منذ استقلال لبنان ولغاية اليوم، لا يزال حوالي 30% من الأراضي اللبنانية من دون سندات تمليك تثبت ملكيتها، بسبب تقصير إدارات الدولة في إجراء المسح اللازم لتلك الأراضي.
هذا الأمر، ترك المجال مفتوحًا أمام المنازعات بين المناطق والبلديات وأيضًا بين الأشخاص والأفراد حول ملكية هذه الأراضي التي تبلغ مساحتها 3000 كيلومتر مربع أي ثلث مساحة لبنان.
فخلف هذا الواقع، أحقاد وإشكالات دامية بين الجيران والأهالي في البلدات المتجاورة.
لاسا.. نزاع عقاري بأبعاد طائفية
ومن البلدات التي تشهد نزاعًا عقاريًا مستمرًا، بلدة لاسا في جبل لبنان ذات الأغلبية الشيعية حيث كشف تحقيق لـ"العربي" أن بعض الأهالي لا يجرؤون حتى التحدث عن هذا الموضوع أمام الكاميرا وتفادوا الخوض في الملف، بينما حاول قسم آخرون "تلطيف الواقع".
فعلق أحد السكان معتبرًا أن الوضع "طبيعي جدًا"، إلا أن هناك بعض الخلافات الصغيرة التي ما زالت قائمة حول عدد من الأراضي "لكن حلها يتم في المحاكم ولا علاقة للسكان فيها".
في المقابل، لوحظ خلال تجول "العربي" والحديث مع الأهالي في أكثر من بلدة لبنانية، أن السكان يحتكمون للقضاء علنًا لكنهم يتنصلون من تنفيذ الأحكام القضائية.
فحول الخلاف العقاري في لاسا أكّد النائب السابق فارس سعيد أن جميع الأحكام العقارية وأعمال المساحة والتحديد اعتبرت من قبل بعض الأطراف "مجحفة بحق الطائفة الشيعية وأمنت أرجحية للطائفة المسيحية في المنطقة".
بينما يروي الشيخ محمد عيتاني إمام بلدة لاسا وجهة نظره ويقول إن الخلاف على المساحة بدأ عام 1939، حيث تم المسح "بظروف غامضة" بحسب زعمه، لذلك جرى الاعتراض على هذه المساحة في القضاء وحصل السكان على أحكام "تبطل هذه المساحة".
وفي مقابل رواية عيتاني تأكيد من شربل كرم إبن بلدة لاسا – المزارع، أن هناك أراضٍ اشتراها جد جده عام 1870 وموثقة بأوراق مختومة بختم الدولة العثمانية.
فالخلاف في لاسا تحديدًا، بين عائلات شيعية وأخرى مارونية مسيحية من جهة، وبين العائلات الشيعية نفسها والكنيسة المارونية.
ويتمسك إمام البلدة برفض المسح السابق، إذ يقول إنه كان يجب أن يضم شهودًا من طرفهم "لكن هذا الأمر لم يحصل". بينما يقول كرم إن عائلته حددت أملاكها برسالة إلى مخاتير وفعاليات المناطق طالبوا فيها بالتقدم في حال كانت لهم أي اعتراضات على الأملاك ولم يعترض أحد.
من جهته، يشرح الدكتور سعيد أن "الواقع هو أن هناك ملكية معترف فيها وليس أراضٍ متنازع عليها، وأنها تعود للكنيسة المارونية في جبل لبنان".
وتحدث سعيد عن اعتداءات تحصل بشكل يومي على "هذه الملكية"، حيث يستخدم البعض أرض الكنيسة للزراعة بينما شيد البعض الآخر "أبنية ومدافن مخالفة فيها بهدف خلق أمر واقع قبل الدعوة إلى التفاوض". في حين يرى الطرف الشيعي أنه يعمل على هذه الأرض وفق المستندات الرسمية التي حصل عليها.
وتتدخل المرجعيات في لبنان لفرض مواقفها من هذا الصراع، ودعم أبنائها من الطائفتين الشيعية والمسيحية حيث عرض وكيل البطريركية المارونية أندريه باسيل وثائق لبرنامج "عين المكان" قال إنها تثبت التعدي على الملكيات المسيحية.
وتطرق باسيل إلى وجود إشارات قضائية لإزالة هذه التعديات، فتم على سبيل المثال هدم بعض البيوت التي بنيت بشكل غير نظامي، ليقابل هذا الكلام بإصرار من إمام لاسا على أن المنزل الذي تمت إزالته كان نظاميًا وصاحبه يملك المستندات القانونية.
في خضم كل ذلك، يحاول القضاء أن يفصل بين الطرفين لكنه يواجه برد فعلٍ مانعٍ من قبل الأهالي الذين يفرضون نفوذهم في الأراضي، حيث تطرق القاضي شكري صادر رئيس مجلس شورى الدولة السابق إلى أن بعض المناطق "تكسر هيبة الدولة".
في السياق، يشرح طلال دويهي رئيس حركة الأرض، أن الخلاف احتدم حين قررت البطريركية المارونية البدء بمشروع تحديد وتحرير لعقاراتها بعد أن كانت تستند على خرائط العقارات المرسومة جويًا من قبل الجيش اللبناني.
وأضاف دويهي: "بعد الانطلاق بالتحديد الميداني تبين أن بعض الناس يعتدون على الأراضي التابعة لها فوقع الخلاف".
أما الحل وفق الشيخ محمد عيتاني فهو "متعذر أو متعثر لأن القضاء يتعرض لتدخلات سياسية لا سيما أن الموضوع أعطي بعدًا طائفيًا أكثر من بعده القانوني والعقاري".
