Skip to main content

حرب التجويع في غزة.. إسرائيل تحدّد "السعرات الحرارية" للفلسطينيين

الأربعاء 15 مايو 2024
حرب التجويع في غزة مخطط عمل عليه الاحتلال منذ وقت طويل، وقد بلغ ذروته الآن - غيتي

"حرب التجويع". قد يبدو هذا التوصيف الذي يستخدمه البعض عند الحديث عن الحرب على غزة في مكانه، إذ يخوض قرابة مليوني إنسان في غزة غمار الحرب والمجازر والنزوح، وهم في براثن الجوع.

أكثر من ذلك، ثمّة مئات الآلاف من سكان قطاع غزة، بمن فيهم الأطفال والنساء وكبار السنّ، تمرّ أيامٌ عليهم من دون أن يتناولوا أيّ طعام تقريبًا، وكلّ هذا يحدث تحت أنظار العالم، لكن بلا حسيب أو رقيب.

إلا أنّ ما قد لا يعرفه كثيرون أنّ "حرب التجويع" هذه ليست بجديدة، ولا مرتبطة حصرًا بالحرب الحالية، إذ إنّ تجويع غزة مخطط عمل عليه الاحتلال منذ وقت طويل، وقد بلغ ذروته الآن.

باختصار، لم يكن الهدف فقط تحويل غزة إلى سجن مفتوح، بل إلى مقبرة جماعية كبيرة، فما قصّة "حرب التجويع" هذه؟ وهل تعود جذورها إلى "خطة الخطوط الحمراء"؟

حرب التجويع.. أكل الحشائش والأعلاف

منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، انهارت أوضاع القطاع مع كثافة القصف الذي استهدف أشكال الحياة كافّة، وتحوّلت غزة معه إلى ساحة مفتوحة للحرب.

لكنّ من نجوا من القصف والمجازر، يمارس الاحتلال بحقّهم حربًا من نوع آخر، لا تقلّ فتكًا، هي حرب التجويع التي أجبرت السكّان على أكل حشائش الأرض والأعلاف للبقاء على قيد الحياة.

ولم يكن تجويع غزة وليد هذه الحرب، بل هو مخطّط يعود إلى أكثر من 17 عامًا، حيث فُرِض على سكان القطاع حصار هو الأطول في التاريخ المعاصر، حصار يجاهر به الإسرائيليون بلا خجل.

في هذا السياق، يوضَع مثلاً تصريح وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت الشهير، الذي أعلن فيه تصعيد حرب التجويع ضدّ سكان القطاع إلى الذروة بقوله: "فرضنا حصارًا شاملاً على قطاع غزة. لا كهرباء.. لا وقود.. لا ماء.. لا طعام.. كل شيء مغلق".

لم يكتفِ غالانت بذلك، بل أضاف: "نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف بناء على ذلك"، وهو كلامٌ رغم ما ينطوي عليه من "عنصرية"، إلا أنّه لم يحرّك ضمائر العالم، الذي اكتفى برؤية حرمان المدنيين من أبسط أساسيات الحياة.

استهداف الأسواق.. سلوك منهجي في حرب التجويع

لم تقتصر حرب التجويع الشاملة التي شنّها الاحتلال على إغلاق المعابر ومنع دخول الغذاء والدواء، بل تبعها تدمير ممنهج لسبل الحياة في غزة.

وفي هذا السياق، تمكّن فريق التحقيق باستخدام المصادر المفتوحة في "العربي" من كشف سلوك منهجي في استراتيجية التجويع، وهو استهداف الأسواق التي كانت تبيع للناس القليل ممّا تبقى لديها قبل الحرب.

منذ بدء الحرب على غزة، انهارت أوضاع القطاع مع كثافة القصف الذي استهدف أشكال الحياة كافّة، لكنّ من نجوا من القصف والمجازر، يمارس الاحتلال بحقّهم حربًا من نوع آخر، لا تقلّ فتكًا، هي حرب التجويع التي أجبرت السكّان على أكل حشائش الأرض والأعلاف للبقاء على قيد الحياة

وبالفعل، رصد فريق المصادر المفتوحة تعمّد تدمير أربعة أسواق رئيسية في الشهر الأول من الحرب، علمًا أنّ القصف امتدّ إلى 14 سوقًا تركّز معظمها في الشمال والوسط، بينما طال العدوان ثلاثة أسواق في مدينة خانيونس جنوبي القطاع.

