عند مطلع القرن العشرين، كانت مصر على موعد مع عواصف من الأحداث السياسية والتاريخية. أنتجت قادة كبارًا رسموا مسيرتها القومية الطويلة في التاريخ الحديث.
من بين هؤلاء مصطفى النحّاس باشا، الذي كثيرًا من يُنسى ذكره، رغم أنه ألقى بظلاله على الحياة السياسية المصرية. فلم يتولّ أي شخص رئاسة مجلس الوزراء المصري بالمدة التي قضاها هو.
خلال تلك الفترة، تمّ تشكيل خمس حكومات، استأثر النحّاس على أربعة منها.
وأوضح الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة القاهرة، في حديث لبرنامج "مذكّرات"، أن النحّاس هو ابن تاجر أخشاب بسيط من سمنّوت، واستطاع بعلمه أن يرتقي إلى مرتبة أعلى، وانحاز إلى الطبقة الوسطى، والفلّاحين، والبسطاء.
من جهته، قال فؤاد بدراوي، السكرتير العام السابق لـ"حزب الوفد": لدى دخوله كلية الحقوق، ذهب النحّاس ووالده إلى مقام الإمام الحسين، وقال والده هناك: "لقد تركت مصطفى أمانة لديك (الحسين)".
وشاءت الصدفة أن ترى مدوّنات النحّاس النور بعد كتابتها بـ97 عامًا كاملًا. بعد وفاة النحّاس، انتقلت أولًا إلى فؤاد سراج الدين، الذي آلت إليه قيادة "حزب الوفد"، دون أن يلتفت إليها أحد.
وبعد وفاة سراج الدين، بقيت طي النسيان حتى اكتشفها فؤاد بدراوي، وهو يُعيد ترتيب أوراق خاله سراج الدين.
ولم تكن الأوراق مذكّرات تفصيلية، بل كرّاسة يوميات كان النحّاس يدوّنها بنفسه خلال فترة نفيه التي استمرّت 17 شهرًا.
تروي المذكرات وجهًا إنسانيًا يوميًا لسياسيين تمّ نفيهم عن الوطن إلى جزيرة بعيدة، يكشف لنا صورة تفصيلية لحياة النحّاس ورفاقه في المنفى، وأسلوبهم في اتخاذ القرارات.
لم تسجّل اليوميات عواصف التغيير السياسي الذي عاشه النحّاس منذ ارتباط اسمه بالعمل العام.
وروى بدراوي أن الأوراق التي تركها النحّاس هي عبارة عن يوميات لا مذكّرات، وهي ترصد ما كان يقوم به من أفعال يومية.
التعليم الجامعي والانضمام إلى الحزب الوطني
التحق النحّاس بكلية الحقوق، وتخرّج منها محاميًا في مكتب الزعيم السياسي البارز آنذاك محمد فريد. لكن المحامي الذي بدأ عمله محاميًا عن حقوق أفراد محدودين في مكتب محاماة، ثمّ قاضيًا بعد ذلك، سُرعان ما أصبح محاميًا لوطن بأسره.
وبرز اسمه في فترة من أهم فترات مصر في العصر الحديث، ويخوض معها معركة التحرّر الوطني.
وأوضح عفيفي أن اهتمام النحّاس بالشأن العام بدأ في وقت مبكر جدًا، إذ إنه من الجيل الذي وُلد وعانى من مرارة ومهانة الاحتلال البريطاني لمصر. وبالتالي، فإنه مع بداية القرن العشرين، ومع عودة الحركة الوطنية في مصر من جديد، ونشأة الأحزاب لا سيما "الحزب الوطني" برئاسة مصطفى كامل، و"حزب الأمة" برئاسة محمد لطفي السيد، كان من الطبيعي أن ينضمّ النحّاس للحزب الوطني.
