لم ينس الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك منذ قدومه للحكم مشهد اغتيال الرئيس أنور السادات، وكان يسعى لتأمين الاستقرار للدولة التي كانت تمر بمشهد سياسي واقتصادي وأمني مرتبك.
وعلى مدى ثلاثة عقود وحتى سقوط نظامه إثر ثورة شعبية أطاحت به عام 2011، كانت كثير من كواليس الفترة طي الكتمان لتأتي شهادات ومذكرات رجال السلطة الذين عملوا مع مبارك خلال فترة حكمه لتكشف الكثير من التفاصيل.
"طريقي- سنوات الحلم والصدام والعزلة"
وتعد شهادة الدكتور كمال الجنزوري، رئيس الوزراء المصري الأسبق واحدة من أهم هذه الشهادات. وحملت المذكرات عنوان "طريقي- سنوات الحلم والصدام والعزلة".
وقال الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية، عمرو الشوبكي: "إن الجنزوري في هذه المذكرات وفي رحلته المهنية والسياسية قال إن الشخص يمكن أن يكون جزءًا من الجهاز الإداري للدولة، لكن في الوقت نفسه لديه رؤية وتصورات ويسعى في ظل التوازنات الموجودة لتطبيقها".
من جهته، اعتبر أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة د. مصطفى كامل، أن "الجنزوري هو الوحيد ممن تولوا منصب رئاسة الوزراء في عهد الرئيس مبارك الذي خرج مغضوبًا عليه، وبالتالي لديه مصلحة في أن يذكر لماذا كان الوضع هكذا، وذلك يكشف لنا بعض تفاصيل ما يجري على قمة السلطة في مصر".
مساء يوم الجمعة نقاش حول مذكرات رئيس الوزراء المصري كمال الجنزوري، بعد عرض حلقة برنامج مذكراته عنه يوم الخميس.#مذكرات#العربي_على_أرض_عربية pic.twitter.com/ew765vfYkY
— محمد عبدالعزيز (@Mo_aziz_hagin) August 23, 2022
ويعد الجنزوري واحدًا من أهم الشخصيات السياسية المصرية التي شغلت العديد من المناصب. فقد شغل منصب وزير التخطيط بعد عام واحد من تولي مبارك الحكم، ثم نائبًا لرئيس الوزراء ورئيسًا للحكومة منذ عام 1996 وحتى 1999.
مبارك الشخصية الغامضة
وتحدث الجنزوري في مذكراته كثيرًا عن مبارك، واصفًا إياه بالشخص الذي يخطط دائمًا للسيطرة على كل شيء، لكنه مع ذلك كان شخصية غامضة لا تعرف ردة فعله ولا طريقة تفكيره في الأمور.
ودلل الجنزوري على ذلك بما حدث في عيد العمال عام 2002. وكانت هذه هي المناسبة الأولى التي يحضرها الجنزوري بعد سنوات من الحصار والعزلة التي تعرّض لها عقب خروجه من السلطة.
وقال الجنزوري: "إن حضوره هذا الاحتفال كان كفيلًا بالقضاء على علاقته بمبارك نهائيًا بسبب الحفاوة التي نالها ومن الجمهور الحاضر".
وأورد في مذكراته: "عند دخولي القاعة وقف الحضور مصفقين وهاتفين الجنزوري رجل الفقراء وكان الهتاف شديدًا وطويلًا، جلست بجوار الدكتور عبد العزيز حجازي والدكتور على لطفي كرؤساء مجلس وزراء سابقين، وبعد أن انتهى الرئيس من خطابه تقدّم نحونا وأمسك بيدي ورفعها أمام العمال. كانت تلك محاولة من الرئيس لإرسال رسالة إلى العمال وأيضًا إلى الشعب أن كل رؤساء الوزارات السابقين ما زالوا رجالي، أي أن التصفيق الذي نلته من الحضور هو لأنني جزء من النظام الذي يقوده، فلا تحية ولا تصفيق إلّا له".