وكان سوق جباليا أحد الأسواق الرئيسية التي تعمل في شمالي القطاع، لكنّ الاحتلال تعمّد تدميره تحديدًا في التاسع من أكتوبر 2023 وهو ما يشير إلى المخطط الإسرائيلي لتجويع السكان منذ بداية الحرب.

ومن الأسواق التي جرى تدميرها أيضًا، سوق اليرموك الشعبي، غربي مدينة غزة، والذي يقع في منطقة حيوية بمدينة غزة بالقرب من ملعب اليرموك الشهير، حيث تمّ قصفه في 21 يناير/ كانون الثاني.

وتتّسع قائمة الأسواق التي تمّ تدميرها بفعل القصف الإسرائيلي شمالاً وجنوبًا، سوق النصيرات (21 أكتوبر)، سوق مخيم الشاطئ (29 أكتوبر)، سوق الشيخ رضوان (2 يناير)، سوق مخيم المغازي (16 أبريل).

لم يكن تجويع غزة وليد هذه الحرب، بل هو مخطّط يعود إلى أكثر من 17 عامًا - غيتي

الحصار الأطول في التاريخ المعاصر

وإذا كان استهداف الأسواق سلوكًا منهجيًا في حرب التجويع، فإنّها بدأت قبل ذلك بكثير، حيث كان قطاع غزة غارقًا عشيّة الحرب الحالية، في كارثة إنسانية عميقة، سبّبها الحصار الذي تفرضه إسرائيل منذ 17 عامًا.

وفي هذا السياق، يوضح المدير السابق لعمليات الأونروا في غزة ماتياس شمالي في حديث لـ"العربي"، أنّ "غزة منطقة صغيرة جدًا تبلغ مساحتها 350 كيلومترًا مربّعًا، ولذلك لا يمكنها زراعة ما يكفيها، ولا يمكنها إنتاج كل ما تحتاجه لزراعة الغذاء مثل البذور أو الأسمدة".

ويوضح أنّ "القطاع يحتاج أن يكون قادرًا على الاستيراد والتصدير لكي يستطيع إنتاج الغذاء"، مشيرًا إلى أنّ "الحصار كان عائقًا أمام إنتاج الغذاء المناسب، باعتبار أنّ إمكانيات سكان غزة في زراعة الغذاء كانت دائمًا محدودة في ظل ظروف الحصار".

من جهته، يلفت رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده في تصريحات لـ"العربي"، إلى أنّ السكان في غزة حاولوا التكيّف مع حالة الحصار، لكنّه يشدّد على أنّ ذلك "أنتج تداعيات سلبية على المجتمع الفلسطيني".

ويوضح أنّ ذلك انعكس على تغذية الأطفال، وعلى جودة الحياة للسكان، ولكن أيضًا على بنيتهم الجسدية، متحدّثًا في هذا السياق عن مؤشّرات "غاية في الصعوبة" على المستوى الاقتصادي أيضًا، فضلاً عن الاجتماعي.

"خطة الخطوط الحمراء"

لعلّ ما يثير الاهتمام، وسط ذلك، أنّ كل ما حدث ويحدث في قطاع غزة من عمليات تدمير بمراكز الغذاء والأسواق هو في الأساس خطة مدروسة من إسرائيل أطلقت عليها اسم "خطة الخطوط الحمراء"، وقد أعدّتها وزارة الأمن الإسرائيلية وعرضتها على المجلس الوزراء المصغّر الكابينت.

وتهدف "خطة الخطوط الحمراء" إلى مراقبة دخول الغذاء إلى غزة وتمرير الحد الأدنى منه بما يمنع فقط حدوث مجاعة وحساب السعرات الحرارية اللازمة لبقاء سكان غزة على قيد الحياة وليس أكثر من ذلك.

