أُرسل البريطاني هاري سانت جون فيلبي، مبعوثًا ليثني الأمير عبد العزيز بن سعود عن مهاجمة خصومه في الحجاز، لكنه أصبح الشخصية المحورية في تشكيل الشرق الأوسط وصديقًا قدّم المشورة للملك عبد العزيز بن سعود والرجل الذي اعتنق الإسلام وساهم في استكشاف النفط السعودي.
مؤتمر القاهرة
انعقد مؤتمر القاهرة عام 1921 برئاسة وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل وبحضور 40 موظفًا إداريًا وسياسيًا وعسكريًا من البريطانيين الذين كانوا يشغلون مناصب هامة في مختلف أرجاء الوطن العربي آنذاك.
وكان هناك اتجاهان في مؤتمر القاهرة فيما يتعلّق بمنطقة فلسطين وشرق الأردن. اتجاه يقوده هربرت صاموئيل المندوب السامي البريطاني على فلسطين بضم شرق الأردن إلى إدارته واتجاه يقوده تشرشل وتوماس إدوارد لورنس لضرورة التفاهم مع الأمير عبد الله.
وتم اتخاذ القرار بتأسيس إمارة شرق الأردن وبدأ لورانس بالعمل مستشارًا للأمير، إلّا انه اقترح أن يخلفه رجل آخر بعد أخذ الموافقة من تشرتشل. كان هذا الرجل على النقيض تمامًا بخصوص السياسات البريطانية في المنطقة وخصوصًا لتفضيله السعوديين على الهاشميين.
وفي مذكراته، يقول فيلبي: "أخذني لورانس إلى خيمة عبد الله مباشرة وانسجمنا منذ البداية وقال لي؛ نحن نعرف ما فعلته لابن سعود وإذا فعلت لي الشيء نفسه سأكون شاكرًا ومقدرًا لك بالفعل. وكان عبد الله آسرًا فهو متحدث لبق ذو حس أدبي وفكري مرهف، وكان لورانس على ما يرام إلّا أنه كانت تعيقه الفكرة المسيطرة عليه بأن مستقبل الجزيرة العربية يقع تحت ظل السيطرة الشريفية، وأنا لم أؤمن بهذه الفكرة قط. ولقد أثبتت الأيام صدق توجهي ولكنني في هذه المدة كنت مستعدًا لمساعدة أي ركن صغير في الجزيرة العربية لكي يتطور ويصبح دولة مستقلة حتى ولو كان ذلك تحت حكم الشريف".
شخصية إشكالية
ويشير الأستاذ في التاريخ المعاصر د. أمجد الزعبي إلى أن شخصية فيلبي كانت إشكالية ومشروعه كان مختلفًا تمامًا ومتناقضًا مع مشروع الهاشمية وذلك يخدم المشروع البريطاني بحيث لا ينجح مشروع على حساب آخر بل يبقى الإثنان على طرفي نقيض لتحقيق المصالح البريطانية".
ومع نشوء إمارة شرق الأردن عام 1921، أصبحت سلطنة نجد وملحقاتها محاطة بطوق هاشمي على طول حدودها الشمالية والغربية، حيث أصبح فيصل ملكًا على العراق وعبد الله أميرًا على شرق الأردن والملك حسين ملكًا على الحجاز.
وفي العام نفسه، تمكن ابن سعود من السيطرة على حائل وضمها إلى سلطنته، ثم استمر بالتوسع شمالًا حتى اقترب من منطقة الجوف وما يُعرف بوادي السرحان. وبسبب هذا التوسع، قام مجحم الشعلان، شيخ عرب منطقة الجوف بالتوجه إلى الأمير عبد الله بن الحسين طلبًا للدفاع عن المنطقة مقابل الاعتراف بسلطانه عليها.
ويشرح الزعبي أن الأمير عبد الله بادر إلى توقيع اتفاقية قادها ووقعها فيلبي، تنص على خضوع الأمير مجحم الشعلان وعرب منطقة الجوف لإمارة شرق الأردن وهذا ما دفع ابن سعود لعدم الاعتراف بهذه الاتفاقية وهاجم المنطقة وأجبر الشعلان على الولاء والتبعية له.
