Skip to main content

من أديناور إلى شولتس.. عقدة ذنب مستحكمة والتزام ألماني لا يتزعزع بأمن إسرائيل

منذ ساعة
من صور متحف الهولوكست

قبل يوم واحد فقط من وصول وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى بيروت يوم الأربعاء (23 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري)، نشرت وسائل الإعلام الألمانية نتائج استطلاع للرأي تفيد بمعارضة 60% من المواطنين إرسال أسلحة إلى إسرائيل.

ليست نسبة الرفض ما يثير الانتباه وحسب في الاستطلاع الذي أجراه معهد "فورا" لصالح وسيلتَي إعلام ألمانيتين، بل ارتفاع نسبة الرافضين لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل في صفوف أنصار الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم، حيث أظهر رفض 60% من ناخبي الحزب الاشتراكي الديمقراطي و52% من ناخبي الحزب الديمقراطي الحر و50% من مؤيدي حزب الخضر، تصدير الأسلحة إلى إسرائيل. 

لكن، على خلاف ما تظهره استطلاعات الرأي في الشهور الأخيرة من تراجع للتأييد لإسرائيل في صفوف الألمان، يزداد الموقف الرسمي تشددًا، وهو الأكثر تأييدًا لإسرائيل في أوروبا، مقارنة بالموقفين الفرنسي والبريطاني اللذين شهدا تحولات بدرجات متباينة، وصلت حد التراشق الكلامي بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فما هي الأسباب المعلنة وغير المعلنة لمواقف برلين التي قد تعرّض علاقاتها مع دول المنطقة للاهتزاز؟

أثمان الهولوكست الباهظة على الألمان 

تسبب "الهولوكست" فيما بات يعرف على نطاق واسع بعقدة الذنب لدى الألمان تجاه اليهود، ما يعتبر مفتاحًا رئيسًا من ضمن أخرى لفهم العلاقات المعقدة بين ألمانيا وإسرائيل بعد إنشائها، والتي تجعل برلين تنحاز إلى تل أبيب حتى لو خالف هذا سياساتها المعلنة فيما يتعلق بملفات أخرى لا تكون إسرائيل طرفًا فيها. 

فقد قتل نحو ستة ملايين يهودي في ألمانيا ودول أوروبية أخرى ما بين عامي 1941 و1945 في الحقبة النازية، التي انتهت بهزيمة ألمانيا بقيادة أدولف هتلر في الحرب العالمية الثانية. 

وبعد استسلام ألمانيا عام 1945 قدّم حاييم وايزمان رئيس الاتحاد الصهيوني العالمي طلبًا إلى دول الحلفاء، باسم الشعب اليهودي، لدفع تعويضات لضحايا الإبادة النازية، لكن طلبه رفض لأنه لم يقدّم باسم "دولة".

لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، ففي عام 1950 أعادت إسرائيل إثارة الموضوع على نحو مختلف، وقررت التفاوض مباشرة مع ألمانيا الغربية للحصول على التعويضات بصفتها ممثلة لـ"الشعب اليهودي"، وعقدت في العامين اللاحقين عدة اجتماعات مع المستشار الألماني كونراد أديناور، وافق بموجبها على الاعتراف بمسؤولية بلاده عن جرائم الهولوكست ودفع تعويضات للضحايا. 

وفي 10 سبتمبر/ أيلول 1952، أبرم الجانبان اتفاقية لوكسمبورغ التي التزمت ألمانيا بموجبها بدفع ثلاثة مليارات مارك (1.5 مليار يورو) خلال 12 عامًا لإسرائيل باعتبارها "وارثة حقوق اليهود، ضحايا المحرقة"، ورواتب شهرية لضحايا الهولوكست بصفاتهم الفردية. 

لم تكتف إسرائيل بهذا بل واصلت، بحسب مصادر تاريخية ألمانية، التفاوض سرًا مع ألمانيا للحصول على مساعدات عسكرية، قبل أن يقيم الجانبان علاقات دبلوماسية عام 1965، ومنذ ذلك الوقت أصبحت ألمانيا أقوى الحلفاء الغربيين لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وهو ما التزمت به برلين ومستشاروها منذ كونراد أديناور حتى أولاف شولتس، ما اعتبر أكثر أشكال التكفير عن الشعور بالذنب غرابة وتعقيدًا في التاريخ. 

برلين و"أمن إسرائيل" غير القابل للمساومة

زارت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل إسرائيل ثماني مرات، وفي عهدها أصبحت برلين أكبر شريك تجاري لإسرائيل في أوروبا، وكانت آخر زياراتها في أكتوبر عام 2021، في إطار جولة وداع قبل انسحابها من الحياة السياسية التي استمرت 16 عامًا، وخلالها أكدت أن "أمن إسرائيل" سيبقى أولوية لأي حكومة ألمانية، ما أعاد إلى الأذهان زيارتها عام 2008 في الذكرى الستين لإنشاء إسرائيل.

آنذاك ألقت كلمة في الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) عبّرت فيها عن "خزيها" من الهولوكوست، وقالت: "في هذا الموقع بالتحديد، أقول بكل وضوح إنّ كل حكومة ألمانية وكل مستشار قبلي، كانوا ملتزمين بالمسؤولية التاريخية الخاصّة لألمانيا بالنسبة إلى أمن إسرائيل، وهذه المسؤولية جزء من سياسة الدولة التي تتبناها بلادي، وهذا يعني أن أمن إسرائيل بالنسبة لي كمستشارة ألمانية غير قابل أبدًا للمساومة".