وحتى قبل عرض الخطة ظهرت استراتيجيتها في تصريحات مسؤولين إسرائيليين تكشف خفايا ما يدبّرونه للقطاع مثل تصريح مهندس خطة الانسحاب من القطاع دوف وايسغلاس أن الغزيين سيظلّون ملتزمين بحمية غذائية دون دفعهم للموت جوعًا، ونفس الأمر عبّر عنه وزير الدفاع الأاسبق أفيغدور ليبرمان بقوله إن السياسة الإسرائيلية تجاه القطاع تقوم على إبقاء رؤوس الغزيين فوق الماء دون الغرق.

تهدف "خطة الخطوط الحمراء" إلى مراقبة دخول الغذاء إلى غزة وتمرير الحد الأدنى منه - غيتي

إسرائيل تحدّد "السعرات الحرارية" للفلسطينيين

رغم ذلك، لم تخرج خطة الخطوط الحمراء للعلن بسهولة، ففي منتصف عام 2009 سرّبت صحيفة هآرتس معلومات تشير إلى أن وزارة الأمن تعمل على خطة تقوم بحساب كمية السعرات الحرارية التي يستهلكها سكان القطاع. إلا أنّ منظمة حقوقية إسرائيلية، تدعى "جيشاه – مسلك"، خاضت بعد ذلك معركة قضائية استمرّت ثلاث سنوات ونصف مع وزارة الأمن لنشر الوثيقة. وبعد إنكار وجود الخطة من الأصل اعترفت الوزراء في النهاية بوجودها لكنها قالت إن نشرها سيلحق الضرر بأمن إسرائيل.

وتكشف الخطة تفاصيل العمل الذي قامت به هيئة من وزارة الأمن بالتعاون مع وزارة الصحة الإسرائيلية لاحتساب استهلاك الغذاء العادي لسكان قطاع غزة وتحديدًا حساب السعرات الحرارية اللازمة لبقاء الفرد على قيد الحياة. فقد قدّرت الخطة عدد السعرات الحرارية اللازمة يوميًا للفرد في القطاع بـ2279 سعرًا.

حتى قبل عرض الخطة ظهرت استراتيجيتها في تصريحات مسؤولين إسرائيليين تكشف خفايا ما يدبّرونه للقطاع مثل تصريح مهندس خطة الانسحاب من القطاع دوف وايسغلاس أن الغزيين سيظلّون ملتزمين بحمية غذائية دون دفعهم للموت جوعًا

ولعلّ اللافت أنّ هذا الرقم أدنى من المعدل العالمي. فوفق هيئة الخدمات الصحية الوطنية البريطانية فإنّ متوسط ما يحتاجه الرجل للحفاظ على وزنه الطبيعي 2500 سعر حراري، مقابل 2000 سعر للمرأة يوميًا.

هدف "اقتصادي" للخطة الإسرائيلية

واللافت أيضًا أنّ الخطة لا تضع فقط حدًا للشاحنات وأنواع الطعام الذي يدخل إلى غزة وعدد السعرات بل تحصي بشكل مفصّل عدد سكان القطاع وأعمارهم، والإنتاج من الخضروات والفواكه، وحتى عدد الدجاج الذي تربّيه الغزاويات في بيوتهنّ.

فقد قدّرت الخطة أنّ الحدّ الأدنى لاحتياج سكان القطاع دون التسبّب في مجاعة هو إدخال 206 شاحنات فقط، علمًا أنّ هذا الرقم أقلّ كثيرًا من الشاجنات التي كانت تدخل السلع والبضائع إلى غزة قبل الحصار وعددها نحو 400 شاحنة يوميًا. لكنّ اللافت أيضًا أن حتى عدد الشاحنات الذي وضعته خطة الخطوط الحمراء لم تلتزم به، إذ كان العدد أقل بكثير.

وبالتالي، لم تهدف الخطة لتجويع سكان غزة فقط بل سعى الاحتلال لتحقيق هدف آخر هو حرمان سكان القطاع من تأسيس أي نشاط اقتصادي يضمن لهم ولو استقلالاً جزئيًا في الأمن الغذائي.

