سجّل ساطع الحصري، المنظّر القومي كما عرفه العالم العربي، والتربوي البارع كما يعرفه الأتراك العثمانيون، قصة حياته في عدة كتب كان منها "مذكراتي في العراق" و"يوم ميسلون".
وأثّر الحصري في أوساط المثقفين العرب كمرب وصاحب عقيدة ومحاضر وكاتب غزير الإنتاج ومؤتمن على سر الملك فيصل.
استمر الحصري في مناصرة قضية القومية العربية قرابة النصف قرن. ولم تفتر – رغم تقلب الأحداث - حماسته لهذه القضية.
وعام 1968 توفّي في بغداد لتنتهي بذلك رحلته التي استمرّت 88 عامًا، لكن ماذا في بداياتها؟
"انفصلت سوريا عنا"
عام 1919، فاجأت صحيفة "وقت" الإسطنبولية قرّاءها بعبارة "لقد انفصلت سوريا عنا"، ولم يكن ذلك عند انسحاب القوات العثمانية من سوريا، بل بعدها بقرابة عام كامل.
جاء ذلك مع قرار ساطع الحصري، أشهر مفكر سوري عثماني، الرحيل عن مدينة إسطنبول التركية إلى دمشق عام 1919؛ فضجّت الصحف تناشده أن يبقى بينهم لأنه يمثل بالنسبة إليهم رأس مال الدولة العثمانية الأصيل.
من هو ساطع الحصري؟
وُلد لأب من أصول سورية عام 1880 في الهزيع الأخير من الدولة العثمانية، التي كانت تعصف بها رياح القومية وتضربها أمواج الاستعمار القادم عبر البحار.
كان والده يعمل رئيسًا لمحكمة الاستئناف الجنائية في صنعاء اليمن، موظفًا لدى الدولة العثمانية. وهكذا نشأ ساطع متنقلًا بين حواضر هذه الدولة.
تخرّج من المدرسة الملكية بدرجة امتياز، وهي مدرسة علمانية أُسست لتخريج كفاءات مؤهلة للعمل في جهاز الدولة الإداري.
غير أن ساطع لم يرغب في الالتحاق بالوظائف الحكومية، وعُين بناء على طلبه، مدرسًا للعلوم الطبيعية في إحدى مدارس البلقان.
ونحوها ارتحل مطلع القرن العشرين، وبقي فيها ثماني سنوات، كان لها بالغ الأثر في تشكيل وعيه السياسي.
وسعى الحصري أثناء عمله في البلقان إلى تطبيق رؤاه التربوية الإصلاحية في مدارس السلطنة، لكنه سرعان ما شعر بالعجز والإحباط، نتيجة الفساد المستشري في جهاز الدولة الإداري المتهالك آنذاك.
ووصل الحصري إلى قناعة بعدم جدوى الإصلاح التربوي في غياب الإصلاح السياسي.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث والكاتب في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات صقر أبو فخر إن "الإصلاح لدى الحصري يتعلق بتحديث بنى الدولة، ولا سيما التعليم، لأنه كان في الأساس رجل تربية وتعليم ومارس هذه المهنة في كثير من مناطق الدولة العثمانية.
مسافة واحدة من الجمعيات
شارك الحصري في حركة تموز عام 1908، والتي أدّت لاحقًا إلى الإطاحة بالسلطان عبدالحميد الثاني. لكنه نفر من أجواء المراوغات السياسية، ورفض تسلم أي من المناصب الإدارية التي عرضها عليه القائد العسكري الأبرز في حركة تموز محمود شوكت باشا.
طوى الحصري صفحة البلقان وانتقل إلى إسطنبول ليتسلم إدارة دار المعلمين، ويؤسس مجلة أنوار العلوم، مستئنفًا نشاطه الإصلاحي التربوي الذي أسبغ عليه لقب "أبي التربية التركية".
ورغم صداقته مع عدد من القوميين العرب على غرار عبد الكريم الخليل، أمين سر المؤتمر العربي الأول في باريس، إلا أن الحصري حافظ على مسافة واحدة من الجمعيات السياسية العربية الناشئة آنذاك في إسطنبول.
وكان العالم العربي، وبالتحديد بلاد الشام والعراق، قد شهدت قبيل الحرب العالمية الأولى ظهور الكثير من الجمعيات السياسية والأدبية والإصلاحية، وفق ما يقول أبو فخر.
