حوالي منتصف ليل الأحد-الإثنين، وفي مشهد "صادم" في التاريخ التونسي، قرّر الرئيس التونسي قيس سعيّد أن يستحوذ على كلّ شيء.
سريعًا، وصفت الكتل البرلمانية الكبرى هذا الإجراء بأنّه محاولة انقلاب وتهديد للديمقراطية الناشئة والمنبثقة من رحم ثورات الربيع العربي.
يعزّز هذا الوصف المشهد "النافر" الذي استيقظ عليه التونسيّون: رئيس برلمان ممنوع من دخول مقرّ مجلس الشعب، وجيش يطوّق مقرّ الحكومة.
لكنّ هذا المشهد لم يكن وليد لحظته، بل نتاج رحلة طويلة بدأها قيس سعيّد منذ وصوله إلى قصر قرطاج، ومهدّ بها لقراراته "الخطيرة" هذه.
الساكن الجديد لقرطاج
بحسب كثيرين، فإنّ "كلمة سرّ" الأزمة السياسية بين رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان في تونس ليست سوى سعي سعيّد إلى "مزيد من القوة والنفوذ".
بدأ هذا الأمر يتجلّى منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، يوم أصبح أستاذ القانون الدستوري ساكنًا لقصر قرطاج، والرئيس الثالث لتونس بعد ثورة الياسمين.
في الشهر نفسه، كانت الانتخابات التشريعية التي تصدرت فيها حركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي، ثم حزب قلب تونس ثانيًا بزعامة نبيل القروي.
لم تمرّ أسابيع على ذلك حتى اشتعلت المعركة في البلد الذي يتقاسم فيه رئيسا الجمهورية والحكومة الصلاحيات في نظام برلماني معدّل.
البحث عن رئيس للحكومة
اشتعل الخلاف بعد فشل مرشح حركة النهضة لتشكيل الحكومة الحبيب الجملي في الحصول على ثقة البرلمان، ليختار قيس سعيّد المرشح الرئاسي السابق والوزير السابق أيضًا الياس الفخفاخ لتشكيل الحكومة.
عام 2020، تغيّرت خارطة التحالفات في البرلمان وأصبح كل من النهضة وقلب تونس حليفين. هنا، أصرّت حركة النهضة على سحب الثقة من الفخفاخ بدعوى تورطه في "قضايا فساد وتضارب مصالح"، الأمر الذي كان يرفضه سعيّد.
وقد أنذر ذلك بأزمة سياسية كبرى، حتى إنّ الحديث دار حول احتمالية "حلّ البرلمان من قبل سعيّد" الذي أكدت تقارير "رغبته في جعل النظام في تونس رئاسيًا بالكامل". ولعلّ ما عزّز الشكوك أنّ ذلك تزامن مع محاولة فاشلة لسحب الثقة من رئاسة الغنوشي للبرلمان.
من الفخفاخ إلى المشيشي.. مهرجان التحالفات السياسية
لم يستطع سعيّد حلّ البرلمان لكنه كلف هشام المشيشي وزير الداخلية في حكومة الفخفاخ الراحلة بتشكيل حكومة جديدة.
جاء التكليف دون اعتبار مشاورات سعيّد مع الأحزاب وفق ما ينصّ عليه الدستور، حيث اكتفى وقتها بتلقّي مقترحاتهم عبر رسائل مكتوبة، الأمر الذي عارضته الأحزاب والكتل البرلمانية الكبرى.
أما المشيشي فوصف وقتها حكومته بانها "حكومة كفاءات مستقلة"، بينما تحدثت تقارير عن أنّ هذا الاختيار هو "محاولة من سعيّد لتغيير التوازنات السياسية في البلاد وسعي لتغيير غير رسمي للنظام من برلماني معدّل إلى رئاسي عبر تكليف رئيس حكومة محسوب على رئيس الجمهورية بشكل كامل".