كانت فكرة تأسيس وفد يُسافر إلى مؤتمر الصلح في باريس، ويستفيد من إعلان ويسلون الذي يمنح الأمم حق تقرير مصيرها، لا تزال وليدة. لكن سعد زغلول تلقّاها وتحمّس لها. إلا أن السلطات البريطانية سبقته بقرار اعتقال سعد زغلول، والوفد المقرّر سفره في الثامن من مارس/ آذار. وبدلًا من سفرهم إلى باريس، جرى نفيهم إلى جزيرة مالطا.
وأشار عفيفي إلى أن فكرة الوفد الذي يسافر إلى أوروبا للمطالبة باستقلال مصر، كانت واردة ومطروحة في أذهان الرأي العام المصري منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. إلا أن سعد زغلول هو أول من حوّل فكرة الوفد إلى حقيقة ملموسة ونضال وطني مستمرّ.
في تلك الفترة، بدأ اسم النحاس بالتداول، حيث كان وكيل نادي المدارس العليا، النادي الذي لعب دورًا كبيرًا في تحريك مظاهرات الطلبة والضغط على الحكومة للسماح لسعد زغلول ورفاقه بالسفر.
هذه المؤهلات جعلت سعد زغلول حريصًا على ضمّ النحّاس للوفد، وهكذا أصبح النحّاس سكرتيرًا عامًا للوفد، وصفقة رابحة رجّحت كفّة سعد زغلول بوجه المحتلّ مرة، وبوجه التيارات المصرية مرات كثيرة.
وكتب النحّاس، في يومياته: "كانت النتيجة الحتمية لتأليف بعثة رسمية للمفاوضة ضد إرادة الأمة وسفرها إلى لندن على الرغم من الأمة، واستعمال وسائل القهر والخداع ضد الأمة لاختلاس ثقتها بالبعثة الرسمية، كانت نتيجة كل ذلك أطماع الإنكليز في الحكم بالقوة؛ لذلك زادوا مطامعهم إلى أبعد مدى، وأعلنوا بكل جرأة أن مصر لازمة لهم، وأنهم باقون فيها إلى الأبد وهدّدوها باخضاعها بالقوة إن لم ترضخ لهم بالسلام".
مؤتمر لندن والنفي
كان مؤتمر لندن الذي عُقد عام 1921، يهدف لحل الإشكالات التي أعقبت مؤتمر باريس. لكن اختيار فؤاد الأول لرئيس وزرائه عدلي يكن رئيسًا للوفد المصري في المفاوضات بدلًا من سعد زغلول، أغضب الأخير الذي شن حربًا دعائية شحنت الرأي العام ضد هذه المفاوضات، وأشعلت احتجاجات كبرى.
واعترض زغلول على أن يكن معيّن من السلطان، الذي هو بدوره معيّن من قبل الإنكليز. وبالتالي، لا معنى للمفاوضات.
وروى النحّاس في مذكراته: "في الساعة التاسعة إلا ربع صباحًا، كلمني نجيب أفندي بالتلفون، وأخبرني أن قوة إنكليزية مسلّحة أحاطت بيت الأمة. ودخل ضباطها إلى الزعيم سعد زغلول. فعلمت من ذلك أنهم سيأخذونه إلى جهة غير معلومة. انتظرت حضور القوة لأخذي أيضًا, وحذّرت مَن في المنزل من إظهار الحزن. لكنهم فاجأوني جميعًا كبارًا وصغارًا بحمل أعلام مصر. وحين حضرت القوة لأخذي من المنزل، فإذا بهم يهتفون بالاستقلال والتضحية. فكان لهذا سرور كبير في نفسي. ونُقلنا إلى ثكنة قصر النيل".
لم يكن سعد هو العقبة، كما تخيّلها الإنكليز. بل كانت رغبة عموم المصريين الذين عبّروا عنها ببرقيات احتجاج وبيانات عمّت القطر المصري. بل وصل الأمر أبعد من ذلك، مع الفدائيين الذين نشطوا في اغتيال جنود وضباط إنكليز، وهو ما دفع البريطانيين إلى اعتقال عدد كبير من أعضاء هيئة الوفد، وإحالتهم للمحاكم العسكرية.