ويشرح أن الفكر القومي العربي آنذاك كان في مراحله البدائية، وكان هناك شيء من ردة الفعل تجاه الدعوات الطورانية، أي التتريك، فكان السؤال: لم التتريك، كلنا عثمانيون؟.
بدوره، يشرح رئيس دائرة البحوث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات محمد جمال باروت أن علاقة الحركة العربية بالتتريك تعود إلى الاحتكاك السلبي في إسطنبول بين الطلبة العرب الشبان وبين الطلبة الأتراك الشبان.
ويلفت إلى أن الأتراك منهم غدوا "مقومنين"، وينطلقون من الوعي القومي ومسألة الأمة، وكانوا يأخذون الصيغ الأكثر تعصبًا.
ويقول إن الطلاب العرب اصطدموا بهذا النزع القومي التتريكي، ووُلدت أيضًا لديهم نزعة قومية عربية مضادة.
بقي الحصري مخلصًا للوطنية العثمانية من خلال جهوده التربوية والتعليمية، رافضًا الدعوات القومية إلى تفكيكها.
لكنه ما لبث أن ألف نفسه عثمانيًا بلا وطن، فالحرب العالمية الأولى وضعت أوزارها والدولة العثمانية لم يعد لها حضور على خارطة السياسة الدولية، فغادر إسطنبول قاصدًا سوريا منتصف عام 1919 ليبدأ السعي إلى بناء أمة جديدة وفق أسس جديدة.
وهكذا تحوّل ساطع بيك العثماني إلى ساطع الحصري القومي العربي، واعتبر أن انهيار الدولة العثمانية كان حتمية تاريخية لا يجوز اتهام الثورة العربية بالتسبّب بها.
سأل الحصري في مذكراته: "هل كان يمكن أن يتغيّر اتجاه الحرب من جرّاء نشوب الثورة في الحجاز، أو عدم نشوبها؟".
وأردف بأن "انكسار الألمان واستسلامهم كان من الأمور المحتمة، كما أن استسلام الدولة العثمانية أيضًا كان من النتائج التي لا بد أن تلي انهيار القوى الألمانية، سواء أثار عليها الشريف حسين أم بقي مواليًا لها".
ساطع الحصري في دمشق
وصل الحصري إلى دمشق التي أصبحت مهوى أفئدة المثقفين والقوميين العرب وأملهم بتأسيس الدولة الجديدة، بقيادة الأمير فيصل إبن الشريف حسين.
وعن لقائه الأول بالأمير فيصل في دمشق، كتب ساطع إنه كان عقب عودة الأمير من مؤتمر الصلح في باريس.
ويلفت إلى أن العلاقة التي بدأت بينهما كان مقدرًا لها أن تستمر وتتوطد دون انقطاع، مدة تزيد على 14 عامًا.
وبحسب باروت، يُلاحظ أن صورة الحصري كرجل عمل سياسي كانت قد ارتبطت بفترة الحكومة العربية، وتحديدًا في مجرى الصراع بين السوريين والفرنسيين.
عام 1920، وبينما كان ساطع الحصري يخوض صراعًا مع الحاكم العسكري العام في المملكة العربية الناشئة في سوريا، حول آليات العمل ومناهج التربية والتعليم، كانت الجيوش الفرنسية تستعد لاحتلال سوريا تنفيذًا لاتفاقية سايكس – بيكو.
حينها، وجه الجنرال غورو إنذارًا إلى حكومة فيصل يأمرها بحل الجيش العربي واعتماد النقد الفرنسي وتسليم السكك الحديدية إلى السلطة الفرنسية.
اضطر فيصل الذي وجد نفسه وحيدًا في مواجهة فرنسا، إلى القبول بشروط غورو، فأرسل إليه برقية يعلمه فيها بحل الجيش العربي. ورغم ذلك بدأ زحف القوات الفرنسية نحو دمشق.
ويشير باروت إلى أن الجنرال غورو ادّعى أن البرقية لم تصله، فأمر الجيش بالتقدم. وإزاء ذلك أوفد الملك فيصل الحصري شخصيًا، الذي طلب في طريقه هدنة من أجل تدارك الأمر.
ويكشف أن الحصري شعر - مع تشديد غورو لشروط إنذاره وإضافة شروط أخرى – بأنه مصمم على احتلال دمشق، فعاد إليها ونصح الحكومة بأن توقف عمليات تسريح الجيش وتحافظ على ما تبقى منه وأن تدافع قدر الإمكان.