وبعد السيطرة على الجوف ووادي السرحان، استمر زحف جيش الأخوان شمالًا إخوان من طاع الله وهو القوة الضاربة في جيش ابن سعود من قبائل مطير وعتيبة والعجمان.
وصل الجيش إلى عمان وتصدى لهم بداية قبائل بني صخر وسرعان ما تدخلت القوات البريطانية بالطائرات والسيارات المصفحة لردع الهجوم السعودي. وعلى الرغم من دور فيلبي المهم في ضبط الحدود وردع الاضطرابات الداخلية وخاصة ثورة العدوان ضد حكومة الأمير عبد الله، إلّأ أن علاقة فيلبي بالأمير وبالحكومة البريطانية بدأت بالاضطراب.
وهو ما أكّده الباحث المتخصص في العراق وشبه الجزيرة العربية د. علي عفيفي في حديث إلى "العربي". وأوضح أن علاقة فيلبي مع إمارة شرق الأردن والحكومة البريطانية بدأت في الاضطراب ولم يطل به الأمر في تلك المنطقة بسبب معارضة فيلبي لتوجهات البريطانيين في توطين اليهود في فلسطين.
ويقول الزعبي: "كان رأي فيلبي بأن فلسطين لا تصلح لإقامة مثل هذا الوطن، وله رأي واضح من هجرة اليهود المتزايدة إليها رغم أنه ليس لديه موقف معادٍ لليهود تحديدًا".
استقالة فيلبي
وتطرق فيلبي في مذكراته إلى عديد من الصدامات مع هيبربت صاموئيل المندوب السامي في فلسطين بسبب تدخل الحكومة الانتدابية في مناطق إدارته شرقي النهر مما دفع فيلبي في النهاية إلى تقديم استقالته ليس من إدارة إمارة شرق الأردن فحسب، بل من الخدمة في الحكومة البريطانية بشكل نهائي.
ويقول فيلبي في مذكراته: "إنني أحس بأنه قد نشأ لدى اليد هيربت صموئيل مؤخرًا توجه لتمديد قبضة الحكومة الفلسطينية على إدارة الأردن بأسلوب يتعارض مع السياسة التي وضحها لي السيد تشرشل نفسه. ولا يمكنني ان أظل مرتبطًا بهذا التعديل الرجعي للسياسة في هذه الظروف لذا فقد آثرت تقديم استقالتي بحيث تصبح نافذة في الوقت المناسب".
ويرى بعض الباحثين أن سبب استقالة فيلبي من الحكومة البريطانية ربما يكون مرتبطًا بوعود لصديقه عبد العزيز ابن سعود بأن يصبح وزيرًا في دولته حيث كان فيلبي قد تنبأ فعلًا في الأحداث التي تلت استقالته.
الحرب النجدية الحجازية
ففي الثالث من مارس/ آذار 1924 صدر الخبر الذي زلزل أركان العالم الإسلامي وهو إلغاء الخلافة العثمانية بقرار من الجمعية الوطنية التركية، الأمر الذي أثار تجدد الحرب في شبه الجزيرة العربية حيث رأى الشريف حسين ابن علي ملك الحجاز نفسه الأصلح لتولي الخلافة، لكنه لم يحصل على إجماع العالم الإسلامي وخصوصًا من خصمه سلطان نجد حيث بدأ ابن سعود بحشد قواته في الرياض وعلى رأسهم زعماء إخوان من طاع الله مشعلًا بذلك الحرب النجدية الحجازية.
العودة إلى لندن
عاد فيلبي بعد استقالته إلى لندن وحاول أن يصبح عضوًا في البرلمان عن حزب العمال، غير أنه فشل في ذلك. ولم يدم مكوثه في لندن طويلًا وهبّت رياح جديدة عادت به إلى الجزيرة العربية بعد أن اتصلت به المستكشفة الإنكليزية الشهيرة روزيتا فورابس لكي ينضم إليها بمشروع لاجتياز صحراء الربع الخالي، الصحراء الجنوبية العظمى في شبه الجزيرة العربية.