ويقول مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية أمجد الشوا في حديث لـ"العربي"، إنّه "قبل الحرب كان 80% من سكان قطاع غزة يعتمدون على المساعدات الإنسانية القليلة المقدمة، فيما جاوزت نسبة البطالة 55% بصورة عامة، و75% بين صفوف الشباب، في حين وصلت نسبة انعدام الأمن الغذائي إلى 65%".

ويلفت إلى أنّ كلّ "هذه الأرقام هي بحدّ ذاتها مؤشرات على أن الاحتلال الإسرائيلي كان يمنعنا من الوصول لمصادر الغذاء المتوفرة لتضاف إلى سلسلة طويلة من الإجراءات التي تهدف بشكل أساسي إلى إبقاء موضوع مقومات الحياة بيد الاحتلال".

وفق منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ، عاش جميع سكان القطاع أيامًا من انعدام الأمن الغذائي - غيتي

غيض من فيض الحرب على غزة

ليس ما تقدّم سوى غيض من فيض الحرب الشاملة التي شنّتها إسرائيل على غزة، وأدّت لوصول السكان إلى مرحلة غير مسبوقة من الهشاشة وفقدان أي قدرة على إنتاج الغذاء بأنفسهم.

فقد تحكّمت سلطات الاحتلال أيضًا في حركة البضائع من القطاع وإليه، وأنشأت نظامًا معقدًا من التصاريح يعقّد دخول أساسيات الحياة إلى القطاع، كما قامت على مدى سنوات بإحراق الحقول الزراعية وقصفت المخابز ومخازن الغذاء ومحطات الكهرباء والمياه.

جعل كلّ ذلك الأهالي يعيشون تحت وطأة الجوع القاتل، فوفق منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، عاش جميع سكان القطاع أيامًا من انعدام الأمن الغذائي، ووصل سوء التغذية الحاد بالقطاع إلى 16.2% وهو معدل يتخطى العتبة الحرجة التي تحدّدها منظمة الصحة العالمية عند 15%.

ولم يتغيّر الحال حين سمحت إسرائيل تحت الضغط الدولي بتمرير قوافل إغاثة لا تلبّي حتى حاجة نازحين مكدّسين في مدرسة واحدة، وكأنّ الهدف هذه المرّة ليس دفعهم إلى حافة الانهيار، بل قتل أكبر عدد منهم خلال وقت قصير.

أكثر من ذلك، فإنّ من يقومون بتوزيع المساعدات أصبحوا أيضًا هدفًا لنيران الاحتلال، وبين هؤلاء من قُتِل بقصف مباشر استهدف مخازن وأماكن توزيع المساعدات أو اغتيل بشكل متعمّد أثناء قيامه بمهام الإغاثة في غزة.

أبرز هؤلاء كان فائق المبحوح مدير العمليات المركزية في وزارة الداخلية بغزة، إذ كام مسؤولاً عن تأمين الشاحنات المحمّلة بمعونات غذائية حتى وصولها لمستحقّيها في القطاع، فلاحقته فرقة اغتيال إسرائيلية من بيته حتى قرب مستشفى الشفاء وقتلته مع عدد من مرافقيه.

وكان اغتيال المبحوح حلقة في سلسلة استهداف طالت المسؤولين عن تأمين المساعدات داخل القطاع واحدًا تلو الآخر لنشر الفوضى وإرسال تهديد واضح أن حتى من يقومون بمساعدة الناس مصيرهم القتل.


يتتبع وثائقي "حرب التجويع.. خطوط إسرائيل الحمراء في غزة" (الفيديو المرفق) خطة إسرائيل طويلة الأمد لتجويع سكان غزة وإضعاف المجتمع من خلال عدم السماح بدخول الغذاء والمساعدات منذ العام 2006، كما يكشف من خلال الاستعانة بالمصادر المفتوحة نهج الجيش الإسرائيلي بتدمير أسواق المواد الغذائية منذ بداية الحرب.  

المصادر:
العربي
شارك القصة