الثلاثاء 17 Sep / September 2024

البدائل وخيارات الرد.. كيف هددت العقوبات الغربية قطاع الطيران الروسي؟

البدائل وخيارات الرد.. كيف هددت العقوبات الغربية قطاع الطيران الروسي؟

شارك القصة

يضع استمرار الحرب في أوكرانيا وتواصل العقوبات على روسيا قطاع الطيران أمام مهمة صعبة وتحد حقيقي - غيتي
يضع استمرار الحرب في أوكرانيا وتواصل العقوبات على روسيا قطاع الطيران أمام مهمة صعبة وتحد حقيقي - غيتي
مع مرور الوقت، سينقص عدد الطائرات الصالحة للاستخدام من صنع بوينغ أو إيرباص في المطارات الروسية. وهذا ما يدفع السلطات الروسية إلى البحث عن بدائل.
محمد حسن (موسكو) - كاتب صحافي

بنبرة لا تخلو من حزم، أنهى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إطلاق سهام انتقاداته لوزير الصناعة والتجارة، قاطعًا الطريق على الوزير الذي تعهد بـ"إبرام العقود خلال الربع الأول من هذا العام" للحصول على طائرات ركاب جديدة.

"أريد عقودًا تقدم للمصانع خلال شهر"، قال بوتين، الذي يدرك جيّدًا خطر تهديد العقوبات الغربية لقطاع الطيران الروسي، فهل ينجو الأخير من تبعات ما يخطَّط له؟

طائرات بوينغ وإيرباص "ممنوعة" على روسيا؟

مع توقف عملاقي صناعة الطائرات المدنية بوينغ وإيرباص عن تصدير الطائرات إلى روسيا في إطار العقوبات، بات على شركات الطيران الروسية أن تحلق بما لديها من طائرات، صُنِع معظمها في الغرب.

لكنّ السلطات الروسية نقلت ملكية جزء من هذه الطائرات من الشركات الغربية إلى شركات روسية بطريقة أحادية الجانب عبر "أمر إداري" أشبه ما يكون بعملية تأميم، فيما أصبح الجزء الآخر منها ملكًا للشركات الروسية، بعدما سددت قيمتها بالكامل قبل بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا.

ومنذ ذلك الحين، لم تتسلّم الشركات الروسية أي طائرة جديدة من بوينغ أو إيرباص، كما أنها لم ولن تحصل على أي قطع غيار، طالما أن العقوبات قائمة، وهو ما يعني أنّها لن تحصل على أي دعم فني لصيانة الطائرات الموجودة لديها من صنع هاتين الشركتين العملاقتين.

ويعزّز هذا الأمر، إذا ما استمرّ، عدم تمكن الشركات الروسية من تشغيل طائرات بوينغ وإيرباص في نهاية المطاف. 

حلول مؤقتة وصديق "حَذِر"

لعلّ ما بدا لافتًا للانتباه مع إغلاق حيز كبير من المجال الجوي الدولي أمام شركات الطيران الروسية، تمثّل في بروز فائض في عدد الطائرات لديها، يفوق حاجتها للتحليق إلى الدول التي لم تغلق أجواءها أمامها.

وسيسهل هذا الأمر على شركات الطيران الاستمرار في العمل مؤقتًا، إذ ستتحول الطائرات التي توقفت عن العمل مصدرًا لقطع الغيار لتلك التي تستمر في التحليق، إلا أنّ النجاح في اعتماد هذه الطريقة ليس سوى مسألة وقت.

أما اللجوء إلى خبرات وأساليب دول أخرى تعاني من أثر العقوبات كإيران وكوريا الشمالية، فلن يكون مجديًا تمامًا، لأن قطاع الطيران الروسي أكبر بكثير مما لدى هذه الدول، وقد لا يتوفر في السوق السوداء ما يكفي من قطع غيار لتشغيل ما لديه من طائرات غربية الصنع.

وكذلك، قد لا يكون اللجوء إلى الدول التي تصفها موسكو بـ"الصديقة"، على غرار الصين، حلًا مطروحًا، إذ يستبعد غالبية المتابعين أن تقدم هذه الدول على خطوة كهذه لما قد يترتب عليها من تداعيات سياسية واقتصادية، تقود إلى فرض عقوبات عليها أيضًا.

