يُمعن الاحتلال الإسرائيلي في استهداف شاحنات المساعدات الإنسانية في كل مكان بغزة، فبعد مجزرة شارع الرشيد قصف مرةً أخرى شاحنة مساعدات في مدينة دير البلح وسط القطاع، حيث كانت النتيجة كالعادة، شهداء وجرحى من المدنيين.
واعتبرت حركة "حماس" أنّ استهداف الاحتلال الإسرائيلي قوافل الإغاثة وآخرها شاحنة مساعدات بدير البلح، يؤكد إصراره على مواصلة حرب الإبادة.
ويشكّل استهداف مساعدات دير البلح دليلًا آخر على إمعان قوات الاحتلال في استهداف قوافل المساعدات عمدًا، خاصة أنها جاءت بعد ساعات من تحذير مجلس الأمن الدولي من خطورة منع وصول المساعدات إلى غزة.
الحرص على استهداف المساعدات
في التفاصيل، أكد شهود عيان من دير البلح أن شاحنة المساعدات المستهدفة الأحد كانت تحمل لافتات واضحة تشير إلى أنها تقل مساعدات.
وبحسب الشهادات، انتظر الاحتلال تجمّع المواطنين عندها حتى اختار "ساعة الصفر" لقصفها بصاروخين ما تسبب بعدد كبير من الضحايا.
هذا الاستهداف الجديد، أثار تساؤلات بشأن نية إسرائيل المبيّتة بقصف المساعدات وتكريس واقع جديد عنوانه المجاعة والفوضى في غزة.
يأتي ذلك، في وقت تؤكد تقارير محلية ودولية أن شمالي القطاع على شفير المجاعة، وأن أطفالًا ومسنين يموتون جوعًا، بينما تفتقر بقية مناطق القطاع إلى الحد الأدنى من المواد الغذائية الأساسية.
توازيًا مع ذلك، تقول صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية إن القضية الإنسانية تصبح أكثر أهمية لتحقيق الانتصار في الحرب على غزة، وفق تعبيرها.
توقيت الاستهدافات
لكنّ اللافت، أن استهداف المساعدات تصاعد على نحو أخطر في توقيت يشهد مفاوضات معقدةً بشأن المرحلة الأولى لإطار باريس، والذي يقضي بهدنة قد تمتد 6 أسابيع.
هذا الأمر، يعزز فرضية أن غاياتٍ سياسيةً تقف وراء استهداف إسرائيل للمساعدات في غزة، لا سيما أن "يديعوت أحرونوت" أكدت أن إسرائيل تبحث خياراتٍ مختلفةٍ للتعامل مع المساعدات الإنسانية، لارتباطها بسيناريو اليوم التالي للحرب، على حد قولها.
واستهداف المساعدات برًا تقابله عمليات إنزال جوي لمساعدات في شمال القطاع، لكنها تبدو مجرد محاولاتٍ تعقد المشهد الإنساني أكثر، في ظل عدم وجود جهاتٍ محددةٍ تقوم بتوزيعها على الأرض، خاصة بعد عمليات الاستهداف المتكررة للمنتسبين لجهاز الشرطة في القطاع.
فما هي دوافع إسرائيل من مواصلة استهداف شاحنات المساعدات، ومدى قدرة إدارة بايدن على الضغط على نتنياهو لإدخال مساعدات عاجلة لسكان القطاع؟
تأثير مباشر على توزيع المساعدات
متابعة لهذه التطورات، يؤكد عدنان أبو حسنة المستشار الإعلامي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" أن هذه الاستهدافات الإسرائيلية تؤثر كثيرًا على عمليات الوكالة وتنقلها في قطاع غزة، لا سيما وأن "الأونروا" هي اليوم، الجسم الوحيد الذي بقي متماسكًا في القطاع ويقدم مساعدات وفق أبو حسنة الذي يشدّد على أن هناك صعوبات كبيرة في التحرك بمختلف مناطق القطاع.
ويقول المستشار الإعلامي لوكالة "الأونروا" لـ"العربي": "لا مكان آمنا على الإطلاق في قطاع غزة، قتل 160 موظفًا وهو الرقم الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية ولم يحدث أن قتل هذا العدد من الموظفين الأمميين خلال 5 شهور".