فترة المهادنة بين السلطة والمعارضة
وفي مذكراته، تحدث كمال الجنزوري عن العقد الأول من حكم مبارك وهي الفترة التي وصفها الجنزوري بفترة المهادنة بين السلطة والمعارضة، فتم فتح المجال العام وسُمح للأحزاب السياسية بخوض الانتخابات التشريعية، بل وحصلت المعارضة على نسبة 14% من مقاعد المجلس، حينها كان الجنزوري وزيرًا للتخطيط في حكومة فؤاد محيي الدين، الحكومة الأولى في عهد مبارك.
وبعد عام ونصف، تلقى الجنزوري اتصالًا هاتفيًا يستدعيه للقصر الرئاسي، وهناك التقى بالمشير أبو غزالة وزير الدفاع وفؤاد محيي الدين رئيس الوزراء. وحضر الثلاثة إلى اجتماع لا يعرفون سببه، لكنهم فوجئوا بمبارك ومعه المستشار النمساوي رونك رايس كيه والملياردير الأميركي كال هان. وأوضح الجنزوري أن هذا الاجتماع كان غريبًا بالنسبة له، حتى إنه قرر ألا يتحدث طوال مدة الاجتماع.
وعرف الجنزوري أن هذا الاجتماع الذي لم يكتب عنه شيئًا في الصحافة كان لاختيار نائب للرئيس، لكن مبارك عدل عن الفكرة بعدها.
المشير أبو غزالة المنافس لمبارك
وعام 1986، استيقظت مصر على مشهد غير عادي لتمرد قوات الأمن المركزي بعد الإعلان عن زيادة سنوات خدمتهم وقطعوا طريق مصر الإسكندرية الصحراوي.
كان النظام وقتها في حالة من القلق والذعر، خاصة مع تسارع وتيرة أعمال الشغب. الصدفة وحدها قادت الجنزوري لمتابعة الحدث مبكرًا، حين كان يزور وزير الزراعة يوسف والي، فما كان منه إلّا أن اقترح عليه أن يُخبر الرئيس فورًا والمشير أبو غزالة، فهو ليس إضرابًا من المواطنين بل إضرابًا بين صفوف قوات الأمن.
وقال الجنزوري في مذكراته: "تحدثت إلى المشير أبو غزالة وقلت له هل طلبت من الرئيس نزول الجيش لأن الموقف في غاية الخطورة، فأجابه أنه طلب منه أكثر من مرة لكنه ما زال مترددًا. وبعدها بدقائق طلب الجنزوري المشير ثانية ليكرر طلبه، ليجيبه أنه أصدر أوامره بتحرك الجيش، وبعدها بنصف ساعة صدر قرار الرئيس وكان الجيش في الشارع بالفعل".
وكشفت أحداث الأمن المركزي عن مدى خوف مبارك من نزول الجيش للشارع وكان هذا الشعور بالخوف تغذيه شعبية وزير الدفاع عبد الحميد أبو غزالة. فقد كان الرجل محبوبًا لدى قطاع من المصريين، بخلاف علاقاته القوية بالولايات المتحدة الأميركية حيث كان مهندس العلاقات المصرية الأميركية.
واستطاع أبو غزالة أن يظهر أنه الرجل الأقوى في مصر، لكن خطوته تلك نبّهت مبارك لتأكيد سيطرته شخصيًا، فكان التخلص من المشير مسألة وقت.
وتحدث كمال الجنزوري في مذكراته عما دار في تلك الفترة، حيث زار في اليوم التالي للأحداث، وزير الدفاع مع بعض المقربين من المشير. وأثناء الاجتماع أشار أحد الحاضرين على المشير أبو غزالة للتخلص من مبارك، لكن المشير ردّ عليه بكل حسم وقال: "لا يمكن لي أن أفعل ذلك".
وقد اتهم وزير الداخلية في ذلك الوقت، أحمد رشدي وهو الذي استقال في اليوم التالي للأحداث، أشخاصًا داخل السلطة بتأجيج الموقف رغبة منهم في إزاحة بعض الشخصيات الأمنية من المشهد.
الركود الاقتصادي في التسعينيات
وكانت فترة التسعينيات من أصعب فترات حكم مبارك، فقد كان الصراع بين الجماعات المتطرفة والدولة على أشده وكان الدين الخارجي لمصر قد ارتفع بمعدل ثلاثة أضعاف.
