احتلّت صدارة الأحداث في الساعات الأخيرة، زيارة وفد وزاري لبناني إلى سوريا لبحث سبل إخراج لبنان من أزمة الطاقة الخانقة التي يعيش على وقعها منذ أشهر.
في هذا السياق، يرى لبنان في إمدادات الغاز والكهرباء التي ستصل من مصر والأردن عبر سوريا مخرجًا محتملًا للأزمة الخانقة التي يشهدها.
لكنّ هذه الخطوة باتجاه النظام السوري، بقدر ما تبدو بمثابة قفز على واقع القطيعة الإقليمية والدولية معه؛ فهي تعيد التساؤل أيضًا بشأن جهود تُبذَل في أكثر من عاصمة في الجوار القريب لإعادة تأهيله وتطبيع العلاقات معه، كما أنّها تُعَدّ خرقًا لقانون قيصر الأميركي.
وإزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام، فما دلالات عودة مرور الطاقة إلى بلدان المنطقة عبر النظام السوري؟ ما قدرته على الاستفادة من هذا التحوّل؟ وما الدوافع المصرية الأردنية لرعايته؟وما موقف الولايات المتحدة من كل ذلك؟
"عون النظام السوري"
باختصار، إنّه رصيف الانتظار الذي يسحب اللبنانيين مجدّدًا إلى طريق دمشق. لم ينفد الوقود وحده في بيروت، بل أموال الناس وصبرهم كذلك.
هكذا، وبعد أن تعطلت الحركة في لبنان، يصوّر البعض الأمر، وكأنّ عون النظام السوري وحده القادر على بعث الحياة فيها من جديد.
من هذا المنطلق، أتت زيارة الوفد الوزاري اللبناني إلى دمشق، حيث أعيد التأكيد مجددًا على حاجة لبنان إلى نظام الأسد ليصله الغاز المصري والكهرباء الأردنية حتى يستقر الوضع المضطرب في البلاد.
"إشارة قبول" من واشنطن
لكنّ المفارقة أنّ هؤلاء المبعوثين لم يأتوا إلى دمشق إلا بموافقة أطراف كثيرين في الإقليم، وهم لا يمكنهم أن يجالسوا نظامًا معاقبًا من أميركا دون إشارة قبول منها.
هكذا أخبرت السفيرة الأميركية في بيروت الساسة اللبنانيين، وهكذا بطريقة ما يخرج النظام السوري من عزلته ويحقق المكاسب.
ليس ذاك محض استثناء أميركي إذًا بل لحظة لإعادة التفكير، لكن الأميركيين عند الحديث عن لبنان وسوريا يفكرون أيضًا بالإيرانيين والروس.
في هذا الأفق البعيد يترقب اللبنانيون وصول ناقلة النفط الإيرانية التي سترسو في سوريا، وعبر حدودها أيضًا، سيعبر إليهم الوقود.
كيف تغيّر فهم الإقليم للأزمة السورية؟
هل يستعين الأميركيون بالنظام هذه المرة حليف الإيرانيين لمحاصرة نفوذهم؟ وما الذي تغيّر حتى بات نظام مُلاحَق بالجرائم عونًا ووسيطا؟
توحي مواقف الإدارة الأميركية وتصريحات قادة المنطقة، بأنّ عشر سنوات على الثورة السورية كانت كافية ليتغيّر فهم الإقليم للأزمة.
يربط البعض كلّ ما يحصل باللقاءات التي حصلت في بغداد أخيرًا، والتي كانت تهيئة لواقع جديد ترتيبًا لما لُقّب هنا بمشروع الشام الجديد، وهو مشروع رابطه الاقتصاد والأمن والسياسة يضم مصر والأردن والعراق، وقد لا يستبعد لبنان وسوريا إن طُبّع مع نظامها.
لكن على الأرض السورية الشاسعة لا تمر أسلاك الكهرباء وخطوط الغاز فقط، فالقصف ما زال يدوّي والأنقاض في كل مكان، وما زال السوريون يطلبون الحرية والأمان.
هل "عادت" سوريا إلى لبنان؟
يرفض الباحث السياسي جوني منيّر الاستنتاج بأنّ سوريا "عادت" إلى لبنان من خلال زيارة الوفد الوزاري اللبناني إلى دمشق، لكنّه يعتبر أنّ ما حصل "مؤشر لبداية ما على مستوى المنطقة".
وإذ يجزم منيّر، في حديث إلى "العربي"، من بيروت، أنّ هذا لا يعني أبدًا إعادة سوريا إلى الواقع الداخلي اللبناني، يلاحظ أنّ تشكيلة الوفد اللبناني كانت "معبّرة".