وأوضح عفيفي أنه بعد نفي سعد زغلول وبعض رفاقه ومن أهمهم النحّاس، إلى جزيرة سيشل في أقصى بقاع الأرض، ولأشهر عدة، كان التواصل بينهم كبير جدًا، وأنشأ علاقة حميمية فيما بينهم. وتوطّدت علاقة سعد زغلول بالنحّاس.
في سيشل، التي تبعد عن مصر أكثر من 3 آلاف ميل، لم تكن الأمور على ما يرام. ويذكر النحّاس ما تعرّضوا له من أزمات صحية بسبب تغيّر المناخ. ولم تكن صحة سعد زغلول، البالغ من العمر ستين عامًا آنذاك، لتتحمّل هذا التغيّر، خصوصًا مع ما كان يعانيه من ربو وسكري. وهو ما دفع السلطات لنقله فيما بعد إلى جبل طارق في أغسطس/ آب 1922. وسمحت لزوجته أن ترافقه إلى هناك.
يصف النحّاس في يومياته، تعامل إدارة جزيرة سيشل معه ومع رفاقه، حيث كانت الإدارة الإنكليزية تتعمّد التضييق عليهم، أولًا بخفض مخصّصاتهم المالية، والتدخّل في شؤونهم المعيشية، إضافة إلى التضييق على التلغرافات التي كانت تصلهم من مصر، وتعمّد تأخيرها أيامًا وأسابيع.
وكتب النحّاس في مذكراته: "الأربعاء 16 أغسطس، وفي نحو الساعة 11:30 صباحًا، حضر جريك، وقال: جئت أحمل خبرًا سارًا لكم، ولو أنه غير سار لي. هل بلغكم شيء عنه؟ قلنا: كلا، ومن يبلغنا ولا علاقة لنا بأحد؟. قال: إنه بسبب كثرة الأسئلة في البرلمان عن صحة الباشا، وردت أوامر من الحكومة الإنكليزية بأن يسافر الباشا إلى جهة أخرى، وهذا الأمر قاصر عليه وعلى خادمه. ودفع إلينا خطابًا من نائب الحاكم إلى الرئيس بتاريخ اليوم: وقال إنه يظن أن السفر لإحدى المستعمرات، ولكنه لا يعرف شيئًا عن المكان، ولا عن البارجة القادمة، فتأثرنا جميعًا لهذا الخبر".
وقال عفيفي: إن الليالي الطويلة التي قضاها سعد زغلول ومصطفى النحاس ومكرم عبيد وغيرهم وطدت العلاقة بينهم بشكل كبير، وبصفة خاصة بين النحّاس ومكرم عبيد. وكلاهما كان من أهم أذرعة سعد زغلول. لكن الصداقات في السياسة لا تستمرّ دائمًا.
تصريح 28 فبراير وعودة أفراد الوفد
كان نفي قادة الوفد في الحقيقة تمهيدًا لإعلان تصريح الثامن والعشرين من فبراير، الذي ينصّ على إنهاء الحماية البريطانية على مصر، لكننه في نفس الوقت، يُعطي بريطانيا الحقّ في تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر، والحقّ في الدفاع عن مصر ضد أي اعتداءات أو تدخّلات خارجية. والحق في حماية المصالح الأجنبية في مصر، وحماية الأقليات، والحقّ في التصرّف في السودان. أي أنه في الحقيقة، يكرّس الاحتلال ولا يمنح مصر أي استقلال.
وقّع الملك قراره بالسماح لسعد زغلول بالعودة من جبل طارق، وللنحّاس ورفاقه بالعودة من سيشل.
