالات بحق معارضين سياسيين ومحامين وإعلاميين، كان آخرها اقتحام دار المحامي للمرة الثانية خلال يومين، واعتقال المحامي مهدي زقروبة بعد توقيف المحامية سنية الدهماني في سابقة لم تشهدها تونس من قبل.
فمن بوابة دار المحامين تنقضُ الأجهزة الأمنية على ما تبقى من أصوات تنادي بالحريات، وتندد بالواقع السياسي ـ الأمني القائم، فكان هذا المكان على موعد مع اقتحام قوات الأمن لاعتقال المحامية والإعلامية سنية الدهماني إثر إدلائها بتصريحات ساخرة حول الوضع في البلاد، في سابقة لم تعرفها تونس حتى في عهود الاستبداد الماضية.
اقتحام معقل الدفاع عن القانون والحريات
وإذ اختارت الدهماني دار المحامين أمنًا لها من ملاحقة الأجهزة الأمنية، فإن المكان مع ما فيه من رمزية بالغة الدلالة لم يشفع لها، ولم يمنع قوات الأمن من التعدي على حرمة مكان ظل يُشكل في الوعي الجمعي التونسي معقلًا للدفاع عن القانون والحريات.
وبالطريقة نفسها اعتقلت قوات الأمن القيادية في جبهة الخلاص شيماء عيسى والإعلاميين برهان بسيّس ومراد الزغيدي في مؤشر خطير على انفلات النهج القمعي لنظام قيس سعيّد تجاه مجتمع مدني يطالب أعضاء فيه بحماية الحريات.
فهي أصوات لا يُراد لها أن ترتفع في نقد الواقع السياسي، وأقلام لا يراد لها أن تسطر ما يجري، هذه هي خلاصة المرسوم "54" الصادر قبل عامين حول مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصالات.
غير أن هذا القانون سرعان ما تحول إلى غطاء لعودة الرقابة وتقييد حرية التعبير، ضاربًا عرض الحائط المكتسبات التي حصل عليها التونسيون بعد ثورة عام 2011.
فخلال عام ونصف العام، وبموجب هذا المرسوم، حوكم أكثر من 60 شخصًا بينهم صحافيون ومحامون ومعارضون للرئيس، وفقًا للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
وعلى الرغم من الضربات القاسية التي وجهتها السلطة برئاسة سعيّد للقوى السياسية والمدنية المعارضة، يجاهد المجتمع المدني مع ما تبقى له من قدرة على رفع صوته بحشد أكبر قدر من المناهضين لسياسات كم الأفواه، فكانت مظاهرات أنصار جبهة الخلاص الوطني ثم مظاهرة المحامين، عنوانًا لرفض تصفية حرية التعبير، ونشر الرعب في المجتمع، وتحويل البلاد إلى سجن واسع، الجميع فيه مشتبه فيهم إلى حين إدانتهم.
وبانتظار موعد الانتخابات الرئاسية نهاية العام الجاري، يستكمل قيس سعيّد تعبيد الطريق أمام نظام فردي مغلف بـ"ديمقراطية صناديق الاقتراع"، لا مكان فيه لأي تكتل سياسي أو صوت يغرد خارج السرب.
ما مصير الحريات في تونس؟
وفي هذا الإطار، أعرب مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مهدي مبروك، عن اعتقاده أن ما حدث من اعتقالات واقتحامات لدار المحامي في البلاد، لم يكن له مثيل سواء كان في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة أو الرئيس السابق زين العابدين بن علي، لافتًا إلى أن كل المؤشرات تؤكد أن العقل السياسي في الكثير من الأحيان في السنوات الأخيرة يمر بلحظة "هوجاء".
وفي حديث لـ"العربي" من العاصمة تونس، أضاف مبروك أن ما وصفه بـ"الاقتحام المريع والدموي" الذي رافق هذه العملية غير المسبوقة تؤكد مرة أخرى أن البلاد ذاهبة إلى التصعيد.
وقال: إنّ "السلطة تهدف ربما إلى الذهاب إلى انتخابات لا لاعب فيها إلا لاعب وحيد، ولا صوت يعلو فوق صوت السلطة"، منبهًا من أن هذه السياسات قد تكون لها آثار عكسية، وربما من شأنها إما أن تدفع بالناس إلى العزوف عن الانتخابات، أو افتقاد العملية الانتخابية للنزاهة، وبالتالي تصبح لا معنى لها، وتصبح جزءًا من العبث السياسي الذي تشهده البلاد منذ سنوات، حسب رأيه.
وقال مبروك: "كان يفترض للسلطة أن تعمد إلى التهدئة وإلى تلطيف الأجواء وإلى خفض مناطق التوتر والاحتقان، فيما البلاد ذاهبة إلى انتخابات رئاسية، ولكن للأسف عمد النظام إلى فتح جبهات متعددة".
وهذه الجبهات، حسب مهدي مبروك، هي جبهة تتجه إلى الأفارقة القادمين من جنوب الصحراء والراغبين في العبور، وأخرى تستهدف النشطاء الجامعيين الذين حاولوا منذ سنوات تنقيح القوانين المتخصصة في مسائل استقبال اللاجئين والمهاجرين، والثالثة هي جبهة الإعلاميين والصحافيين والمدونين، أما الجبهة الرابعة هي المنظمات المدنية وأساسًا عمادة المحامين.
وبشأن دور الأحزاب هيئات المجتمع المدني، والنخبة التونسية، لفت مبروك إلى أن الذين ساندوا الرئيس سعيّد، يتوحدون الآن، ويقتربون شيئًا فشيئًا من التنسيق الجماعي، مضيفًا أن هناك "ربما انفصال أو تخلص من إرث المساندة النقدية بين الطرفين، وهم يقتربون من اتخاذ موقف صارم بشأنّ أنه لا يمكن للبلاد أن تتحمل أكثر مما تحملته خلال 5 سنوات".