لا تزال بطولة كأس العالم بكرة القدم في إيطاليا عام 1934، تحمل العديد من علامات الاستفهام حولها، نظرًا لما شهدته من أحداث اعتُبِرت بعيدة كل البعد عن "الروح الرياضية" التي تتّسم بها اللعبة الأكثر شعبية في العالم.
يومها، تم منح النسخة الثانية من المونديال لإيطاليا، التي كانت حينها تحت قبضة دكتاتورية فاشية، بقيادة بينيتو موسوليني الذي سيطر على البلاد عام 1922، وفرقته ذات القمصان السوداء.
وشهدت حقبة حكم موسوليني خلال السنوات الـ12، الكثير من القمع والترهيب بحق خصومه السياسيين، وكذلك نشطت حملات الاعتقال في البلاد بحق أي معارض.
ورغم طلب السويد حينها حق استضافة الكأس العالمية، جنح الاتحاد الدولي للعبة للخيار الإيطالي، وانتشرت بعدها العديد من الإشاعات عن أساليب ملتوية، بل "ترهيبية"، مارسها أعضاء حكومة موسوليني وكذلك الاتحاد الإيطالي بحق الفيفا.
كان موسوليني جاهزًا للاستثمار في كرة القدم، فقدم دعمًا للأندية الإيطالية لمقارعة الأندية الإنكليزية أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، لكن المنتخب الإنكليزي تمكن في ثلاث مناسبات مختلفة من قهر الأزوري حينها، قبل المونديال الذي قاطعته دول المملكة المتحدة، كونها مقاطعة أساسًا لنشاطات الفيفا.
"هرقل على الكرة والدوتشي في الطابور"
ومع الظروف التي توافرت لموسوليني وقبل التصويت على اسم البلد المستضيف، قيل إن رئيس اتحاد كرة القدم الإيطالي جيوفاني ماورو أكد للفيفا أن بلاده مستعدة لتغطية أي خسارة ممكنة.
ويقول النقاد: إنّ كل ذلك كان لسبب وحيد لا غير ويعود لتخطيط موسوليني حينها استخدام البطولة منصة للدعاية الفاشية الإيطالية في أوروبا، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة.
كان هرقل يقف على كرة القدم، وذراعاه ممدوتان إلى الأمام كتحية فاشية، وهو ما بدت عليه المطبوعات والملصقات لمونديال إيطاليا حينها، فيما وقف موسوليني بطابور مع الجمهور لشراء تذكرة الافتتاح باعتباره نوعًا من التسويق، في حركة وصفتها صحيفة "غارديان" ذات يوم، أنها "تشبع موهبة موسوليني المسرحية".
إلا أنّ تذكرة موسوليني انتهت بجلوسه في مقصورة خاصة ليشاهد مباراة منتخب بلاده الأولى، في ملعب PNF وتعني ملعب الحزب الوطني الفاشي، الذي أزيل بعد الحرب العالمية الثانية، ليحل مكانه ملعب فلامينيو.
"الملاعب"
حقق موسوليني حلمه، وترجم نهجًا اتخذته الفاشية الإيطالية، عقب الحرب العالمية الأولى، فكرة كان يسوقها بالتزامن مع الآلة الدعائية الألمانية الفاشية التي عملت لاحتضان الألعاب الأولمبية عام 1936، ونجح كل من الدوتشي، والفوهرر في المناسبتين.
كانت إحدى القضايا التي أزعجت الديكتاتور الإيطالي خلال المباريات الافتتاحية للبطولة هي ملء مدرجات الملاعب، فكانت إيطاليا أول من أقامت كأس العالم في مدن متعددة، مما جعل من الصعب على المشجعين السفر من مباراة إلى أخرى.
رغم ذلك، أمر "الدوتشي" المعلقين الإذاعييين بالتعليق مرارًا وتكرارًا أن الملاعب ممتلئة بشكل مثير للإعجاب، وسارت الأمور كما أراد لها الزعيم الإيطالي حينها، فسحق الأزوري منتخب الولايات المتحدة في المباراة الافتتاحية بنتيجة (7-1)، وفي ربع النهائي وقعت الحادثة التي لا تزال ترسم علامات استفهام كبيرة حتى يومنا هذا.
"الفوز بأي ثمن"
وتواجه منتخب إيطاليا مع إسبانيا في ربع النهائي، حيث أقيم اللقاء في مدينة فلورنسا، وحملت المباراة التي تحظى بسمعة سيئة في ذكريات البطولة، الكثير من الأحداث العنيفة، التي أجبرت عددًا من لاعبي الفريقين على الخروج بسبب الإصابة، ومنهم لاعب الوسط الإيطالي ماريو بيتزيولو الذي أصيب بكسر في الساق، وانتهت المباراة (1-1).
حينها لم يكن نظام تمديد الوقت أو ضربات الترجيح نافذًا، فوحده نظام إعادة المباراة كان ممكنًا أمام الفريقين، لتدخل إسبانيا المباراة الثانية في غياب سبعة لاعبين من الذين أصيبوا في المباراة الأولى.
وبعد تقدم أصحاب الأرض في الدقيقة الحادية عشرة بهدف لجوسيبي مياتزا، تم إلغاء هدفين لإسبانيا، أحدهما بسبب تسلل مشكوك فيه، والآخر عاد الحكم بشكل غريب ليلغيه، ويمنح إسبانيا ركلة حرة، وانتهت المباراة بفوز إيطاليا (1-0).
"كأس موسوليني"
وصلت إيطاليا نصف النهائي لتتغلب على النمسا، فيما جمعت مباراة النصف النهائي الثانية ألمانيا وتشيكوسلوفكيا الضعيفة حينها، إلا أنّها حققت الفوز بقرارات وصفتها تقارير عدة بريطانية وفرنسية بالغريبة والمشكوك فيها من الحكم.
وصلت إيطاليا وتشيكوسلوفاكيا إلى النهائي الذي أقيم في روما بحضور موسوليني وكبار قادة جيشه والدولة، ليدرك الأزوري التعادل في الدقيقة 81 لتصبح النتيجة 1-1، بعد تقدم المنافس، قبل أن يسجل هدف الفوز في الدقيقة الخامسة من الوقت الإضافي، الذي اعتمد فقط في المباراة النهائية.
لم يحقق موسوليني رغبته في استضافة البطولة فحسب، بل نجح في تجسيد قوة ونجاح إيطاليا الفاشية، التي بلغت ذروتها بكأس جول ريميه الذي رفعه قائد المنتخب الإيطالي جيانبيرو كومبي، ويرخي موسوليني والفاشية بظلالهما على فوز إيطاليا بأول ألقابها الأربعة في تاريخ كأس العالم.
لم يكن الدوتشي مهتمًا باللعبة ولم يكن متحمسًا لها، لكنه أدرك أن كرة القدم يمكن أن تكون مصدر تباهٍ على المسرح العالمي. وأدرك أن اللعبة الجماهيرية، يمكن استخدامها لإقناع الجماهير واستمالتهم.
بدرجة حراراة بلغت الأربعين، وأمام 55 ألف متفرّج، وقف موسوليني فخورًا بإنجازه الذي سيكرره الأزوري عام 1938، والذي استفاد منه هتلر في استضافة الألعاب الأولمبية عام 1936، ليغزوا معًا أوروبا في حرب أزهقت أرواح الملايين، بعد أن جعلا الرياضة مجرد وسيلة للفاشية.