في السادس والعشرين من يونيو/ حزيران 1923، كانت جموع الشعب المصري في الطريق من الإسكندرية إلى القاهرة، تُحيي الزعيم والوفد، وتُجدّد الوفاء لهما، مرة بالهتاف، وبعد أشهر قليلة بأغلبية اكتسح بها الوفد البرلمان في انتخابات عام 1924، ليؤلف سعد زغلول حكومة الشعب.
تقلّد النحّاس في هذه الحكومة، أول مناصبه في المملكة المصرية، وزيرًا للمواصلات، ليكون أول أفندي من أبناء الطبقة المتوسّطة يدخل دوائر الحكم في مصر.
استمرّت الحكومة حتى أزمة اغتيال السير ليستاك في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1925. ولعجز جهاز شرطة توماس راسل عن الإمساك بمنفّذي العملية، حاولوا تلفيق التهمة لاثنين من رجال الوفد، هما: أحمد ماهر ومحمود النقراشي.
لكن تصدّي النّحاس لهذه الخطة، واتهام الإنكليز بمحاولة تصفية الرجلين، وضعا الرجل في مكانة رفيعة.
وفي الثالث والعشرين من أغسطس 1927، تُوفي سعد زغلول، ليصعد النحّاس درجة جديدة في سلم العمل الوطني، رئيسًا لـ"حزب الوفد".
وقال بدراوي: "إن زعامة النحّاس لحزب الوفد بعد وفاة زغلول، كان بتوافق بين جميع أعضائه".
عام 1928، ترأس النحّاس حكومة ائتلافية ضمّت وزراء من حزبي "الوفد" و"الأحرار الدستوريين"، لكنّها لم تستمر أكثر من ثلاثة أشهر، بسبب رفض النحّاس إملاءات الإنكليز.
بعد عام ونصف العام، وعقب انتخابات عام 1930 التي اكتسها حزب الوفد بالأغلبية، عاد النحّاس ليشكّل "حكومة وفدية" هي وزارته الثانية. وكادت هذه الحكومة أن تصل لتوقيع معاهدة مع الإنكليز بالفعل، لولا صلابة موقف النحّاس أمام رغبة بريطانيا فصل السودان عن مصر.
وقال بدراوي: "بعد توليه رئاسة الحكومة، خاض النحّاس الكثير من المعارك وحقّق حزب الوفد الكثير من الإنجازات خلال تلك الفترة. ورغم أن النحّاس لم يتولّى الحكم سوى سبع مرات، إلا أن جميع الإنجازات التي شهدتها مصر كانت في عهد حكومات الوفد المختلفة سواء بإلغاء السخرة، وإقرار قوانين العمّال، ومجانية التعليم".
وكتب النحّاس في يومياته: "اجتمعت هيئة المفاوضات المصرية والبريطانية، ولما أُثيرت مسألة السودان وتمسك الجانب البريطانية برأيه في أن يستقلّ بإدارته، رفضت هذا العرض. وقدّمت الاقتراح الذي وافقت عليه هيئة المفاوضات المصرية، وبعد نقاش أخذ معظم الوقت واستمرّ إلى ساعة متأخرة من الليل، وافق الوفد البريطاني على اقتراحنا مع تعديلات طفيفة لا تضرّ بالجوهر. واجتزنا هذه العقبة الأخرى".
تبدأ خلافات الملك الشاب فاروق الأول على الفور مع النحّاس باشا، إذ تصاعد الجدل حينئذ بشأن مساعي القصر لتنفيذ احتفال له طابع إسلامي لفاروق في مسجد الرفاعي.
