شقّت أرتال من السيارات طريقها إلى جنوب لبنان صباح الخامس والعشرين من مايو/ أيار عام 2000. كانت في تلك الصبيحة تلحق بمن سبقها إلى القرى المحرّرة، بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي منها، لتحتفل هناك مع الأهالي الذين زغردوا ورقصوا ووزعوا الحلوى.
في مايو من كل عام، يستعيد اللبنانيون فرحة التحرير واسترجاع الأرض، وكأن ذكرى الأمس لحظة دائمة التجدد، تحيي في كل مرة مآسي الاحتلال ونشوة دحره في آن معًا.
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي وعملاؤها من اللبنانيين قد انسحبت تباعًا من القرى والبلدات الجنوبية بين 21 و24 مايو من ذاك العام، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
الخيام القريبة من الحدود الفلسطينية، هي إحدى تلك البلدات، غير أنها لم تشهد على انسحاب القوات المحتلة منها فحسب، بل أيضًا على تحرير معتقل حفظت جدرانه مشاهد التعذيب وآلام الأسرى وطغيان جلّاديهم.
تحوّل المعتقل لاحقًا إلى متحف، ثم سوّاه القصف الإسرائيلي صيف عام 2006 بالأرض، على عادة الاحتلال في مسعاه إلى طمس جرائمه.
ومع ذلك، يبقى لتحرير معتقل الخيام حصته من الاحتفال بعيد المقاومة والتحرير سنويًا؛ فإن كان بنيانه قد تحوّل إلى ركام، فإن رمزيته كشاهد على ممارسات الاحتلال وعملائه وصمود اللبنانيين باقية لا تزول، تعزّزها صور "هبّة" الجنوبيين لاجتياح المعتقل وإطلاق الأسرى.
صنوف تعذيب مروّعة
أدرات ميليشيات متحالفة مع الجيش الإسرائيلي منذ عام 1985 معتقل الخيام، الذي شهد على صنوف مروّعة من التعذيب، ولم يسمح للصليب الأحمر الدولي بدخوله حتى عام 1995. ووصل عدد المحتجزين فيه إلى 3000 شخص منهم 400 امرأة.
يقول محمد علي حمود، الذي شارك في تحرير المعتقل، إن التحقيقات فيه كانت تستمر لـ40 يومًا، يذوق خلالها المعتقل كل أساليب التعذيب.
ويلفت إلى أنه وآخرين كانوا يسمعون ليلًا لدى مرورهم بجواره مناجاة الأسرى تحت التعذيب، حيث كانوا يرددون: "يا رب، يا الله".
ويكشف أن الاحتلال كان يقوم بتشغيل الدبابات إذا ما ارتفع صوت الأنين كثيرًا، ليحجبه عن آذان السامعين.
بدوره، يلفت الأسير المحرر والمرشد في معتقل الخيام أحمد الأمين، إلى أن الاحتلال وعملاءه لم يميّزوا بين كبير وصغير، فكان يأسر في غرفة مسنًا في السابعة والسبعين، وفي أخرى زوجته ذات الـ74 عامًا. ويردف بأن أصغر أسير شهده المكان كان في الثالثة عشرة من عمره.
ويستذكر الأمين تاريخ المكان، فيلفت إلى أن المبنى في الأساس شيّده الفرنسيون كمركز عسكري عام 1933، ثم مع نيل الاستقلال تحول إلى مركز للجيش اللبناني.
ويشرح أن الاحتلال عندما اضطر إلى الاندحار عام 1984 من النبطية، أقفل معتقل أنصار وافتتح معتقل الخيام.
ويشدد على أن "أصعب ما في التعذيب كان التعذيب النفسي"، متعجبًا: "كم يصعب على المرء أن يرى أمه أو أخته عارية أمام شلة زعران؛ يستشهد قبل أن يرى هذا المشهد!".