ويوضح منيّر أنّ هذه التشكيلة لم تكن تقنية محضة، حيث كان حضور نائبة رئيس الحكومة زينة عكر خارج الإطار التقني، وإن كان يجزم في الوقت نفسه بأنّه لم يجر التطرق ولو بكلمة واحدة أو حرف واحد بالاتجاه السياسي خلال الزيارة.
ويشدّد منيّر على أنّ ما حصل جاء برعاية أميركية ولم يكن خارج الإطار، لافتًا إلى أنّ السفيرة الأميركية هي من فتحت الطريق وتحدّثت عن هذا الموضوع منذ فترة قصيرة. ويكشف أنّ هناك على الأقل وزيرًا من الوزراء الثلاثة سأل السفارة الأميركية التي قالت له إنّه لا يوجد مانع من الذهاب بل يجب الذهاب في هذا الاتجاه.
واشنطن "تخلّت" عن ملفّات الأزمة السورية
من جهته، يرى ممثل الائتلاف السوري المعارض في الولايات المتحدة قتيبة إدلبي أنّ الضوء الأخضر كان حتى قبل هذه الزيارة، مشيرًا إلى أنّه صدر من خلال موقف الإدارة الأميركية الحالي من الملف السوري.
ويوضح إدلبي، في حديث إلى "العربي"، من واشنطن، أنّ في هذا الموقف "تخليًا أميركيًا عن ملفات الأزمة السورية مقابل نوع مما تراه الإدارة استقرارًا لمكونات المنطقة ودولها".
ويلفت إلى أنّ "أولى هذه الإشارات كانت بعدم شغل منصب الممثل الخاص بسوريا الذي ما زال شاغرًا إلى اليوم، وليس هناك إدارة مباشرة للملف، كما أننا ما زلنا إلى اليوم في ما يسمى بمراجعة السياسة إزاء سوريا".
ويشير في هذا السياق إلى حصول تخلٍّ عن بعض ملفات عقوبات قيصر من خلال إعطاء أذونات للنظام بالتصدي لجائحة كورونا، ووضع ملف العقوبات على طاولة المفاوضات بشكل مباشر مع الروس.
ويقول: "هذه الإشارات حقيقة واضحة لدول المنطقة أن الولايات المتحدة لا تعطي الملف السوري أي أهمية وأنها ستتخلى عن أدوات الضغط التي كانت قائمة خلال السنوات الفائتة".
ويخلص إلى أنّ المشكلة الأساسية التي تواجه الشعب السوري هي أنّ غياب الوزن الأميركي في التعاطي مع ملفات الوضع السوري سيترك المجال مفتوحًا لروسيا وإيران بشكل أساسي لإدارة هذا الملف.
الأولوية للتعاطي مع واقع لبناني حَرِج
أما أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة الأردنية حسن المومني، فيلفت إلى أنّ الموقف الأردني محكوم بواقع جيوسياسي مع سوريا، مشيرًا إلى أنّ سوريا دائمًا كانت تشكل معضلة للأردن قبل وبعد 2011.
ويشدّد المومني، في حديث إلى "العربي"، من عمّان، على وجوب عدم الحكم على العلاقة الأردنية السورية من منطلق أيديولوجي أو معياري، موضحًا "أننا أمام واقع جيوسياسي معقد".
ويوضح أنّ "الأردن تضرر كثيرًا من الواقع في سوريا سواء في السياق الأمني أو الاقتصادي أو المعيشي ولذلك سياسة الأردن إزاء سوريا قائمة على التوازن ما بين مصالحه ضمن سياق منطقي وواقعي، كما الأطراف الأخرى التي تتعاطى مع الواقع السوري من الأميركيين إلى الأتراك وغيرهم".
ويلفت إلى أنّ الأردن حاول أن يوازن موقفه مع سوريا، ولذلك أبقى على بعض نوافذ التواصل مع النظام في سوريا. ويشير إلى أنّ الأردن لا يملك إلا أن يكون براغماتيًا ومنطقيًا في هذا الجانب.
ويعتبر المومني أنّ هناك مصلحة أردنية اقتصادية إذا ما تمّت عملية إمداد لبنان بالغاز والكهرباء، مشيرًا إلى أنّ الأولوية هي للتعاطي مع واقع لبناني حرج في هذا الموضوع. ويقول: "حتى الأميركيون ينطلقون من ضرورة إنقاذ لبنان مقابل تقديم بعض التنازلات التي قد يستفيد منها النظام في سوريا؛ لكن هذه ليست عملية تأهيل له، علمًا أنّ مسألة الإعفاءات تمّ تطبيقها سابقًا في سياقات عدّة".