وبالتالي، فمع مرور الوقت، سينقص عدد الطائرات الصالحة للاستخدام من صنع بوينغ أو إيرباص في المطارات الروسية. وهذا ما يدفع السلطات الروسية إلى البحث عن بديل دونما تأخير.

البدائل الروسية.. هل هي حاسمة؟

بالحديث عن البدائل، تبرز طائرة إليوشن 96 (Ilyushin Il-96) التي تمتلكها روسيا، وهي طائرة سوفيتية الصنع، تستخدم في الرحلات الداخلية، إلا أنّ العدد المتبقي منها قليل لا يكفي لتلبية الطلب، وملء الفجوة الناجمة عن توقف الطائرات الغربية الصنع عن الطيران.

طائرة إليوشن 96 (Ilyushin Il-96) سوفيتية الصنع وتستخدم في الرحلات الداخلية - غيتي
طائرة إليوشن 96 (Ilyushin Il-96) سوفيتية الصنع وتستخدم في الرحلات الداخلية - غيتي

كذلك، تطلّ برأسها طائرة سوخوي سوبرجت (Sukhoi Superjet)، وهي طائرة روسية بحجم طائرة إيرباص A220، وتستخدم في غالبيتها للرحلات الداخلية القصيرة والمتوسطة، وهي موجودة في أسطول عدد من الشركات الروسية. وتُعَدّ هذه الطائرة روسية الصنع فعلًا، إلا أنّ عددًا كبيرًا من أجزائها الحيوية من صنع شركات غربية، كأنظمة الملاحة، والتحكم، وأنظمة الهيدروليك وغيرها.

وفي حين بدأ تصنيع هذه الطائرة في روسيا منذ سنوات، وهو ما يدفع البعض إلى الجزم بأن مستودعات المصانع الروسية لديها ما يكفي من مكونات أجنبية تتيح لها الاستمرار في إنتاج هذا النوع من الطائرات وصيانتها لفترة معينة، تكمن معضلتها الأكبر في محرك SaM146.

فهذا المحرّك هو إنتاج مشترك لشركتي ساتورن الروسية وسافران الفرنسية، في شراكة باتت بحكم "المستحيلة" بفعل العقوبات الغرب، ما يجعل صنع هذه المحركات والحصول على قطع غيار لما هو موجود، أمرًا بعيد المنال أيضًا.

طائرة سوخوي سوبرجت (Sukhoi Superjet) هي طائرة روسية بحجم طائرة إيرباص A220 - غيتي
طائرة سوخوي سوبرجت (Sukhoi Superjet) هي طائرة روسية بحجم طائرة إيرباص A220 - غيتي

أما طائرة MC-21 الشبيهة ببوينغ 737 وإيرباص 320 والتي تناولها الإعلام الروسي كثيرًا على أنها محلية الصنع بالكامل، فهي الأخرى زُوّدت بمحرك Pratt & Whitney الأميركي الصنع، ما يجعل مصيرها مشابهًا للطائرات السابقة.

ومع أنّ هذه الطائرة أجرت تحليقًا اختباريًا بمحركات آفيا دفيغايتل PD-14 الروسية الصنع، إلا أنّ حصولها على ترخيص للتحليق بها قد لا يحلّ المشكلة، لأنّها تعتمد أيضًا على عدد كبير من الأجهزة الغربية، مثل منظومة الملاحة والتحكم بالطائرة.

وإذا كان حلّ هذه المعضلة يتطلب صناعة هذه الأنظمة في روسيا ومن ثمّ ترخيصها، فإنّ ذلك يصطدم بعامل الزمن، علمًا أنّ رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين وعد في أبريل/ نيسان الماضي بأن تكون هذه الطائرة خالية من المكونات المستوردة بنسبة 97% بحلول 2024.

طائرة MC-21 الشبيهة ببوينغ 737 وإيرباص 320 والتي تناولها الإعلام الروسي كثيرًا على أنها محلية الصنع بالكامل - غيتي
طائرة MC-21 الشبيهة ببوينغ 737 وإيرباص 320 والتي تناولها الإعلام الروسي كثيرًا على أنها محلية الصنع بالكامل - غيتي

بصيص أمل.. طائرة روسية بالكامل

إزاء ما تقدّم، يبقى هناك بصيص أمل مصدره طائرة حديثة نسبيًا بحجم بوينغ 757 تحلق بمحركات وأنظمة ملاحة روسية بالكامل، ويمكن تحويلها إلى طائرة ركاب بسهولة، علمًا أنّ بعض المصادر في روسيا تؤكد أن ذلك قد تمّ بالفعل.

