صبيحة الأحد، بدا سوق النبطية التجاري في جنوب لبنان أشبه بمنطقة منكوبة، غداة غارة اسرائيلية استهدفته.
واستحالت المحال أكوامًا من الركام تتصاعد منها أعمدة الدخان، بينما يُعاين السكان الدمار ويبكون قلب مدينتهم النابض وذكرياتهم.
ومساء السبت، شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي غارة استهدفت وسط السوق التجاري في مدينة النبطية، كبرى مدن الجنوب اللبناني ومركز نشاطه الاقتصادي. وامتدّ الدمار على مسافة 2520 مترًا مكعبًا، تضمّ محالًا تجارية ومكاتب وعيادات وشققًا سكنية.
ومنذ عقود، يُشكّل سوق المدينة التجاري مقصدًا لسكان المدينة وروّادها من البلدات الواقعة في محيطها. ويكتظ السوق بمحال ومؤسسات متنوّعة بينها متاجر ثياب ومجوهرات وحلويات.
وبتأثر، يصف طارق عبد الأمير صدقة ما يشاهده من حوله، قائلًا: "وكأنّه زلزال حلّ بسوق النبطية، سوق دُمّر بأكمله. وحتى الزاوية حيث كنا نجلس ونحتسي القهوة صباحًا دُمّرت".
ويقول صدقة بينما يحمل عبوة مياه بلاستيكية ولا يقوى على حبس دموعه: "يعجز اللسان عن التعبير، لم نعد نقوى على الكلام. أنا باق هنا ولن أغادر النبطية، النبطية أمّنا.. إنّه لأمر محزن أن تجد أرزاق الناس دُمّرت".
دمار واسع
وعلى بعد أمتار من مكان جلوس صدقة، تشقّ ألسنة نيران طريقها بين حجارة متصدّعة، وتتصاعد أعمدة دخان أسود من أنحاء عدة، فيما عملت جرّافة على رفع حجارة سدّت الطريق في المكان المستهدف،
وبينما تدمّرت واجهات المحال، لم تنج إلا بضع لافتات كانت مرفوعة عليها.
وتهشّمت واجهة مبنى من ثلاث طبقات، وبدت جدرانه سوداء جراء الدخان، كما تقطّعت حبال كهرباء وتدلّت في أماكن عدة.
"نكبة كبرى"
متكئًا على عكّازه، جال حلمي جابر في محيط المكان المستهدف، وعلّق على خاصرته مفاتيح غرفة صغيرة مجاورة يقطن فيها، لكنّها تضرّرت بعدما دخلت المياه إليها إثر تضرّر خزّانات على السطح من عصف الغارة الإسرائيلية.
ويقول الرجل المسنّ بينما يضع نظارة شمسية بحسرة: "كانت هذه أجمل منطقة وأفضل سوق فيها"، مضيفًا: "ليترأف الله بالناس ويساعدنا. نحن خائفون ودماؤنا على أيدينا ونخشى ضربات جديدة، إذ أنّ الإسرائيليين لا يستثنون أحدًا، ويُريدون جعل النبطية أرضًا محروقة".
وسأل: "هل هناك من نكبات أكبر؟ أريد أن أغادر، لكن من سيأخذني الآن وأنا عاجز عن التحرك؟".
"النبطية روحي"
ويتوافد إلى الموقع المستهدف، رجال يستطلعون حال السوق الذي اعتادوا ارتياده يوميًا للتسوّق أو رؤية أصدقائهم.
وعلى غرار كثر، يقول محمود خرابزيت (69 عامًا) الذي اعتاد منذ سنوات طويلة احتساء القهوة مع أصدقائه يوميًا في سوق النبطية: "مرّت حروب كثيرة على المدينة واستُهدفت بالقصف، لكنّنا ما زلنا صامدين فيها".
وأكد أنّ استهداف إسرائيل للمدينة لن يدفعه إلى مغادرتها، حيث قال: "أنا باقٍ هنا. هنا منزلي ومنزل أهلي ومنازل إخوتي. لا أستطيع أن أترك النبطية. النبطية روحي. وعندما تروح الروح تكون قد انتهيت".
وعلى بعد أمتار، يُشبّه الشيخ علي طه (63 عامًا) السوق بمنزله. وقال: "شعرت كما لو أنّ منزلي تعرّض للقصف. هنا ترعرعنا وتعرف الناس كلهم بعضهم الى بعض".
وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كما في الشارع، يبكي سكان المدينة سوقهم وذكرياتهم فيه منذ نعومة أظافرهم.
وعدّدت الكاتبة بادية فحص في منشور على فيسبوك، أسماء محال حفظتها مع أسماء مالكيها عن ظهر قلب في الشارع المستهدف. وختمت منشورها الذي لاقى تفاعلًا واسعًا: "هذا قلبنا الذي احترق وليس مجرد مربع اسمنت".