في المواجهات المحاذية للجدار الفاصل أو في قرى الضفة وقطاع غزة، لا يواجه الفلسطينيون قوات الاحتلال فحسب، وإنما يواجهون سياسة ممنهجة تستهدف أجسادهم عبر أسلحة محرّمة دوليًا، ويتمّ التعامل معهم وكأنّهم "فئران تجارب"، من دون رادع قانوني.
إنّها باختصار سياسة إسرائيلية ممنهجة في استهداف الشباب الفلسطيني لإصابتهم بإعاقات دائمة وخلق جيل غير قادر على الحركة في مواجهة الاحتلال، تجلّت بشكل واضح خلال مسيرات العودة الكبرى التي شهدتها الأراضي الفلسطينية في الأعوام الأخيرة.
وخصّصت حلقة هذا الأسبوع من برنامج "عين المكان" للإضاءة على سياسة الاحتلال في استهداف الفلسطينيين بأسلحة محرمة وفي مناطق محددة بهدف قتلهم أو إعاقتهم، وذلك من خلال روايات الجرحى أنفسهم، الذين وجد بعضهم أنّ الشهادة كانت "أهون" عليهم.
قوة مفرطة وإعاقات دائمة
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، واجه 149 فلسطينيًا بينهم 30 طفلًا، بترًا بسبب إصابات لحقت بهم خلال مظاهرات مسيرات العودة الكبرى حتى 31 أغسطس/ آب 2019.
وقد تمّ توثيق ذلك في تقرير لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة، والذي سلّط الضوء على ممارسات قوات الاحتلال الإسرائيلية التي تتسبّب بإعاقات دائمة للفلسطينيين من خلال استخدام القوة المفرطة.
ولفت التقرير في هذا السياق، إلى سياسة إطلاق النار على الركبة التي تستهدف الشباب الفلسطيني بشكل خاص، سياسة عكسها الجرحى أنفسهم في أحاديث منفصلة إلى "العربي"، استذكروا خلاله ما تعرّضوا له من "قمع" قوات الاحتلال.
من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر، عدلي القدومي ونصفت الشتيوي، وهما صديقان من كفرقدوم شمالي فلسطين، تعرّضا خلال مسيرة مناهضة للجدار العازل إلى استهداف برصاص التوتو ما أدّى لإعاقة دائمة لكليهما.
رصاص محرّم دوليًا
يقول مدير مؤسسة شؤون أسر الشهداء والجرحى إبراهيم فقوسه إنّ الاحتلال عمل على إحداث العدد الأكبر من الإصابات بين الشباب الفلسطيني.
ويشير في حديث إلى "العربي"، إلى أنّ هذه الإصابات كانت متنوعة، إما في إحداث ضرر بالغ في الأطراف السفلية أو في العيون.
ويلفت إلى أنّ أغلب الإصابات تنتج عن الرصاص المتفجّر، أي أنّ الرصاصة تتفجر داخل السجن، مشدّدًا على أنّ الرصاص المتفجر محرّم دوليًا، لأنّه يحدث ضررًا مدى الحياة.
ويؤكد على هذا الأمر الدكتور أشرف مشعل والذي كان شاهدًا على العديد من الإصابات المعقدة للجرحى نتيجة استهدافهم خلال المظاهرات.
يقول إنّ رصاص التوتو مثلاً، أو ما يُعرَف بـ"رصاص القتل الصامت"، لا يلفت الانتباه، لأنّ الإصابة في الظاهر تكون "صغيرة"، ولكن في العمق، تؤدي إلى إعاقة دائمًا، كون هذا الرصاص يحدث عاهات كبرى، كتمزيق الشرايين والأعصاب.
رصاص التوتو
ويُلاحَظ أنّ أغلب الإصابات التي يتمّ رصدها في فترة معيّنة، تكون موجّهة بالأغلب نحو الجزء نفسه من الجسم.
وخلال بحثنا وجدنا أن 80% من الإصابات جرت برصاص التوتو وقد تمّ استهداف أجزاء محددة من الجسم، ما يعني إطلاق الرصاص بقصد القتل أو إحداث إعاقة.
ويوضح فقوسه في هذا الإطار أنّ إحصائية عن شهرين مثلًا أظهرت تسجيل 17 إصابة بالعين اليسرى. ويقول: "أحيانًا يكون هناك تعليمات للجنود للتصويب باتجاه الركبة، أو أسفل القدم، وخلاف ذلك". ويضيف: "إنه تدريب القناصة الإسرائيليين على الأجسام الفلسطينية".
ويؤكد الدكتور أشرف مشعل على الملاحظة نفسها، كاشفًا في هذا السياق أنّه "في فترة المواجهات تكون أغلب الإصابات في الركب"، معتبرًا أنّ الهدف من ذلك "إحداث ضرر والتسبب بعجز".
إسرائيل تطور أنواع الرصاص
لا يتجاوز طول رصاصة التوتو 2.5 سنتيمتر برأس معدني قطره 6 ميليمتر ويتمّ إطلاقه من بندقية الروجر من صناعة شركة Sturm, Ruger & Co رابع كبريات شركات تصنيع السلاح الفردي في الولايات المتحدة.
لكنّ إسرائيل لم تكتفِ بذلك، حيث قامت بتطوير أنواع الرصاص معتمدة على استخدام الفلسطينيين كحقل تجارب لإنتاج أسلحة أكثر فتكًا وتطورًا، وفق ما يؤكد الشهود من جرحى وأطباء لـ"العربي".
ويشكّل استخدام أنواع معيّنة من الرصاص خطورة طبية على المصابين الذين يتعرضون لمضاعفات وتطورات صحية قد تشكّل خطرًا على حياتهم مستقبلًا.
وفي هذا السياق، يتحدث الجريح من قرية التقوع محمود الصباح عن بقائه لعدّة أشهر بعد إصابته لم يستطع أن ينام خلالها، ولم يترك مستشفى إلا ودخل إليها بداعي العلاج. يقول إنّه لو استشهد لكان "أهون" عليه من هذه الإعاقة.
أضرار نفسية لا تقلّ خطورة
وعلى الرغم من خطورة تلك الأسلحة، إلا أنّ عدم محاسبة جنود الاحتلال من قبل السلطات والجهات الدولية يُعَدّ تشجيعًا لهم واستمرارًا لسياسة ممنهجة ضدّ الشباب الفلسطيني.
ويقول مدير مؤسسة شؤون أسر الشهداء والجرحى إبراهيم فقوسه إنّ المجتمع الدولي لم يقم إلى اللحظة بمتابعة هذه القضية، "وهذا تقصير دولي من منظمات حقوق الإنسان".
إلا أنّ الاستهداف لا يقتصر على إعاقة وتقييد حركة الشباب الفلسطيني فحسب، وإنما يهدف لكسرهم نفسيًا وتحطيم مستقبلهم الاجتماعي.
ولعلّ ما يزيد الأمر صعوبة أنّه وسط المعاناة التي يخوضها الجرحى إلا أنّهم لا يتلقون أيّ دعم من السلطة الفلسطينية والمؤسسات الرسمية ممّا يزيد من التحديات التي يواجهونها ما بعد الإصابة.
وفي هذا الإطار، يتحدّث الجريح محمد صباح من قرية التقوع عن "حرب نفسية" في الداخل قد تكون أكثر "قساوة" من الإصابة نفسها، ويختصر الأمر بقوله: "أولاد جلدتي لا يساعدونني. إنّه لعيش مخزٍ".