الحفاظ على الشرف العسكري
صباح 24 تموز/ يوليو 1920، قاد وزير الحربية السوري يوسف العظمة ما تبقى من الجيش العربي الذي تم حله، ضد القوات الفرنسية المهاجمة، في معركة للحفاظ على الشرف العسكري.
وكتب الحصري في هذا الشأن: "ما كنت أجد مجالًا للشك في النتيجة الأليمة التي ستنتهي إليها المعركة، ومع ذلك كنت أتمنى أن تطول على قدر الإمكان، وأمنّي نفسي بمعركة عنيفة تساعد على حفظ شرفنا العسكري على أقل تقدير".
أردف: "وانكسر الجيش، واخترقت الجبهة، وقالوا يوسف العظمة قتل في ميسلون. قلت بل إنه انتحر هناك واستشهد على كل حال".
إلى ذلك، يشير باروت إلى أن الحصري ظل يمارس دورًا سياسيًا، حيث سافر مع الملك فيصل إلى روما من أجل طرح القضية السورية في الهيئات الدولية في أوروبا.
وكتب الحصري أن فيصل ألقى عليه مهمة جديدة، وهي "السفر إلى إسطنبول للاتصال بالكماليين من أتباع مصطفى كمال، ومعرفة مدى المساعدات التي يمكن أن نأمل بها منهم في كفاحنا ضد الفرنسيين".
وفي هذا الشأن، كشف باروت أن ساطع الحصري أقام في إسطنبول، ووصل من طريق زملائه القدامى في جمعية الاتحاد والترقي، وجاءته رسالة المجلس الوطني الكبير بالموافقة على هذا التحالف، على أن تكون الأولوية هي العمل في سوريا.
ويشير إلى أن أولويات الملك فيصل تبدلت بعد ذلك، عندما تم "تسميعه" بعرش العراق.
ساطع الحصري في العراق
رغم تخلي فيصل عن مسار المقاومة في سوريا وضياع جهود الحصري في حشد مساندة الكماليين له هناك، إلا أن الحصري استمر في مساعدة فيصل والإيمان بمشروع الدولة العربية تحت قيادته.
وما عده فاتحة الخدمات التي قدمها إلى العراق وإلى القضية العراقية بصورة مباشرة، أوجزه في التالي عبر مذكراته: "علمت خلال اتصالاتي ببعض رجال وزارة الخارجية الإيطالية أن الحكومة البريطانية أعدّت مشروعًا يتضمن صك الانتداب على العراق، ومشروعًا آخر يتضمن صك الانتداب على فلسطين".
ولفت إلى أن نسخة من كلا المشروعين أرسلت بصورة سرية إلى الخارجية الإيطالية قبل عرضهما على عصبة الأمم.
وأوضح أنه توسل بشتى الوسائل للحصول على تلك المعلومات السرية، وحصل على الوثيقة، وساعدته زوجته أم خلدون في نسخها، وضحت بنومها في تلك الليلة.
وأردف: في الصباح وصلت الوثيقة للملك فيصل، وسر بها سرورًا عظيمًا".
وبوصول ساطع الحصري إلى بغداد، انطلق على ضفاف دجلة في مشروع جديد ساعيًا إلى تحقيق آماله في الوحدة العربية من خلال توجيه التعليم توجيهًا وطنيًا ورفع مستوى دار المعلمين العليا.
وأنشأ مجلة التربية والتعليم معتمدًا القومية العربية أساسًا للمناهج الدراسية. واعتنى بمناهج التاريخ، الذي يعدّه عنصرًا مهمًا في بناء الهوية العربية كهوية سياسية للأجيال الجديدة.
واعتمدت وزارة المعارف العراقية كتاب الفلسطيني درويش المقدادي "تاريخ الأمة العربية" للتدريس في المدارس الثانوية.
ويوضح باروت أن صورة الحصري كصاحب دور سياسي مؤثر توارت مع التحاقه بالملك فيصل في العراق، وتوليه عملية تصميم مقررات ومناهج وزارة المعارف العراقية.
لكن بأي واقع اصطدم ساطع الحصري في العراق أثناء صياغة السياسات التعليمية، وأي أثر تركه رحيل الملك فيصل عليه، ولم عاد إلى مدينة حلب، ثم انتقل إلى القاهرة؟.
الإجابات ومعلومات أخرى في الحلقة المرفقة من مذكرات ساطع الحصري.