وعن هذا كتب النحّاس: "جاءني عبد الفتّاح وقال لي إن رئيس مجلس الوصاية يريد أن يعرف من الآن كيف سيتوّج الملك عند بلوغه سن الرشد في يوليو المقبل، ويريد أن يطمئن إلى أن التتويج يجب أن يكون على غرار ما كان عليه في عهد الخديويين. فسألته: ماذا كان في عهدهم؟ فقال: يجتمع شيخ الازهر، وهيئة كبار العلماء في مسجد محمد علي الكبير بالقلعة، ثم يأخذ شيخ الإسلام سيف رأس الأسرة العلوية ومعه تاج كبير فيسلّم السيف إلى فاروق، ويُلبسه التاج. فضحكت من تفاهة العقلية، وقلت لعبد الفتّاح: أقنع هذا الأمير الهائف بأن هذا عهد مضى، ونحن الآن في عصر الدستور".
مفاوضات عام 1936
في أثناء مفاوضات عام 1936 أوقفت الحكومة العمل بدستور عام 1923، وتفجّرت المظاهرات في مشهد أعاد التذكير بأحداث ثورة عام 1919. أعلن النحّاس رفضه للقرار، وطالب الحكومة بالاستقالة. ورضخت بريطانيا بالفعل قبل نهاية العام، وأعادت العمل بدستور عام 1923.
وفي فبراير من العام نفسه ترأس النحّاس وفد المفاوضات مع الإنكليز، متزعّمًا جبهة موحّدة من كل الأحزاب، ويكون على رأس الوفد المفاوض في اتفاقية عام 1936 مع بريطانيا. وهي المعاهدة التي صدّق عليها البرلمان بأغلبية كبيرة في نوفمبر من نفس العام، في ظل حكومة وفدية ترأسها النحّاس في مايو/ أيار من العام نفسه، بعد فوزه بأغلبية المقاعد البرلمانية.
وقال بدراوي: "لا شكّ أنه كان للنحّاس دور قانوني وسياسي في المفاوضات بين قوات الاحتلال البريطاني وسعد زغلول، ثم بعد وفاة زغلول، ومعاهدة 1936، وإلغائه معاهدة 1936 في البرلمان عندما قال إنه وقّع على المعاهدة من أجل مصر، واليوم أطالبكم بإلغائها".
لم تحقّق المعاهدة الاستقلال المطلوب، حيث احتوت في طياتها بعض أنواع السيادة البريطانية، إذ ألزمت مصر بتقيدم المساعدات في حالة الحرب، وإنشاء الثكنات التي فرضت أعباء مادية جسيمة، ما يؤخر الجيش المصري وإعداده ليكون أداة صالحة للدفاع عنها، كما أنه بموجب هذه المعاهدة تُصبح السودان مستعمرة بريطانية يحرسها جنود مصريون.
وفي هذا الإطار، قال عفيفي: "عام 1936، لم تكن مصر تستطيع أن تحصل من بريطانيا على أكثر من ذلك. لأن العالم كان يسير نحو حرب عالمية ثانية. وبريطانيا لن تقدّم أكثر من ذلك".
وأضاف أنه عام 1951، خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية منهكة، ولذلك جسّد النحّاس في كلمته: من أجل مصر وقّعت المعاهدة، ومن أجلها الآن ألغيها".
الحرب العالمية الثانية وأحداث قصر عابدين
مع اتساع رقعة المعارك خلال الحرب العالمية الثانية، واقتراب فيلق إفريقيا الألماني بقيادة المراشال رومل نحو العلمين، وجد الإنكليز أنهم بحاجة لتعبئة الجبهة السياسية في مصر، فحاصرت القوات البريطانية قصر عابدين، وأرغموا الملك فاروق على استدعاء النحّاس وتكليفه مجددًا بتشكيل الحكومة، وهو ما حصل في الرابع من فبراير عام 1942.
ليُصبح النحّاس موضع شكّ، وتبدأ موجة انشقاقات من الوفد على رأسها صديقه القديم مكرم عبيد.
وقال بدراوي: "في أزمة عام 1942، قبل النحّاس تشكيل الحكومة بعد إلحاح من الملك فاروق. وإذا لم يقبل النحّاس رئاسة الوزراء والحكم، كانت القوات البريطانية ستتجاوز حدودها، وعندها كان سيُقال إن النحّاس تخلّى عن الملك وباع القضية".
