تشتهر نواذيبو، شبه الجزيرة التي تقع شمال غرب موريتانيا، ويتجاوز عدد سكانها 120 ألف نسمة، بمراكب الصيد والمعاملات التجارية، التي تعتمد في الأساس على النشاط السمكيّ.
لكنّ لنواذيبو وجهًا آخر حوّل حياة سكّانها إلى حدّ الهجرة من موطنهم الأصلي، نتيجة الكمّيات الهائلة من الروائح الكريهة المنبعثة من عشرات مصانع دقيق السمك، والتي يستمرّ الجدل بخصوصها بسبب تلويث البيئة والإضرار صحيًا بالمواطنين.
وتعود قصة هذه المصانع إلى الأعوام من 2010 إلى 2014، عندما أتاحت السلطات التراخيص لـ39 من مصانع دقيق السمك، الذي يُطلَق عليه في اللهجة المحلية (موكا) لمستثمرين ضمنهم أجانب، وذلك بحجة الرفع من مستوى الاقتصاد المتدني والحد من البطالة المرتفعة.
وفيما تغيب الرقابة الحكومية بالمُطلَق، تواصل مصانع دقيق السمك أنشطتها المخالفة والضارة بالبيئة والسكان، دون مساءلة أو سحب رخصة، أو أي إجراء وقائي تتّخذه السلطات وفق دفتر الشروط التي تحدّد عملها، أو القوانين التي تحظر الضرر بالبيئة وصحة الإنسان.
شركات عملاقة لصناعة دقيق السمك في موريتانيا
ووفقًا لوثائق حصل عليها "العربي"، فإنّ الصين هي أكبر مستثمر في صناعة دقيق السمك، من خلال شركات عملاقة متعدّدة التخصّصات، من أبرزها شركة هونغ دونغ التي ما تزال تثير الجدل بين الموريتانيين بعد توقيعها اتفاقية مع موريتانيا في السابع من يونيو/ حزيران 2010 لمدّة ربع قرن، مع إعفاءات ضريبية وجمركية، والسماح بتشغيل الأجانب، في مقابل استثمار الصين لـ100 مليون دولار في المصنع المذكور، مع توفير 2463 فرصة عمل للموريتانيّين، وهو استثمار مكّن المصنع من تحقيق إيرادات سنوية تقدّر بـ405990 دولارًا أميركيًا.
أما مصنع أومارسي، الثاني والأقدم، فقد حقق مبيعات سنوية تـقدر بـ27.72 مليون دولار، وهو ملك لرجل أعمال من أصول مغربية، يدعى عبد العزيز بوغربال، فيما يتبع مكتب موريتانيا عدة مكاتب بإسبانيا، وفنزويلا، وميركوسور، وبيرو، وأميركا، هذا فضلًا عن العلاقة المميزة التي ربطت بوغربال بالرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، إبان زيارته وملك سواتيني في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2019 لأحد مصانع دقيق السمك المملوكة من طرف عائلة بوغربال، قبل أن تتلاشى العلاقة بعد توجيه محكمة نواكشوط اتهامات فساد في قضايا عديدة في فبراير/ شباط 2021 لولد عبد العزيز.
ويحلّ مصنع (آتيفان) الذي تأسس عام 2012 باعتباره ثالث وأهم مصنع بنواذيبو، بعد تحقيق مبيعاتٍ سنويّةٍ وصلت إلى 27.72 مليون دولار، وهو مملوكٌ لرجل أعمال يحمل الجنسية الإسبانية، ويُدعى محمد الأمين خطاري.
المسؤولون يتغاضون عن "التجاوزات"
تشترط وزارة الصيد في دفاتر الالتزام، على مُلاك المصانع، عدة شروط من بينها عدم تعريض حياة المواطنين لمخاطر الروائح المنبثقة من مصانع دقيق السمك أو تلويث البيئة، إلا أنّ المصانع لم تلتزم بتطبيق الاشتراطات، والقانون البيئي، إذ تقوم بإرسال الشاحنات لتفريغ المخلّفات قرب الأحياء السكنية، فضلًا عن الأدخنة المتصاعدة من المصانع، والتفريغ في البحر عبر الأنابيب.
وقد تغاضى المسؤولون في وزارة الصيد عن هذه "التجاوزات" منذ الترخيص ما بين 2010 و2014 لعمل المصانع، وذلك لأسباب يرى الناشط الحقوقي عبد الرحمن ودادي، في حديث إلى "العربي"، أنّ من أبرزها الفساد الإداري، وامتلاك المصانع للمال الوفير، الذي يساعد بالضغط من أجل تجاوز القوانين على حد تعبيره.
وتواصل فريق "العربي" مع المكتب الوطني للتفتيش الصحي بنواذيبو لاستيضاحه حول هذه الاتهامات، غير أنه لم يحصل على ردّ، كما تواصل مع المستشار الإعلامي في الوزارة الذي اكتفى بتفنيد ما رصدناه من تجاوزات للمصانع بحق البيئة والناس، وهو ما أكدته توثيقاتنا من خلال إرسال الشاحنات لتفريغ المخلفات، وعدم تركيب فلاتر وفقًا لدفاتر الشروط.
أمراض لا تفرّق بين أعمار الموريتانيّين
تتسبب روائح دقيق السمك في أمراض، كالربو والالتهابات التنفسية والحساسية في الأنف والعينين والتهابات أكزيما الجلد والمعدة والأمعاء وحرقة عند البلعوم.
ولا تفرّق الأمراض الناتجة عن مخلفات "دقيق السمك" بين أعمار الموريتانيين، لكنها أكثر وأشدّ خطورة عند الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل، وكذلك عند المصابين بأمراض مزمنة، والذين يحصل الفرد منهم على مبلغ 100 دولار سنويًا، وذلك ضمن قلّةٍ اختارتها وزارة الشؤون الاجتماعية وفقًا لمستشار الوزارة الإعلامي السابق سيدي بياده.