غرق عبارة السلام 98.. كيف ابتلع البحر الأحمر آلاف الأرواح؟
في سكون ليل الجمعة الثالث من فبراير/ شباط 2006، كانت أعماق البحر الأحمر على موعد مع حادث مأساوي أودى بحياة أكثر من ألف شخص كانوا على متن عبارة السلام 98.
وتملك السفينة شركة السلام للنقل البحري وتعود ملكيتها لرجل الأعمال المصري الهارب من مصر إلى لندن آنذاك ممدوح إسماعيل.
وكانت السلام 98 تحمل على متنها أكثر من 1400 شخص وسيارات مختلفة الأحجام في باطنها. وبعد أن غادرت ميناء ضبا السعودي متجهة إلى ميناء سافاجا المصري، وعلى بعد 57 ميلًا بحرًا عن مدينة الغردقة، نشب حريق داخل غرفة محرك السفينة، ومن هنا كانت بداية غرق العبّارة، التي أدت إلى أسوأ الكوارث البحرية في تاريخ مصر الحديث.
حريق في غرفة المحرك
ويروي أحمد عليوة، وهو ناج من الحادثة، أن العبارة انطلقت من ضبا عند الساعة 8:50 تمامًا، وبعد ساعة من الإبحار سمع الناس بأن حريقًا اندلع على متن السفينة.
من جهته، يذكر محمد الصعيدي وهو ناج آخر، أن النيران اندلعت منذ الساعة العاشرة مساء وحتى الساعة الثانية من صباح اليوم التالي.
عند بدء الأحداث، ذهب عليوة عند القبطان سائلًا عما يحدث، فطلب الأخير منه النزول للعمل على إخماد الحريق.
فعل عليوة ما طُلب منه وعمل لمدة 3 ساعات في إخماد الحريق، قبل أن يعود إلى القبطان سائلًا إن كان هناك ما يمكن فعله، فأجابه: "يجب نقل الركاب من الجهة اليمنى إلى اليسرى من العبارة".
ويروي عليوة: "حينها، توجهت إلى الناس وألبستهم سترات النجاة، لكن بعد وقت قصير، مالت العبّارة بشدة نحو اليمين، فلم تنجح خطة القبطان".
من جهته، يقول الصعيدي: "عندما مالت العبّارة، وقع بعض الركاب في البحر، فبات الجميع أمام خيارين، إما الغرق بالبحر أو الاحتراق".
تسجيلات الصندوق الأسود
وفي تسجيلات الصندوق الأسود لعبّارة السلام، يعلو صوت مساعد القبطان ليخبر الركاب بأن المركب سينقلب، طالبًا منهم الالتزام بالتعليمات، كما ظهرت فيها آخر ما دار بين أفراد الطاقم.
ويقول الصعيدي: "في كل مرة كنا نقترب منها من أحد المسؤولين على متن السفينة، كان يقول لنا أن الوضع تحت السيطرة".
ويروي أنه قفز في البحر وتمسّك بطوق نجاة، قبل أن يرى العبارة وهي تغرق رويدًا رويدًا.
أمضى الصعيدي يوم السبت بالدعاء وتلاوة الشهادة، متمنيًا أن يموت وتخرج جثته ليراه أهله. وانتظر طويلًا قبل أن يحضر مركب وينقذه.
أما عليوة، والذي كان في الطابق الثامن من العبارة، فاختار لحظة غرقها ليرمي بنفسه في البحر، ويقول: "شيء عجيب جدًا، العقل البشري لا يمكن أن يتصوره".
بعد ذلك، أمضى 3 أيام في البحر يسبح ويبكي ولا يعرف أين يذهب. وخلال هذه الأيام، مرّ مركب صغير، إلا أن من على متنه رفضوا استقباله نظرًا لغياب المساحة الإضافية عليه.
وفي اليوم الثالث، وقبل وقت من بزوغ الفجر، مرّ مركب اسمه "إليانورا" ورمى من على متنه حبلًا لعليوة وسحبه من البحر.
تأخر فرق الإنقاذ
غرقت العبارة في تمام الساعة الواحدة والنصف من صباح الجمعة الثالث من فبراير/ شباط، وتلقت غرفة تحكم الإنقاذ الجوي والبحري الإسكتلندية إشارة الاستغاثة من العبّارة ونقلتها عبر فرنسا إلى السلطات المصرية.
لكن الطائرات لم تصل إلّا بعد سبع ساعات ونصف، واكتفت بإلقاء معدات الإنقاذ.
وتروي نجلاء فتحي، وهي زوجة أحد المفقودين الذين كانوا على متن عبارة السلام، أن المكالمة الأخيرة مع زوجها كانت عند الساعة الثامنة من ليل الخميس.
أصبحت عبّارة السلام قضية رأي عام، بعد أن كانت تقل 1400 مواطن مصري، وأسفر غرقها عن مقتل أكثر من ألف منهم.
ما قصة العبّارة؟
وتعود قصة هذه العبارة إلى عام 1969 حيث شُيدت السفينة في إيطاليا وأُطلق عليها تسمية "بوكاشيو" واستُخدمت في الرحلات البحرية المحلية.
وطُورت السفينة في عام 1991 لتتسع لعدد أكبر من المسافرين. وقامت شركة "السلام للنقل البحري" بشرائها عام 1998 وأطلقت عليها اسم "السلام بوكاشيو 98". وبدأت العبارة العمل في مصر عام 1999.