كيس وأصفاد وجَلد
من ناحيتها، أُسرت أم عفيف حمود بمرور بعض الوقت على أسر نجلها عام 1988. وتقول إن كيسًا وضع في رأسها وأصفادًا في يديها، وتعرّضت للتعذيب.
ويشرح عفيف أنه كان يتعرّض للضرب في حضور والدته، التي راحت تردد "يا ناري يا ولدي"، فما زادته تلك الكلمات إلا صمودًا.
ويوضح أن أمه، التي لم تكن تعرف شيئًا عن نشاطه المقاوم إلى أن عثرت يومًا على بندقية بحوزته، كانت تُجلد أمام عينيه.
خرجت أم عفيف من المعتقل قبل أن يتم تحرير نجلها في عملية تبادل أشلاء صيف عام 1998، وتلفت إلى أنها كانت تقف بانتظاره على الشرفة باكية طوال الليل.
في مثل اليوم من عام ٢٠٠٠ اقتحم الاهالي معتقل الخيام وحرروا ابنائهم ،بينما هرب عملاء ميلشيا لحد مكتملاً بذلك تطهير جنوب لبنان من الاحتلال واذنابه ، نحن قومٌ لا ننسى اسرانا ❤️. pic.twitter.com/keaXPCxzIX
— Basel Ahmad (@BaselAhmad21) May 23, 2022
ويروي عفيف عن خروجه إلى الحرية في ذلك العام، فيقول إن الناس كانوا يلوحون لنا من خلف النوافذ بأيديهم، فيصلنا سلام أهلنا وشعبنا رغم الظلم والاحتلال.
ويتوقف عند تحرير المعتقل عام 2000، فيقول إن تساقط الاحتلال عن القرية تلو القرية قد سبقه، إلى أن حدثت "انتفاضة" من جانب أهل الخيام حيث أرادوا التوجه إلى المعتقل.
ويلفت إلى أن السجانين والمحققين هدّدوا حينها من أن أي تقدّم باتجاه المعتقل ستبدأ معه إعدامات للأسرى، فتم التوصل لاحقًا إلى فتح ممر آمن ليخرجوا منه حفاظًا على سلامة أسرانا.
تركوا المفاتيح وفرّوا
إلى ذلك، تستذكر الأسيرة السابقة سوسن نمر خنافر المعتقل في يوم التحرير، فتلفت إلى أن المواقع داخله كانت خالية وأنها شاهدت جنديًا يجلس في صندوق السيارة ليهرب، بينما رمت شرطية مفاتيح الزنزانات كلها في الخارج قبل أن تفرّ.
وتضيف: نادينا الشرطة ولم يجبنا أحد، فعلمنا أننا بمفردنا، ثم رأينا جحافل الناس يدخلون إلى المكان.
وتشرح أنهم توجهوا في بادئ الأمر إلى معتقل النساء، فوقفت والأسيرات على حافة الشباك ورحن يصرخن.
سوسن صرخت يومها باسم والدها، الذي كان في ذلك الحين، معتقلًا في زنزانة أخرى.
وفي المكان حيث تواجد والدها، دخلت جموع من الجنوبيين، فطمأنوهم بألا يخافوا، ثم عملوا على خلع الأبواب وسط أجواء من الفرح العارم.
وفي هذا الصدد، يلفت أبو علي الذي كان معتقلًا سابقًا في حينه، ويعرف تفاصيل المكان وتوزيع الزنازين والأقسام فيه، إلى أنه حاول أن ينتقل من غرفة إلى غرفة ويحادث الأسرى.
ويقول إنه زف لهم البشرى: "الحمد لله تحررنا"، والمقاومة دخلت والشرف الأساسي لنا الآن هو تحريركم.
وهذا التحرير لم يكن الأسير المحرّر محمد رباح عبد الله ليتخيله، فهو يؤكد أن الخروج من المعتقل كان حلمًا بالنسبة لنا، لا سيما وأن وجودنا فيه لا مدة زمنية له.