قربانًا على درب الجلجلة، مشى الراهب باولو دالوليو الإيطالي الأصل والسوري التأصل والتعصب خطواته الأخيرة على أرض سوريا التي أحبّ.
ففي 29 يوليو/ تموز عام 2013، مضى الرسول إلى مراسم صلبه في مبنى محافظة الرقة. وكانت ثلاث ساعات كفيلة بإثارة الخوف والقلق في أذهان أصدقائه.
تضاعف هذا الخوف في ظل الاغتيالات وعمليات الاختطاف المتصاعدة في تلك الفترة من جهة، وحساسية شخصية الأب باولو من منظور تنظيم الدولة المتشدد من جهة ثانية.
حينها، اتُخذ القرار بالذهاب إلى مقر التنظيم للسؤال عنه، وهو ما حصل، وفق ما يكشف الناشط والصحافي إياس الدعيس، الذي يقدّم شهادته في البرنامج الوثائقي "مختفون".
يقول الدعيس: "دخلنا إلى قبو المبنى حيث كان هناك مقاعد للانتظار. وصل عبد الرحمن الفيصل وهو أمير إحدى المناطق في الرقة. أخبرناه أننا نريد السؤال عن الأب الذي وصل إلى المبنى واختفى".
لكنّ ردّ الفيصل كان أنّه "لم يأتِ إلى هنا"، وفق الدعيس، الذي يكشف أنّه أجابه: "لقد أوصلناه نحن إلى هنا"، ليرد الفيصل حالفًا اليمين: "لم يصل إلى هنا ولم أره".
لحظات الانتظار الثقيلة
مرت تلك الساعات التي قضاها الأب باولو في الداخل، ثقيلة على قلب شقيقته فرانشيسكا دالوليو، إلى أن أفلت الخبر المشؤوم من عقارب الزمن.
تقول فرانشيسكا: "أعتقد أنني لن أنسى ذلك اليوم أبدًا. كانت الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، وكنّا في بلدة روكا دي ميتسو، ووردتنا الأخبار عن اختطاف باولو".
وتضيف: "اتصل بنا أحد أشقائي هاتفيًا وأخبرنا بخطفه. كانت أخبارًا ثقيلة على صدورنا، رغم أنني توقعت حصول ذلك".
تشير إلى أن إخوته وأبناءهم كانوا في حالة قلق حقيقية حيال اختطافه، وتتابع قائلة: "شرعت في قراءة كتاب باولو (الغضب والنور). قرأته دفعة واحدة بعاطفة جياشة، ودار في خلدي أن باولو لم يعد ملكًا لنا، وبات بعيدًا عن الألم والعذاب، فقد ذهب باولو في مهمّته".
وتقول: "ربما أبدو متناقضة بعض الشيء في ما أقول، لكنني شعرت بالحاجة إلى الانحناء أمام شخصية باولو تقديرًا لما كان يفعله".
الأب الثائر
لا رهبانية في الثورة، من هذا المنطلق وقف الأب باولو باكرًا إلى جانب الحراك الشعبي بعدما قضى 30 عامًا إلى جانب تطويع صخور القلمون في صب الأساس لديمقراطية تعددية، كمن يتحضر لميلاد سوريا الجديدة من مغارته في دير مار موسى الحبشي. فما إن قامت الثورة حتى قام معها كواحد من الناس.
تستذكر هند قبوات، وهي صديقة مقربة من الأب باولو، أنها ذهبت إلى مار موسى برفقة فريق يضم مسيحيين ومسلمين وعلويين ودروز في 2 أغسطس/ آب 2011، فقال لها الأب: "يجب أن نستمر في العمل ويجب أن نبقى واقفين في المكان الصحيح. أخلاقنا لا تسمح لنا سوى بالوقوف مع الشعب".
وجاء في بيان "الديمقراطية التوافقية في سبيل الوحدة الوطنية" الذي تقدّم به الأب باولو: "النموذج الذي نقترحه لكونه مناسبًا لوضع سوريا حاليًا مبني على أهمية دور الرئاسة كجهة ضامنة للوحدة الوطنية، لذلك لا بد من انتخاب هذا الرئيس من خلال عملية توافقية تفاوضية".
طرد الأب باولو من سوريا
لم يطل صبر نظام الأسد كثيرًا، إذ أصدر قرارًا بطرد الأب باولو بعد شهرين من تقديمه مبادرته في أغسطس/ آب 2011، ثم أتبعها بنداء الميلاد، داعيًا فيهما إلى التغيير السلمي والمصالحة بين السوريين.
وتشير قبوات إلى أن حديث باولو عن الديمقراطية كان الخط الأحمر بالنسبة للنظام السوري الذي انزعج بعد زيارة باولو إلى القصير.
في يونيو/ حزيران 2012، غادر الأب باولو سوريا وهو ينظر إليها بمرآة قلبه، واثقًا بعودة قريبة كما خطّ في رسالة الوداع.