ويؤكد محامي الضحايا محمد عبد الوهاب أن السفينة لم تكن مؤهلة لنقل الركاب، بل كانت مجهزة لحمل المواشي، إلا أنه تم تطويرها لنقل المسافرين لكن دون خضوعها للرقابة.
مركب "غير آمن"
من جهته، يوضح الخبير في الإنقاذ البحري اللواء محمود سامي أنه قبل إبحار أي سفينة يجب أن يكشف على سلامتها، والتأكد من توفر سترات النجاة وقوارب النجاة بالأعداد المطلوبة.
ويقول: "يجب أن يكون عدد مراكب النجاة مناسبًا لعدد الركاب، مع إرشادات لكيفية استخدامها، علمًا أنها تضم مواد تساعد على العيش لمدة أسبوعين. لكن لم يكن هكذا الأمر في العبارة المذكورة، ولو وجد التنظيم لما مات أحد".
ويشير المحامي عبد الوهاب إلى أن هيئة "رينا" عندما أعطت شهادة السلامة لم تلتفت إلى القيد الذي أعطته الحكومة البانامية لشهادة السلامة، وجاء فيه أن عبارة السلام لا يجب أن تُبحر أكثر من 20 ميلًا بحريًا.
من جهة أخرى، كان هروب القبطان سيد عمر حدثًا جللًا، حيث وجد السفينة تغرق فقرر القفز في زورق نجاة، ولم يُعرف عنه شيئًا. لكن محامي الضحايا يؤكد أن شهادات عدد كبير من الناجين تفيد بهروب القبطان.
ويروي عليوة في حديثة إلى "العربي" أنه عندما فقز إلى الماء، رأى القبطان وعددًا من الأشخاص يبحرون بعيدًا.
حادث "مدبّر"
وكان لهروب القبطان أثر آخر، إذ فتح الباب أمام نظرية أخرى تفيد بأن ممدوح إسماعيل تعمّد إغراق السفينة للحصول على التأمين المالي الكبير.
ويعتبر محامي الضحايا أن "الحادث مدبر بالتأكيد"، مشيرًا إلى أنها ليست السابقة الأولى لشركة السلام، حيث غرقت عبارات السلام 90 والسلام 92 والسلام 95 قبل هذه الحادثة.
ويلفت إلى أن الحريق اندلع في السلام 98 بعد فترة وجيزة من إبحارها من ميناء ضبا، وكان الأجدى بها أن تعود أدراجها حفاظًا على أرواح المسافرين.
وفور وقوع الحادثة، بدأ أهالي الضحايا بالتحرك لرفع قضية ضد ممدوح إسماعيل وآخرين في شركته لتسببهم في موت وغرق ذويهم. لكن إسماعيل، الذي كان عضوًا في مجلس الشورى المصري آنذاك، غادر البلاد قبل انعقاد محاكمته.
حكم لم ينفّذ
ويلفت عبد الوهاب إلى أن الدفاع كان يرفض أن تنظر محكمة الجنح في القضية بل محكمة الجنايات.
وبرأت المحكمة الابتدائية إسماعيل من التهم الموجهة إليه، قبل أن تعود محكمة الاستئناف في مارس/ آذار 2009 لتدينه وتحكم عليه غيابيًا بالحبس 7 سنوات مع الشغل والنفاذ.
كما حكمت بالسجن 3 سنوات على ممدوح عرابي مدير الأسطول البحري في الشركة، ونبيل السيد شلبي مدير فرع شركة الملاحة في سفاجا مع تأييد الحكم الصادر بشأن صلاح جمعة قبطان سفينة "سانت كاترين".
ورغم إدانة ممدوح إسماعيل، إلّا أنه لم يقض يومًا واحدًا في السجن حيث هرب إلى بريطانيا، الدولة غير الموقعة على اتفاقية تسليم المتهمين المطلوبين مع القاهرة.
تواطؤ الحكومة؟
وحاول "العربي" التحدّث إلى فريق الدفاع الخاص بممدوح إسماعيل، لكن لم يجد سوى المماطلة ولم يتمكن من لقائه. ويبدو أن ممدوح إسماعيل يظن أن القضية أًغلقت بعد دفع التعويضات المالية لأسر الضحايا.
لكن تلك التعويضات لم تكن كافية، بحسب عليوة الذي حصل على تعويض يبلغ 50 ألف جنيه. أمّا الصعيدي، فيلفت إلى أنه وقّع على إقرار لا يعرف مضمونه، وحصل على مبلغ بسيط جدًا.
لم تتوقف أسر الضحايا يومًا عن البحث عن حقوق موتاهم. وبعد 14 عامًا من الحادث، قضت محكمة العدل الأوروبية في مايو/ أيار 2020 بحق أقارب ضحايا العبّارة في مقاضاة شركتين إيطاليتين والحصول منها على تعويضات.
ويعتبر عليوة، الذي يتابع القضية بشكل يومي، أن له حق لم يأخذه بعد ولن ينساه ولو مضى ألف عام.
أمّا الصعيدي، فيشير إلى أنه فقد الأمل باستعادة حقه، ولن ينسى أن أصدقاءه لم يعودوا ولو حتى جثثًا إلى أهاليهم.
أمّا فتحي، فتتحدث وفي عينها دموع لا تكفي لتخفف آلام السنين الصعبة التي عاشتها هي وأطفالها منذ يوم الحادث الذي خطف رب الأسرة.