على أرض مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان، سُطرت فصول كتاب لم ينته حتى الآن، ففي أزقته برز اسم شاكر العبسي زعيمًا لتنظيم جديد.
وكما كان ظهوره لغزًا، كان اختفاؤه لغزًا آخر، إذ لم يكد لبنان في حينه يلملم آثار العدوان الإسرائيلي عليه في يوليو/ تموز 2006، حتى دارت عجلة حرب جديدة شمالًا. وكان شاكر العبسي الطرف الأبرز فيها.
وبمرور أكثر من عقد ونصف على ظهور تنظيم فتح الإسلام وزعيمه في مخيم نهر البارد، يبقى مصير شاكر العبسي غامضًا، وسط تعدّد الروايات بشأنه.
وإذا كان لا يمكن ترجيح واحدة على أخرى، فإن المخيم الذي تركته المعارك مدمرًا يظل شاهدًا على صراعات ربما لم تبدأ بظهور العبسي ولم تنته باختفائه.
فما هي قصّة شاكر العبسي؟ كيف ظهر وكيف اختفى؟ ما حقيقة وجود جثة له تعرّفت عليها عائلته؟ وما دور النظام السوري في قضيته؟
شاكر العبسي.. من ليبيا إلى سوريا
خلال الثمانينيات من القرن الفائت، وصل إلى ليبيا شاب فلسطيني يدعى شاكر العبسي.
كانت مهمته الأساسية التعلّم والتدرّب على الطيران الحربي، منتدَبًا من حركة فتح التي كانت تربطها علاقات جيدة مع الزعيم الليبي معمّر القذافي آنذاك.
وفي منتصف التسعينيات، ترك شاكر العبسي الذي أصبح ملازمًا طيارًا، العاصمة الليبية متوجهًا إلى سوريا.
وفي دمشق، التقى أشخاصًا كانوا جزءًا من الجماعة الليبية المقاتلة، ومن خلالهم، تعرّف على اثنين من أفراد تنظيم القاعدة هما السوريان محمد طيورة وأحمد حسون.
وفي عام 2000، أسّس العبسي مجموعة جهادية سريّة داخل فتح الانتفاضة بغطاء من أبي خالد العملي، نائب رئيس الحركة.
من السجن في سوريا إلى لبنان
وبعد عامين على انتفاضة الأقصى، حاولت هذه المجموعة نقل الأسلحة إلى الداخل الفلسطيني عبر الجولان المحتل، إلّا أن قوات الأمن التابعة للنظام السوري أحبطت العملية وألقت القبض على أفراد المجموعة بمن فيهم شاكر العبسي باستثناء محمد طيورة وأحمد حسون.
تنقّل العبسي بين معتقلات عدة من بينها سجن صيدنايا، حيث وضع الأسس الأولى لتنظيم فتح الإسلام بالتنسيق مع معتقلين جهاديين، أغلبهم ينتمي إلى تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في العراق.
ومع تسلّم آصف شوكت رئاسة فرع فلسطين في قوات النظام السوري عام 2005، أخلي سبيل العبسي، تزامنًا مع انسحاب قوات النظام السوري من لبنان، وفق ما يروي عضو هيئة علماء المسلمين الشيخ نبيل رحيم.
من جهته، يلفت قائد فوج المجوقل السابق العميد المتقاعد في الجيش اللبناني جورج نادر إلى أن من يخرج من السجون السورية يكون عميلًا للنظام عادة.
"انقلاب" العبسي وولادة "فتح الإسلام"
بُعيد خروجه من السجن، تواصل العبسي مع محمد طيورة وأحمد حسون لاستقطاب مجندين من دول عربية وتدريبهم في معسكرات فتح الانتفاضة في لبنان بصورة سرية.
وتوجه العبسي بمجموعته نحو مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الشمال اللبناني متنقلًا من مخيم إلى آخر تحت غطاء فتح الانتفاضة، إلى أن انقلب عليهم مسيطرًا على مقارهم في مخيمي البداوي ونهر البارد، قبل أن يعلن ولادة تنظيم فتح الإسلام في مخيم نهر البارد في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007.
وجرى اقتحام عدد من البنوك في الشمال اللبناني لتمويل التنظيم الوليد، كما حصلت تفجيرات في بلدة عين علق، ما أشعل المواجهة بين الجيش اللبناني و"فتح الإسلام" في 20 مايو/ أيار 2007.
رواية "مقتل" العبسي
استمرت المعارك بين الجيش اللبناني وفتح الإسلام 15 أسبوعًا انتهت بإعلان الأول سيطرته على المخيم والقضاء على عناصر التنظيم.