وفي الخامس من فبراير عام 1942، أرسل النحّاس احتجاجًا إلى السفير البريطاني في خطابه المشهور، الذي استنكر فيه تدخّل الإنكليز في شؤون مصر. وجاء فيه: "لقد كُلّفت بمهمة تأليف الوزارة وقبلت هذا التكليف الذي صدر من جلالة الملك، بما له من الحقوق الدستورية، وليكن مفهومًا أن الأساس الذي قبلت عليه هذه المهمة هو أنه لا المعاهدة البريطانية- المصرية ولا مركز مصر كدولة مستقلة ذات سيادة يسمحان للحليفة بالتدخل في شؤون مصر الداخلية، وخاصّة في تأليغ الوزارات أو تغييرها".
وقال عفيفي: "قبول النحّاس الوزارة أضعف الوفد بشكل كبير، لكن استقالة أعضاء الوفد والوزارة هو نتيجة دسائس من القصر، لأن الملك فاروق أعلن الحرب السرية ضد النحّاس، حيث كان ينتهز الفرصة لإضعاف الوفد تمهيدًا لإقالة حكومة الوفد. وبالفعل، استطاع ذلك عام 1944 عندما هدأت أحوال الحرب، ولم تعد بريطانيا بحاجة إلى النحّاس".
ثورة يوليو عام 1952
ومع بيان ثورة يوليو عام 1952، كان النحّاس في مصيفه خارج مصر. قطع إجازته وعاد مباشرة إلى البلاد في محاولة للتواصل مع الضباط الأحرار، وعلى رأسهم اللواء محمد نجيب.
طالب النحّاس بالعمل بالدستور، وتوليه رئاسة الوزراء بحكم الأغلبية أو إجراء انتخابات تشريعية. لكن الأشهر التالية، لم تكن تضع حدًا لحياته السياسية فقط، بل كانت تقطع كل صلة له بما كان قبل ذلك.
ومع قرار حلّ الأحزاب، لم يعد للوفد مكان في السياسة المصرية. واكتفى جمال عبد الناصر بوضع النحّاس تحت الإقامة الجبرية في منزله بحي غاردن سيتي، الذي بقي فيه حتى موته عام 1965.
وقال عفيفي: "لم ينل النحّاس الاهتمام الذي حظي به بقية السياسيين من حيث مكانته، ويمكن استيعاب هذه المكانة من ناحية أنه رغم إبعاده عن السياسة منذ عام 1953، إلا أن جموعًا من الشعب المصري خرجت في جنازته عام 1965، بينما نظّمت قياديات من الوفد جنازته باحتفال مهيب".
وأكد عفيفي أن النحّاس "كان رمزًا كبيرًا في السياسة المصرية".
خلال حياته التي دامت 86 عامًا، ترك النحّاس آثارًا سياسية بارزة في التاريخ المصري. فلا يذكر أحد اليوم إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر عقب مؤتمر مونترو عام 1937، أو تأسيس جامعة الدول العربية، أو إلغاء معاهدة 1936، أو إنشاء وزارة للاقتصاد الوطني، إلا كان اسم النحّاس حاضرًا فيها.
الرحلة التي بدأت بنبوءة لأحد أصدقاء والده بالغربية، بأن له شأنًا، وأن عليه أن يُكمل دراسته، توشك أن تنتهي في الثالث والعشرين من أغسطس 1965. توفي النحّاس بعد أكثر من عشر سنوات على وضعه تحت الإقامة الجبرية. لم تكن هذه السنوات ولا نشوة الثورة الجديدة كافية لتحجب عنه محبة الجماهير، التي حملته حيًا، وخرجت يوم وفاته تملأ الميادين لتودّعه بهتاف واحد "لا زعيم بعدك يا نحّاس".