وقال فيها: "إلى اللقاء يا أقربائي، المسلمين منهم والمسيحيين، فإنّكم في قلبي أمة واحدة أنتمي إليها وحدها. إلى اللقاء. فاللقاء إن شاء الله قريب. نعم إنني ذاهب. لكنني بقدر ما أبتعد في المدى أتعمق في انتمائي العربي والسوري والقلموني".
عن هذه المحطة تتحدّث شقيقته، فتقول: "أتذكّر عندما تمّ طرد باولو من سوريا عام 2012، تحديدًا في شهر يونيو، كان الألم يعتصر قلبه حزنًا على سوريا. وزاد في ألمه أنه لم يعد إلى جانب هؤلاء الشبّان الأوائل الذين قاتلوا بصدور عارية من أجل حقوقهم".
رحلة الأب باولو دالوليو في سوريا
في سياق حديثها ضمن برنامج "مختفون"، تستذكر فرانشيسكا رحلة الأب باولو في سوريا. تقول: "عام 1972، أو 1972، سافر إلى سوريا، تلك الأرض التي كانت بالنسبة إليه موطن الأب سان باولو الذي لطالما تحدثنا عنه في جلسات العائلة، وكان باولو قد سمي تيمنًا باسمه". وتضيف: "كان ارتباطه بسوريا نتيجة لذلك، كما أدركنا لاحقًا".
وتتابع قائلة: "عام 1982، انتقل باولو إلى مار موسى. قبل سفره إلى سوريا كان يقول لوالدتي أنا ذاهب لأصبح عربيًا، لذلك كان انغماسه في الثقافة العربية كبيرًا، حتى إنه تقرّب من إخوانه المسلمين".
وخلف آثار قلبه مضى عاشق الإسلام مؤمنًا بعيسى من روما الفاتيكان إلى شرقي مدينة النبك القلمونية، حيث أقام مار موسى الحبشي ديره فوق برج روماني قبل 14 قرنًا، ليعيد الراهب اليسوعي بولس ترميمه عمرانًا وهوية عبر مشروع حوار الأديان، خدمة لما أسماه التناغم الإسلامي المسيحي.
وتقول قبوات: "كان خيار الأب باولو أن يكون في مار موسى"، فهو لم يرد أن يكون راهبًا عاديًا يتعبد، حيث كان المسلمون يجدون بهذا الدير منزلهم".
وبحسب قبوات، كاب الأب باولو يقول: "إن ما يميّز أهل سوريا أنهم أحبوني من دون حدود أو مصلحة".
وبعد طرده من سوريا، انتقل الأب باولو إلى مدينة السليمانية شمالي العراق، ثم باشر بجولة في أروقة الدبلوماسية الغربية كسفير للثورة السورية، منتقدًا صمت المجتمع الدولي وداعيًا لدعم الثورة بشتى السبل، من دون أن يغفل عن تقديم مقاربة حساسة ومبصرة للحالة الإسلامية المتصاعدة، ولا سيما الراديكالية منها.
وبحسب شقيقته، فقد أقام باولو في صيف عام 2012 في بلدة روكا دي ميتسو، و"هناك كانت اللحظة التي استطاع باولو أن يوصل إلينا فيها رسالته". وتضيف: "لذلك فإنّ الرسالة التي بعثها إليه كوفي عنان قبل وقت قصير من اختطافه، لم تدفعه بعيدًا عن قضية سوريا، بل استمرّ بالقيام برحلات في محاولة للفت انتباه العالم كلّه إلى ما كان يجري في سوريا".
زيارة الرقة
لم يكتف الأب باولو بجولاته خارج البلاد، بل تنقل منها إلى الداخل السوري، مساهمًا في رأب الصدع بين قوى المعارضة، إلى أن قرر الذهاب في يوليو/ تموز 2013 إلى مدينة الرقة في تماهٍ مُطلَقٍ مع إيمانه بأن الثورة التزام، كما كتب في رسالته الأخيرة.
وتروي قبوات تفاصيل لحظة وداعها للأب باولو في يونيو/ أيار 2013 في اسطنبول، وتشير إلى أنها حذّرته من الخطر المحدق به. لكنه أجابها: "إن المسيح لا يقبع في مكانه بل يفعل كل شيء للوقوف إلى جانب الناس الذين يحتاجونه. سأذهب لأتحدث بشأن المعتقلين لدى داعش".
من جهته، يتحدث خلف الغازي، وهو محامٍ من الرقة، عن تفاصيل لقائه مع الأب باولو في المدينة، وتحديدًا خلال شهر رمضان.
ويروي الغازي أن الأب باولو قال له: "جئت إلى هنا صائمًا متضامنًا مع المسلمين ومع الثورة السورية، لأنقل أمانة لأبو بكر البغدادي".