شولتس يواصل إرث أسلافه في العلاقات مع إسرائيل-رويترز

خلف أولاف شولتس ميركل في انتخابات عام 2021، وبعد هجوم 7 أكتوبر هرع إلى تل أبيب في زيارة تضامنية، ووصلها في 17 أكتوبر 2023، ليصبح ثاني زعيم غربي يصل إلى إسرائيل بعد رئيس الوزراء الروماني، وقبل الرئيس الأميركي جو بايدن.

وهناك أعاد على مسامع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المقولات نفسها التي رددتها ميركل قبل ستة عشر عامًا، فمهمة "ألمانيا هي ضمان وجود إسرائيل وأمنها"، موضحًا أن ذلك "مترتّب عن مسؤوليتنا عن المحرقة".

لم يكن شولتس المسؤول الألماني الأول الذي وصل تل أبيب بل سبقته وزيرته للخارجية أنالينا بيربوك في 13 أكتوبر 2023، بعد يوم واحد من زيارة نظيرها الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي قال في حينه إنه لم يأتِ لإسرائيل كونه وزيرًا للخارجية الأميركية، ولكن بصفته "يهوديًا فرّ جده من القتل".

زارت بيربوك التي تنتمي إلى حزب الخضر، مستوطنة نتيفوت، قرب الحدود مع قطاع غزة، آنذاك، وقالت لنظيرها الإسرائيلي في حينه إيلي كوهين: "نحن جميعًا إسرائيليون في هذه الأيام. نقف إلى جانبكم، ونشعر بألمكم"، مضيفة أن "أمن إسرائيل جزء من مصلحة برلين”. 

لم يتغير موقف بيربوك منذ ذلك الوقت حتى آخر زياراتها إلى الشرق الأوسط هذا الشهر، بل إن موقفها  شهد محطات اتسمت بالتشدد، وإعادة تفسير بعض القوانين الدولية بما يسوّغ استهداف المدنيين في أزمنة الحروب، فبمناسبة الذكرى السنوية الأولى لهجوم حماس في 7 أكتوبر ألقت الوزيرة الألمانية كلمة أمام البرلمان (البوندستاغ) أكدت فيها أن حق الدفاع عن النفس "لا يعني مهاجمة الإرهابيين، بل تدميرهم". وأضافت إنه عندما "يختبئ عناصر حماس بين الناس وخلف المدارس، فإن الأماكن المدنية تفقد وضع الحماية، لأن الإرهابيين ينتهكونها"، وفق قولها.

واعتبرت أن "أمن إسرائيل جزءٌ من مصلحة برلين"، بصرف النظر عمن يتولى السلطة في ألمانيا. 

بيربوك مع رئيس البرلمان اللبناني في بيروت- رويترز

أثارت تصريحات بيربوك غضبًا واسعًا في منطقة الشرق الأوسط، وأعاد منتقدو تصريحاتها هذه التذكير بتصريحات سابقة لمفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 انتقد فيها بشدة محاولات إضفاء شرعية من أي نوع على قصف المدنيين في قطاع غزة، معتبرًا ذلك كارثة إنسانية وقانونية.

وقال: إن "تصرفات أحد الطرفين (إسرائيل أو حركة حماس) لا تعفي الطرف الآخر من التزاماته بموجب القانون الإنساني الدولي"، وإن "من الواضح أن أحد الجانبين ينظر إلى قتل المدنيين على أنه إما أضرار جانبية مقبولة أو سلاح حرب متعمد ومفيد، وهذه كارثة إنسانية وحقوقية، وتمثل انهيارًا للاحترام الأساسي للقيم الإنسانية".

تجميد المساعدات للفلسطينيين وزيادة تسليح إسرائيل

يذكر أنّ ألمانيا جمدت كل مساعدات التنمية التي كانت تقدمها للأراضي الفلسطينية في الأيام الأولى التي أعقبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كما شددت من إجراءاتها الأمنية الخاصة بالتجمعات المناصرة لغزة في ألمانيا، وأجرت تغييرات على قانون الجنسية الجديد الذي دخل حيز التنفيذ في يونيو/ حزيران الماضي، تشترط اعتراف المتقدمين بطلبات الحصول على الجنسية في ألمانيا، بحق إسرائيل في الوجود. 

ورغم تزايد الدعوات في العالم، وفي استطلاعات الرأي الألمانية، لوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة واصلت برلين ذلك، وتعهد المستشار أولاف شولتس قبل نحو أسبوع بمواصلته، وقال في خطاب ألقاه في البوندستاغ: "توجد عمليات إرسال، وستكون هناك دائمًا عمليات إرسال أخرى. يمكن لإسرائيل الاعتماد على ذلك".

وأظهرت بيانات لوزارة الخارجية الألمانية الخميس (24 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري) أن برلين وافقت خلال الأشهر الثلاثة الماضية على صادرات عسكرية لإسرائيل تزيد قيمتها عن 100 مليون دولار، وذلك بالتزامن مع قضية رفعتها جماعات لحقوق الإنسان بسبب التخوف من استخدام الأسلحة في الحرب الجارية بقطاع غزة. 

وقال المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان اليوم الخميس: إنه قدم استئنافًا إلى المحكمة الإدارية في فرانكفورت نيابة عن أحد سكان غزة، سعيًا لوقف المزيد من صادرات الأسلحة.

ويقول المدعي في القضية، وهو من سكان غزة وفقد زوجته وابنته في الغارات الجوية الإسرائيلية: إن استمرار شحنات الأسلحة يعرّض حياته وحياة الآخرين للخطر، داعيًا ألمانيا إلى التوقف عن إرسال المزيد من الأسلحة.

ليس ثمة من يسمع نداءً كهذا. وحدها أنّات ضحايا الهولوكست ما يتردد صداها في أروقة الحكم الألمانية، ومسامع المسؤولين في برلين، رغم مرور أزيد من ثمانية عقود عليها...

المصادر:
موقع التلفزيون العربي
شارك القصة