وبعد ذلك، بدأ الجيش بنقل جثث قتلى التنظيم إلى مستشفى طرابلس الحكومي، وقد أثارت إحداها الريبة حول ما إذا كانت تعود إلى العبسي.
وكانت المعلومات التي استقتها الاستخبارات اللبنانية عن شخصيته قليلة، فجرى استدعاء زوجته رشدية العبسي وعدد من معارفه لمعاينة الجثة.
ويفترض العميد المتقاعد جورج نادر أنّ العبسي قُتِل بالفعل على الجبهة مستدلًا بسلاح أم 4 كان يحمله عند مقتله، "وهو السلاح الذي أخذ من شهيد في الجيش اللبناني".
وفيما أكدت زوجته في البداية أنّه "هو"، ينقل إمام مسجد القدس في صيدا الشيخ ماهر حمود عنها أنّها استدلّت على ذلك من ثيابه وحذائه وحزامه، في حين أنّ وجهه كان مشوَّهًا. ويقول: "تكلّمت باليقين أنّ زوجها مات".
من جهته، يقول الشيخ نبيل رحيم الذي يقول: "الجثمان يشبه الشخص الذي كنّا نلتقي به في مخيم نهر البارد، شبهًا كبيرًا جدًا يصل إلى 90%".
لغز من نوع آخر.. "الهروب الكبير"
بدت فصول كتاب شاكر العبسي قد اكتملت بمقتله والتعرّف على جثته، لكن ما هي إلا ساعات قليلة حتى بدأ لغز من نوع آخر في النمو وسط حديث عن عملية هروب كبيرة شهدها المخيم قبل ساعات قليلة من سيطرة الجيش اللبناني عليه.
وبحسب ما ينقل العميد المتقاعد جورج نادر، أفاد بعض الأسرى من التنظيم بأنه قبل يوم من سيطرة الجيش، اجتمع العبسي بأعضاء التنظيم ووزع عليهم الغنائم وقال لهم: "لقد ضاقت بنا الأرض" أي أن كلًا منهم عليه الهروب خارج المخيم. وطلب منهم حلق لحاهم وقص شعرهم للتمويه.
ويروى العميد المتقاعد قائد فوج المغاوير السابق شامل روكز أن الجيش كان قد أعد العدة لإنهاء المعركة وحسمها، ويرجح أن هذه المعلومات قد وصلت للعبسي وعندها قرر الهروب بالتنسيق مع جهة خارجية.
وعشية الهروب، قسّم العبسي العناصر البالغ عددهم نحو 70 شخصًا إلى مجموعات، لم ينجُ منهم سوى عشرة من بينهم العبسي، حيث اختبؤوا في البساتين المحيطة في المخيم 40 يومًا، قبل أن يتوصلوا إلى خطة بالتنسيق مع الشيخ حمزة قاسم، إمام مسجد القدس في مخيم البداوي تقضي بإخراجهم من المكان عبر شاحنة محملة بالطوب للتمويه.
ومكثت المجموعة في منزل حمزة قاسم ستّة أشهر، حتى تمكنت من تأمين خروج عناصرها من المكان إلى سوريا سرًا.
اللغز يكبر.. الجثة لا تعود للعبسي
ما كاد الرأي العام يعلم بحقيقة الهروب الكبير حتى عاد اللغز يكبر من جديد، حيث فجّر المدعي العام التمييزي في لبنان آنذاك سعيد ميرزا مفاجأة، بعد فحص الحمض النووي للجثة التي عاينتها زوجة العبسي، ليكشف أنّها عائدة لرجل في العقد الثالث من العمر، بينما كان العبسي في العقد الخامس.
وهكذا عاد الغموض ليلف القضية، ولا سيما عقب نشر الصحف اللبنانية في اليوم التالي أن رشدية العبسي أفادت أمام قاضي التحقيق العدلي بأنها قد تكون أخطأت في التعرف على الجثة التي عاينتها عقب سقوط مخيم نهر البارد.
وبدأت أصابع الاتهام تتجه نحو النظام السوري وحلفائه في لبنان. فمن هي الجهة التي تملك نفوذًا يسمح لها بتهريب شخصية بهذا الحجم من لبنان تاركة البلد في حيرة من أمره، وسط نقص المعلومات بشأن حقيقة هذه الشخصية؟
فرضية الانتماء إلى تنظيم القاعدة
ويروي الشيخ نبيل رحيم أن العبسي أخبره عندما التقى به لمرة واحدة ملابسات الخروج من سجنه في سوريا وأنه جاء إلى لبنان من أجل وقف المشروع الأميركي، معترفًا أنّ المصالح تقاطعت بينه وبين مخابرات النظام، لكونه يستهدف في مشروعه قوى ما كانت تُعرَف بـ"14 آذار".