ويضيف فيلبي في مذكراته: "في تلك الأيام كانت قصة لورانس لها الأولوية العليا في أسواق النشر, والمرأة التي تغامر بشاعرية في تلك البلاد الخطرة لا شك أنها تساوي وزنها ذهبًا. فوضعت الديلي تلغراف مبلغًا مغريًا قدره 4000 جنيه إسترليني لهذا المشروع".
ويشير المؤلف والمؤرخ البريطاني جون هارت أنه كانت لديه فكرة أنه إذا وجد مكانًا جديدًا لاستكشافه لم يعرف عنه أي أحد فسوف يصبح مستكشفًا مشهورًا. ويقول: "كان دائمًا أول شخص يفعل أي شيء. لذا قرر أن يستكشف على ظهر جمل صحراء الربع الخالي".
وسافر كلاهما إلى الجزيرة العربية، لكنهما لم يستطيعا مغادرة جدة التي كانت ترزح تحت الحصار الذي يفرضه ابن سعود. وبعد فشل مشروعه الاستكشافي عاد فيلبي مجددًا إلى لندن.
فيلبي جزء من حاشية الملك
ثم صدقت توقعات فيلبي بشأن مستقبل الجزيرة العربية ومن سيحكمها، ففي شهر ديسمر/ كانون الأول 1925 دخل ابن سعود جدة مكملًا بذلك السيطرة على الحجاز وبات جزءًا من حاشية الملك الجديد والذي يوثقها مترجم الملك الخاص محمد المانع.
كان فيلبي الرجل الغربي الوحيد الذي استطاع الملك أن يعتمد على مشورته كثيرًا في الأوضاع والمواقف الخارجية وقد أدّت مقدرته على الوصول إلى هذا الموقع الفريد إلى كثير من التسؤلات في الديوان حول الطبيعة الحقيقية لدوافعه". فخشي كثير من الناس بأن يكون عميلًا للحكومة البريطانية وأن غرضه كان إقناع الملك بتبني سياسة مؤيدة لها.
فيلبي يعتنق الإسلام
ويقول المؤلف والمؤرخ البريطاني جون هارت: "لقد أدرك الكراهية التي كان يكتسبها يوميًا من الإخوان المحاربين والغيرة من العرب في البلاط، حيث لم يكن يُنظر إليه على أنه واحد منهم. وعندها قرر أنه يجب أن يعتنق الإسلام".
وأعلن فيلبي إسلامه عام 1930، وأصبح اسمه عبد الله فيلبي، بحسب الباحث المتخصص في العراق وشبه لجزيرة العربية د. علي عفيفي.
وحول هذه الفكرة، يقول فيلبي في مذكراته: "منذ قراري النهائي بإنهاء ارتباطاتي بالحكومة البريطانية في عام 1925 ومنذ أيامي الأولى في الهند راقني واجتذبني الإسلام بشدة تركيزه البسيط على ما كان يبدو لي بأنه الحقائق الخالدة للحياة والفلسفة. ومنذ أيام طويلة لم أعد مسيحيًا وإنما أصبحت فيلسوفًا ليس لديه ما يشبه طبيعة المشاعر أو المعتقدات الدينية على الرغم من أني كنت على استعداد أن أقر بأن الدين ضرورة لا فكاك منها بالنسبة لأغلبية البشر".
المستكشف العظيم
لم يشغل فيلبي وظيفة رسمية في بلاط الملك، إلّا أن الملك عبد العزيز وحسب ما ذكر في كتابه "أيام عربية" أصرّ على صرف راتب شهري امتنع فيلبي عن تحصيله. كما تمتّع بحق الدخول الفوري والخصوصي لمجلس الملك ومثّلت تلك الفترة انطلاقة أعماله التجارية في المملكة بين توريد المحطات اللاسلكية وتجارة السيارات.
وبعد بضع سنوات كلّف الملك عبد العزيز فيلبي بمهمة لطالما انتظرها وكان يتوق لأن يكون السبّاق لها وهي استكشاف صحراء الربع الخالي.