ويصف أبو حسنة الأوضاع الإنسانية في غزة بـ"الخطيرة للغاية"، لا سيما وأن عدد الشاحنات التي دخلت غزة في شهر فبراير/ شباط المنصرم هو نصف ما دخل تقريبًا في يناير/ كانون الثاني، رغم قرار محكمة العدل الدولية بوجوب زيادة عدد المساعدات.
ويردف من القاهرة: "ما حدث ويحدث، يعقّد حركة الشاحنات وإيصال هذه المساعدات.. كنا حذّرنا من أن ما يحدث شمالي القطاع من مجاعة سينتقل تدريجيًا إلى الجنوب.. كيف يمكن أن توزع الأونروا مساعدات لـ 90 شاحنة تدخل يوميًا في المتوسط على أكثر من 2 مليون فلسطيني؟".
عوامل الإمعان بالجرائم الإنسانية
بدوره، يعتقد الدكتور مهند مصطفى الباحث في مركز مدى الكرمل أن الاحتلال الإسرائيلي يعوّل في إصراره على عدّة أمور في استهداف المساعدات رغم التنديدات الدولية، أولّها أن هذه الضغوطات دبلوماسية ولا ترافقها إجراءات جديّة.
ووفقًا لمصطفى فلا يرافق الاستنكارات الصادرة عن المجتمع الدولي وعلى رأسهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أي ضغوطات عملية ترتبط بفرض عقوبات على الاحتلال الإسرائيلي أو عدم إمداده بالسلاح، وبالتالي لا تتخطى حاجز الضغوطات الدبلوماسية.
كما يلفت مصطفى في حديث مع "العربي" من أم الفحم، إلى أن إسرائيل تستعمل أيضًا سلاح التجويع في سياق المفاوضات بهدف الضغط على حركة "حماس"، لبناء اتفاق هدنة وتبادل أسرى ينسجم أكثر مع الشروط الإسرائيلية.
ويوضح الباحث في مركز مدى الكرمل أن "الاحتلال يستعمل هذا السلاح بعدما أخفق في الضغط على حماس عسكريًا، لإجبارها على القبول بشروطه".
أما الأمر الثالث الذي تعوّل عليه إسرائيل فهو، بحسب مصطفى، التأييد الكبير جدًا داخل المجتمع الإسرائيلي لهذه السياسة المتبعة، إذ يظهر آخر استطلاع أجرى في فبراير/ شباط المنصرم تأييد 68% من الإسرائيليين منع إدخال المساعدات إلى قطاع غزة.
ويضيف الباحث: "هذا مجتمع كامل يؤيد سياسة التجويع، وليس هناك نقاش أخلاقي على المستوى الاجتماعي داخل إسرائيل حول هذه المسألة، يمكن أن يضغط على الحكومة الإسرائيلية".
"الإذلال" الإسرائيلي لواشنطن
أما الدكتور أسامة أبو أرشيد الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فيرجع الأمر إلى "الإذلال" الإسرائيلي للولايات المتحدة التي لم تفلح في الضغط على تل أبيب.
فمع فشل الضغط الأميركي اضطرت واشنطن للقيام بعملية إنزال مساعدات إنسانية جويًا على قطاع غزة، وهو ما رآه السفير الأميركي روبرت فورد "أسوأ إذلال إسرائيلي لإدارة أميركية يشهده في حياته".
حول هذا الأمر يشرح أبو أرشيد من عمّان: "لا شك في أن الشعب الأميركي يرى بذلك إذلالًا حقيقيًا، لكن الغالب العام من المجتمع لا يسمع هذه الأخبار وإن بدأ الإعلام الأميركي يتحدث بنوع من الجدية عن حقيقة المجاعة والمأساة الإنسانية في قطاع غزة".
ويقارب الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات المسألة، بالقول إن القوى العالمية العظمى لا تتردد في تحدي روسيا بإدخال مساعدات برًا إلى أوكرانيا، ولم تبال في مواجهة الصين في تدشين جسر بحري نحو تايوان.
هذه القوة نفسها "التي تتعامل مع دولة وكيلة، لا يمكن أن تبقى موجودة من دون دعم أميركي لها.. وصل فيها مستوى الإذلال الذاتي لرئيسها لهذا الحد.. لأنه لا يملك الإرادة كون ذلك سيكون له ثمن بمناكفات سياسية مع الجمهوريين وقاعدته الشعبية الديمقراطية"، على حد قول أبو أرشيد.
وعليه، اختار الرئيس الأميركي "آلية تجميلية" عبر إسقاط مساعدات جوًا بدل أن يفرض دخولها برًا.