القرنة السوداء.. تعديات واتهامات
ومن لاسا توجه "العربي" إلى منطقة القرنة السوداء المتنازع عليها بين قضائي بشري والضنية في محافظة الشمال، فرصد الأجواء الخلافية نفسها في المنطقة حتى أن بعضها بلغ حد الحوادث الأمنية بين أبناء بشري وبقاعصفرين.
فالخلاف في الشمال تحول إلى القضاء أيضًا، لكن المخاوف موجودة من تجدده على نحو مسلح، إذ إن الصراع ليس بين الأفراد إنما بين بلدية بشري وبلدية بقاعصفرين حول ملكية القرنة السوداء الغنية ببرك المياه.
فقد خمّن محمد فتفت أحد أبناء منطقة الضنية – بقاعصفرين أن تلاعبًا بالخرائط حصل منذ الثمانينيات لصالح منطقة بشري، وبعدها اعتمد قسم الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني "الخريطة المتغيرة"، مشيرًا إلى أن "هذا ما يسعون اليوم إلى تغييره والمطالبة فيه" والرجوع إلى مسح عام 1940.
وفي هذا الإطار تقول وكيلة بلدية بقاعصفرين زينة فتفت أنهم "صدموا بأن بلدية بشري رفعت دعوى على أهالي القرية ووقف الأعمال في المنطقة"، وتابعت أن أصحاب الأعمال يمتلكون مستندات تؤكد أن هذه الأراضي تابعة لهم.
لكن في بشري يجزم رئيس البلدية فريدي كيروز أن النزاع يدور حول امتلاك بشري غابة الأرز الشهيرة التي تعد مقصدًا سياحيًا مهمًا ومغارة قاديشا، لذلك أراد الطرف الآخر "الاستحواذ على القرنة السوداء".
وقال كيروز إن مشروع البرك المائية الذي تنفذه بقاعصفرين في المنطقة "غير قانوني كونه لا يحتوي على مستندات نظامية تخولهم القيام به".
بدوره، تحدث عمار صبرا مختار بقاعصفرين عن أن المناوشات بين الطرفين بدأت عام 1997 بعد سحب أنابيب لري المحاصيل الزراعية الأمر الذي "قوبل برفض من بشري بحجة أن هذا الأمر يؤثر على مياههم الجوفية".
إنما يقول كيروز إن البلدة لم تكن تريد أن تصل الأمور إلى حد القضاء، "إنما عندما لاحظنا تحركًا من الاتجاه الآخر كان لا بد لنا الدفاع عن أنفسنا".
كما لفت رئيس البلدية إلى أنه بعد تأكيد ملكية القرنة السوداء قانونيًا سيسعى إلى الاجتماع مع فعاليات بقاعصفرين للتشاور في سبل إمدادهم بالمياه، وقال: "لا نقبل أن تكون مزروعاتهم بحاجة إلى ري ولا نمدهم بالمياه".
سهل القموعة.. دم بين الجيران
كذلك هو الحال بين فنيدق وعكار العتيقة حول سهل القموعة وغابتها حيث وصل الخلاف بين الطرفين إلى حد النزاع المسلح العام الفائت.
أما المثير للجدل فهو أن الطرفين يمتلكان وثائق تثبت ملكيتهما للأرض، إلا أن الوثائق شيء والواقع على الأرض شيء آخر.
متحدثًا باسم بلدته، يقول الدكتور محمد خليل رئيس بلدية عكار العتيقة إن هذه الغابات الشاسعة كانت تُستعمل للمراعي بشكل مشترك مع أهالي فنيدق وبلدات الجوار ليتحول الأمر إلى خلاف جدي سنة 1960 فحصل اتفاق بين الفعاليات حينها على تقاسم القموعة بالتساوي بين الطرفين.
وأردف خليل: "أصبح بالتالي 20 مليون متر مربع تقريبًا لفنيدق مقابل نحو 20 مليون متر مربع أيضًا لعكار العتيقة".
إلا أن رئيس بلدية فنيدق الشيخ سميح عبدالحي يقول إنه عندما تم إجراء مسح في فنيدق عام 2006، أصدرت اللجنة المكلفة من قبل القاضي العقاري ووضعت إشارات عبارة عن ترسيم حدود حيث استدعيا الطرفين إلا أن عكار العتيقة رفضت القبول بهذا الترسيم ولا يزال الموضوع حتى اليوم عالقًا في القضاء.
ولم تنجح المفاوضات بين البلدتين في منع وقوع إشكالات مسلحة، ما أوقع عدد من القتلى والجرحى من الطرفين بحسب ما أكد طلال دويهي رئيس "حركة الأرض".
ويطالب أهالي فنيدق اليوم الدولة "بتثبيت القوانين" والقرارات التي اتخذت وإعطاء كل صاحب حق حقه، بينما يشكو أهالي عكار العتيقة من "استقواء على منطقتهم" كون الدولة اللبنانية لم تنفذ يومًا أي قرار هدم لبناء مخالف في القموعة.
في حين ذكر الدكتور حسن يحيى من عكار العتيقة أن دعوات كثيرة أطلقت لجيرانه في فيندق لإبقاء أراضي القموعة "كما هي" دون المساس بها من خلال البناء "كي لا ينتج عن الأمر دم بين البلدتين إلا أنهم لم يرضخوا واستمروا في التعديات وقطع الأشجار".
وفي الخارطة والمستندات يقع سهل اليمونة في الحد الفاصل بين فنيدق وعكار العتيقة بينما تركت السلطات أهل المنطقة ليتنازعون في ملكيات ضائعة، في ظل تصاعد المخاوف من استحواذ طرف دون آخر على المياه الجوفية في القموعة.