ويشير عفيفي إلى أن فيلبي قام برحلة إلى الربع الخالي بهدف ترسيم الحدود مع إمارات ساحل عمان خاصة أبو ظبي وإمارة مسقط والإمارات الجنوبية. وكانت تلك الفترة تسودها صراعات حول الحدود.
ولم يكن هذا أول إنجاز لفيلبي في عبور الصحراء الذي استحق عليه لقب المستكشف العظيم، حيث كان قد فاز عن رحلاته الأولى من الرياض إلى جدة عام 1917 بوسام الـ"فاوندر من "الجمعية الجغرافية الملكية". كما بحث عن مدينة إيرم المفقودة لكن بدل من العثور على آثار المدينة اكتشف فوهة بركان خام في الرمال.
عصر النفط
وكان الكساد الاقتصادي الذي بدأ في الولايات المتحدة عام 1929 يزحف باتجاه جميع أنحاء العالم ووصلت آثاره إلى الجزيرة العربية في صورة انخفاض أعداد الحجيج الزائرين عام 1931 ما يعني هبوط في إيرادات الجزيرة العربية السعودية. وبدأت هموم ابن سعود تزداد شيئًا فشيئًا بسبب التغيّر المفاجئ وضعف الموارد المالية.
ويقول هارت: "كان يعلم أن هناك فرصة سانحة ولأنه كان انتهازيًا كان مصممًا على استغلال تلك الفرصة".
وبحسب هارت، تغير الأمر عندما كان فيلبي يسير مع ابن سعود في الحديقة وقال له: "ربما نسير فوق منجم ذهب". وقد ساله ابن سعود عما يعنيه فأجابه فيلبي: "أعني أن بلادك بها ثروات مطمورة مثل النفط والذهب ولم تستغلها انت ولم تدع شخصًا آخر يستغلها لك". فأجاب ابن سعود بضجر: "ها أنا أقول لك يا فيلبي إذا دفع أي شخص مبلغ مليون جنيه الآن سأمنحه كل الامتيازات التي يريدها في بلادنا". فرد فيلبي: "ولكنها تساري أكثر من ذلك بكثير، وإذا كنت تعني ما قلته تمامًا فإني أعرف رجلًا يمكنه مساعدتك".
ويلفت هارت إلى أن فيلبي اتصل بشركتي نفط أميركية وبريطانية.
وبينما كان ابن سعود يريد العمل مع الشركة البريطانية لأنه يثق بالبريطانيين، كان فيلبي اتخذ قراره بالعمل مع شركة "ستاندرد أويل" الأميركية للحصول على عمولة، بحسب عفيفي. وقد حصل على ما أراد.
ووضع فيلبي حجر الأساس لشركة "كاليفورنيا العربية للنفط" التي تأسست عام 1930 وقد تغيّر اسمها عام 1944 إلى أن أصدر الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود أمرًا ملكيًا عام 1988 بتأسيس شركة "أرامكو العربية السعودية" التي تعد أكبر شركة في العالم من حيث القيمة السوقية.
الرجل الوسيط
أصبح فيلبي وسيطًا ووسيلة اتصال بالعالم الخارجي. حاول بن غوريون استخدام فيلبي وسيطًا بين الحركة الصهيونية والملك ابن سعود. وبعد أيام قليلة من اجتماعهم أرسل فيلبي إلى بن غوريون مسودة معاهدة يتخلى بموجبها الصهاينة عن وعد بلفور مقابل الترحيب بهم في الشرق الأوسط من قبل اتحاد عربي برئاسة ابن سعود.
واقترح فيلبي أن تكون فلسطين مفتوحة أمام هجرة كل من يسعون إلى أن يصبحوا مواطنيها بغض النظر عن العرق أو الدين. لكن بن غوريون أرسل إلى فيلبي اقتراحًا مضادًا ولم يرد عليه الأخير أبدًا.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 أصبح موقف فيلبي من الحرب ولاسيما ألمانيا مبعث قلق للملك ابن سعود.
توفي الملك عبد العزيز بن سعود عام 1953 وخسر فيلبي صديقه القديم ولم تكن علاقته بالملك الجديد كسابقتها.