وعن الأسباب التي دفعت الأب باولو لزيارة الرقة، يتحدّث أيضًا الناشط والصحافي إياس الدعيس، حيث يشير إلى أنّها أول محافظة خرجت عن سيطرة النظام، ورفعت علم الثورة، وبالتالي كانت رمزًا من رموز الثورة السورية، كما أنّ الأب باولو كان أيضًا يريد معرفة مصير المسيحيين الموجودين في المنطقة.
وتكشف شقيقته أنّه أرسل إلى عائلته بريدًا إلكترونيًا من الرقة، قال فيه: "أنا هنا في سوريا الحرة، في منزل أصدقائي الأعزاء. إنه منزل صالح. أنا بخير". وظهر الأب باولو في فيديو من الرقة يتحدث في مظاهرة.
تقول شقيقته: "بالطبع رأيت ذلك الفيديو من الرقة حين تحدث باولو في المظاهرة. هناك شيء واحد أذهلني كثيرًا، حينما صاح باولو (سوريا حرّة) على الملأ أمام الجميع، وكان انفعاله واضحًا. ثمّ توقف عن الكلام وابتسم ابتسامة جميلة. تلقيت رسالة مفادها أنه مستعدّ لأيّ شيء، وأنه يعلم أنها لحظة مهمّة بالنسبة إليه".
اليوم الأخير في الضوء
صباح 29 يوليو/ تموز 2013، مضى الأب باولو إلى مقر تنظيم الدولة بحسن ظنه ورسالته السامية، ليخطو بذلك نحو ما سيكون قدره الأخير.
ووفقًا لرواية الناشط والصحافي إياس الدعيس، فإنّ الأب باولو أراد الذهاب بشكل شخصي، لكنّ أحد أصدقائه أصرّ على إيصاله بسيارته. ويشير إلى أنّ الأب باولو طلب النزول في شارع فرعي قبل المبنى، تقع فيه كنيسة سيدة البشارة، ثمّ نزل من السيارة متوجّهًا إلى مقر التنظيم، ووصل إلى المقر، واختفى.
وعلى الرغم من شيوع هذه الرواية، إلا أنّ المحامي خلف الغازي يقدّم لـ"العربي" رواية أخرى، تفيد باختطاف الأب باولو بعد خروجه من مقر التنظيم.
ويروي أنه اتفق على لقاء الأب باولو قرب صيدلية، وعند توجهه إلى المكان، توقفت سيارة وخرج منها 4 أشخاص واختطفوه.
روايات متناقضة حول مصير الأب باولو
غيّب تنظيم الدولة الأب باولو منذ ذلك اليوم، من دون أن تظهر طيلة السنوات التالية أي إشارة قطعية حول مصيره، مع تضارب كبير في الروايات، والتي كان آخرها ما قدّمه الباحث عبد الناصر العايد في جريدة المدن من شهادة أحد قياديي التنظيم، والذي أكّد إعدام الأب باولو على يد القيادي في التنظيم كسّاب الجزراوي بعد ساعة من اختطافه.
لكن شقيقته تقول: "أعتقد أن باولو لم يقتل مباشرة، وأنه كان على قيد الحياة عام 2014، وكان على قيد الحياة عندما وقع حصار الباغوز، لأنّ الأخبار كثيرة، حتى ولو كانت من مصادر مختلفة".
وتضيف: "بعد سنوات لا زلت أبحث عن الحقيقة، وأناشد أي شخص يعرف شيئًا أن يخبرنا به مهما كان صغيرًا، فقد مرّت ثماني سنوات ونصف، حتى إن لم يكن قد تعامل بشكل مباشر مع باولو".
وتردف: "الأمر المهمّ الآخر أنّه في عام 2020 وقبل عيد ميلاد باولو بيوم، أعيد عرض خمسة ملايين دولار لمن يقدّم معلومات عن باولو، ونشر ذلك في المواقع العربية".
ويؤكد الناشط والصحافي إياس الدعيس من جهته، أن عبد الرحمن الفيصل الذي كان أميرًا في التنظيم يعلم شيئًا، مشيرًا إلى أنه تم اعتقاله بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية ثم بقي موجودًا بصورة مدنية في ريف الرقة.
في أي مكان هو وفي أي سبيل يمكن البحث عمن سلك الطريق إلى الله مفتديًا أحلامه بروح الزاهد وقلب المؤمن ونفس القديس؟
باختصار، لا يزال السؤال عنه يتنقل من مار موسى إلى روما كل ليلة محمولًا في قلوب آلاف السوريين ممن أحبوا الثائر والإنسان ورفعوا صلواتهم على أبواب الأمل والرجاء بعودته قريبًا.
قضية الكاهن الإيطالي اليسوعي الأب باولو دالوليو يفتحها "العربي" بعد عشر سنوات على اختفائه، من خلال شهادات مثيرة حول الأيام الأخيرة قبل اختفاء الأب باولو في مدينة الرقة، في الحلقة المرفقة من السلسلة الوثائقية الجديدة "مختفون".