ويقول رحيم إنّه توجّه إليه بالقول إنّه "سيتمّ استخدامك كما استُخدِم غيرك"، الأمر الذي لم يوافق عليه العبسي حينها، باعتبار أنّه يتعاطى "من الندّ للندّ"، ويدرك الواقع.
من جهته، يشير نائب رئيس تيار المستقبل السابق مصطفى علوش إلى أن فتح الإسلام تسلمت جميع المواقع ومخازن الأسلحة من فتح الانتفاضة بعد مجيئها إلى لبنان، فيما يرى أمين عام هيئة علماء فلسطين الشيخ محمد الحاج أنّ هذا يرسم علامات استفهام حول حصول "اختراق أمني" لهذه المجموعة.
وفي النتيجة، عادت فرضية الانتماء إلى تنظيم القاعدة التي كان أغلب حلفاء النظام السوري في لبنان يدعمونها لتفرض نفسها من جديد.
فبحسب هؤلاء، فإن تنظيم فتح الإسلام يمثّل امتدادًا مباشرًا لتنظيم القاعدة وشاكر العبسي ليس سوى جندي داخل التنظيم الذي كان يسعى إلى إيجاد موطئ قدم له في لبنان.
تسجيل صوتي.. وانفجار في دمشق
بعيد اختفاء العبسي وفقدان أثره، وصلت رسالة إلى قيادة القاعدة في أفغانستان من مدينة البوكمال السورية جاء فيها: "الشيخ الطيّار الفلسطيني لم يُقتَل، وهو مع الإخوة بأمان، حيث يتعافى من إصابة في القدم واليد".
وفي هذا السياق، يكشف أحد أعضاء التنظيم أنّ العبسي غادر المخيم متسلّلًا ليلًا، مع مجموعة من المقاتلين، وهو يحمل بطاقة هوية مزوّرة كانت معه قبل المعركة.
لاحقًا، سيعود العبسي للظهور مرّة أخرى، لكن عبر تسجيل صوتي منسوب إليه، يعلن فيه "الجهاد" واستمرار القتال بوجه من سمّاهم "الجيش اللبناني الصليبي والرافضة في لبنان". وبدأت مواقع "جهادية" تنشر أخبارًا عن قرب وصول العبسي إلى العراق، بينما نفت زوجته صحّة الصوت المنسوب إليه.
عن هذا التسجيل، يقول أمين عام هيئة علماء فلسطين الشيخ محمد الحاج: "سمعنا هذا الشريط، وحصلت تحليلات للصوت وللخطاب الذي قيل إنّه من شاكر العبسي، لكن قناعتنا أنّه ليس هو صاحب الصوت".
ويضيف: "لاحقًا، قال لنا أحد المحامين إنّ التسجيل كان مفبركًا من المدعو محمد عوض، الذي أعلن لاحقًا أنّه قائد التنظيم من مخيم عين الحلوة، وتمّت تصفيته في البقاع بعد مطاردة من مخابرات الجيش اللبناني".
في المقابل، يعتبر عضو هيئة علماء المسلمين الشيخ نبيل رحيم أنّ الشريط "صحيح مئة في المئة"، وأنّ "هذا صوته".
في النتيجة، بقي السجال قائمًا بشأن العبسي وخلفيته الأيديولوجية حتى سبتمبر/ أيلول 2008، حيث عادت أخبار التنظيم لتحتل شاشات التلفزة ومواقع الأخبار العالمية، بعد أن خرج التلفزيون التابع للنظام السوري ليعرض اعترافات قال إنها لمجموعة من فتح الإسلام تولّت التخطيط والتنفيذ لانفجار في العاصمة السورية.
كان من بين هؤلاء وفاء ابنة شاكر العبسي التي ادعت لاحقًا عند إطلاق سراحها أن مخابرات النظام جنّدت عدة نساء اخترقن التنظيم في سوريا وتمكنّ من الوصول إلى والدها، وأنه عشية ظهورها على التلفزيون الرسمي أدخلها المحققون على آصف شوكت الذي وعد بالإفراج عن أبنائها القصّر المعتقلين معها في السجن إذا قرأت ورقة اعترافات أعدّتها قوات النظام بشأن المجموعة ومن يدعمها.