صديق الأمس.. خصم اليوم
كان الكلّ يتوقع الصدام مع المشيشي وأن لا يمنح البرلمان الذي يرأسه زعيم حركة النهضة الثقة للحكومة، لكن ما حدث كان عكس ذلك، إذ إنّ البرلمان منح الثقة للحكومة.
بيد أنّ المفارقة تمثّلت في أنّ المشيشي الذي اختاره سعيّد رئيسًا للحكومة بدا حسب كثيرين مستقلًا ومتحديًا لمن اختاره بالأمس في سلسلة من التفاعلات السياسية التي بلغت ذروتها في يناير/كانون الثاني 2021.
آنذاك، أعلن هشام المشيشي إعفاء وزير الداخلية توفيق شرف الدين من مهامه وهو الوزير المقرّب من سعيّد والذي تصفه بعض التقارير بـ"عين الرئاسة داخل الحكومة".
وقد جاء الإعفاء بعد إعداد شرف الدين قائمة من التعديلات على مناصب أمنية حساسة وأخرى جهوية دون استشارة رئيس الحكومة وبعض المسؤولين في الداخلية بحسب ما نقلت وسائل إعلام محلية.
العلاقة توتّرت بين سعيّد والمشيشي
ورأى كثيرون أنّ الإعفاء "وتّر العلاقة أكثر بين رأسي السلطة التنفيذية" سعيّد والمشيشي، وقد تطوّر ذلك إلى إعلان رئيس الحكومة تعديلًا وزاريًا دون موافقة من الرئيس الأمر الذي دفع سعيّد إلى إطلاق تصريحات شديدة اللهجة، متهمًا بعض الوزراء المقترحين في التعديل بـ"الفساد".
وسرعان ما رد رئيس الحكومة الهجوم داخل البرلمان خلال جلسة التصويت على التعديل الوزاري متحدثًا عن أزمة هيكلية، وعن خطاب شعبوي يسعى أصحابه إلى تسويق الأوهام وتسجيل النقاط وافتعال المعارك الزائفة.
في النتيجة، منح البرلمان الثقة للوزراء المقترحين في التعديل الوزاري المقدم من قبل رئيس الحكومة، بينما علق الغنوشي على اتهامات الفساد، معتبرة أنّها بمثابة "مكائد"، طالما أنّ هؤلاء المتهمين لم يثبت شيء في حقّهم.
"انقلاب" محتمل؟
في مايو/أيار 2021 نشر موقع "ميدل إيست آي" ما قال إنها "وثيقة تخطط لمحاولة انقلابية يرتب لها قصر قرطاج تتضمن احتجاز رئيس الحكومة ورئيس البرلمان في القصر وتفعيل المادة 80 من الدستور التي تتيح لرئيس الجمهورية اتخاذ إجراءات استثنائية وإلقاء سعيّد خطابًا تلفزيونيًا يعلن فيه هذه القرارات.
نفت الرئاسة هذه الوثيقة لكن ما حدث في 25 يوليو/تموز أثبت أمرًا آخر، ففي يونيو/حزيران أكد سعيّد على رغبته في تغيير الدستور خلال اجتماعه مع رؤساء الحكومات السابقين وبحضور المشيشي، الدستور نفسه الذي قال سعيّد إن قراراته الأخيرة جاءت وفقًأ له.
العاصفة.. سعيّد يعلن القرارات الخطيرة
في النهاية، أصدر قيس سعيّد قراراته الأخيرة. جمّد البرلمان وأقال المشيشي وزعم أن هذا بموجب الفصل 80 من الدستور، رغم أنّ الفصل 80 يشترط بوضوح أن البرلمان يجب أن يكون في حالة انعقاد.
كما يشترط الدستور أيضًا أن تتم "الإجراءات الاستثنائية" بالتشاور مع رئيسي الحكومة والبرلمان، الأمر الذي نفاه الغنوشي.
وبمعزَلٍ عن كلّ هذه التفاصيل والحيثيات، يبقى الثابت أنّ المشهد في تونس أضحى على الشكل التالي: حكومة وبرلمان معطلان وسحابة ثقيلة من الغموض تخيم على البلد الذي شهد أولى موجات الربيع العربي.