وعجزت البلاد عن الوفاء بالتزاماتها ودخلت مصر في حالة من الركود الاقتصادي وتدني المعيشة وزيادة نسبة الفقر، فبدأت إجراءات خصخصة القطاع العام. لكن رغم محاولات حكومة عاطف صدقي لإنعاش الاقتصاد، إلّا أن الأمور كانت تزداد صعوبة.
وربما كان ذلك سببًا قويًا لأن يبدأ مبارك في التفكير في حكومة جديدة.
ومساء يوم الثاني من يناير/ كانون الثاني عام 1996 تم تحديد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة عاطف صدقي بناء على طلب من الرئيس، حيث تلا صدقي استقالة الحكومة. وطلب الرئيس من الجنزوري أن يشكل الوزارة.
ومع توليه رئاسة الوزراء كان الجنزوري في مواجهة صعبة مع العديد من الشخصيات القريبة من مبارك مثل مدير المخابرات عمر سليمان ويوسف بطرس غالي. وكان كل منهما يسعى لعرقلة الجنزوري وتقييده. لكن المواجهة الأكبر كانت مع عائلة مبارك والذي أعطاها الجنزوري مساحة في مذكراته.
وقد بدأ الصدام مبكرًا معهم ولاسيما مع سوزان مبارك التي كانت تصطحب العديد من الوزراء في جولاتها. والصدام الثاني الذي تحدّث عنه الجنزوري كان مع جمال مبارك.
صفقات الفساد
ويسرد الجنزوري واقعة "غريبة" عندما اتصل به مدير المخابرات المصرية عمر سليمان عام 1997 يطلب منه التوصية لدى البنك المركزي بضمان قرض أجنبي لاستكمال مشروع "ميدور" المصري الإسرائيلي لتكرير البترول.
وقال في المذكرات: "الغريب في الأمر كان نسبة المشاركة المصرية التي كانت 60% مقابل 40% للجانب الإسرائيلي قبل أن يتغيّر ذلك".
وكان عام 1999 هو الرابع لحكومة الجنزوري وهو العام الذي أسماه عام "الوقيعة". فقال الجنزوري إن زكريا عزمي كان يبحث عن فرصة للقضاء عليه والإيقاع بينه وبين الرئيس، مستغلًا حال الخلاف المتصاعد بينهما، فاعتبر أن الفرصة كانت عند زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود براك لمصر، حيث استغل زكريا الموقف ليصور لمبارك أن الجنزوري رفض مقابلة رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وقال الجنزوري: "انفعل الرئيس مبارك ورفض أن يسمعني واستشاط غضبًا ثم جاءت فرصة ثانية للدكتور زكريا للإيقاع بي حين عرض على الرئيس مذكرة تتضمن تأشيرة برفضي زيادة مخصصات مشروع الاستثمار في قصر رأس التين".
وبعدها بأيام خصّص سمير رجب، رئيس تحرير الجمهورية مقاله الرئيسي للهجوم على الجنزوري وحمل عنوان "المغرور" وعلم الجنزوري أنه كتب بتوجيه من الرئيس.
ثم قدّم استقالة الحكومة بعد الاجتماع المشترك لمجلسي الشعب والشورى. وقال الرئيس: "سيأتي من يتسلّم الاستقالة منك، فقد قررت تغيير الحكومة".
"المنع والحصار"
غادر الجنزوري الحكومة بعد قرابة 20 عامًا من الخدمة في مواقعها المختلفة واختفى تمامًا عن الظهور حتى في المناسبات الرسمية.
وهو الاختفاء الذي وصفه الجنزوري في مذكراته بـ"المنع والحصار" الذي استمر لشهور وسنوات دون أن يتصل به سوى ثلاثة أشخاص، الأمر الذي أزعج مبارك لدرجة أنه اتصل بهم وهددهم وطلب منهم عدم الاتصال ثانية.
وفي الفصل الأخير من مذكراته، تحدث الجنزوري عن ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، التي اعتبرها نتيجة طبيعية للقمع السياسي الذي مارسته السلطة والفساد الذي ضرب كل أركان الدولة.