ورغم أنّ هذه الطائرة تخلو من القطع الأجنبية، ما يجعل العقوبات الغربية بلا تأثير عليها، إلا أنّ مشكلة أخرى تظهر هنا، وترتبط بحجم الإنتاج، حيث تشير التقديرات إلى أن شركة توبوليف المصنعة ستتمكن من إنتاج عشر طائرات في السنة فقط من طراز Tu214 بحلول عام 2025، شرط زيادة وتيرة الإنتاج. وللمقارنة، تنتج إيرباص حاليًا 45 طائرة من طراز A320neo شهريًا، فيما تنتج بوينغ 27 طائرة من طراز 737 max في الشهر.

تشير التقديرات إلي أن شركة توبوليف المصنعة ستتمكن من إنتاج عشر طائرات في السنة فقط من طراز Tu214 بحلول عام 2025 - غيتي
تشير التقديرات إلي أن شركة توبوليف المصنعة ستتمكن من إنتاج عشر طائرات في السنة فقط من طراز Tu214 بحلول عام 2025 - غيتي

وفي السياق نفسه، يُحكى عن مشروع روسي صيني بدأ قبل الحرب، حيث تشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ المفاوضات بشأنه وصلت إلى مرحلة متقدمة بين مؤسسة كوماك الصينية والمؤسسة الموحدة للطيران الروسية لتشكيل شركة روسية صينية قد تحمل الاسم "كراك"، لصناعة طائرات مدنية بعيدة المدى من طراز CR929.

ووفقًا للمعلومات، فإنّ هذه الطائرة شبيهة بطائرة بوينغ 787، لكنّها تعتمد أيضًا، وفقًا لما هو مخطط، على أجهزة الملاحة الغربية، علمًا أنّها كان يفترض أن تبصر النور هذا العام، وهو ما لم يحصل. 

وبالتالي، فإنّ هذه الطائرة أيضًا قد لا تشكّل الحلّ، فحتى لو تمّ استبدال كل الأنظمة التقنية الغربية بأخرى روسية، تظهر معضلة مشاركة الصين ما قد يعرّضها لعقوبات، وحتى لو مضت الصين بالمشروع، فإنّ هذه الطائرة قد لا تغادر أجواء روسيا والصين، نظرًا لحاجتها إلى تراخيص دولية يبدو الحصول عليها الآن أشبه بالمستحيل.

مشروع روسي صيني بدأ قبل الحرب لصناعة طائرات مدنية بعيدة المدى من طراز CR929 - غيتي
مشروع روسي صيني بدأ قبل الحرب لصناعة طائرات مدنية بعيدة المدى من طراز CR929 - غيتي

هل ترتدّ العقوبات على الغرب؟

عمليًا، مثّل إغلاق المجال الجوي الروسي أمام شركات الطيران الغربية ردًا متماثلًا أثر بشكل سلبي عليها بدرجات متفاوتة، فشركة فين إير (Finnair) الفنلندية على سبيل المثال تضرّرت، بعدما كانت تستخدم المجال الجوي الروسي في الغالبية المطلقة من رحلاتها إلى دول جنوب شرقي آسيا.

ومن العوامل التي أدّت إلى تضرّر هذه الشركة وغيرها، أنّها تضطر لسلك طريق أطول، من دون المرور بالمجال الجوي الروسي، وزيادة المسافة تزيد من كمية الوقود المطلوب، وهذا يزيد من كلفة هذه الرحلات ويجعلها أقل منافسة أمام شركات طيران الدول التي لم تفرض عقوبات على روسيا، كشركات الطيران العملاقة في دول الخليج.

بيد أن كلفة الرحلات الجوية ارتفعت حتى على هذه الأخيرة بسبب عقوبات القطاع المصرفي الروسي، وفصل نظام سويفت للحوالات المصرفية عن روسيا، فدخول الطائرات المجال الجوي يفرض دفع رسوم هذه الممرات الجوية، ومع فصل نظام سويفت، باتت آلية الدفع معقدة ناهيك عن زيادة تكلفتها.

 كما أن روسيا من كبار الدول المصدرة للنفط والغاز، وقد أدت العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الروسي والرد الروسي عليها إلى ارتفاع أسعار الوقود ما انعكس على أسعار النقل الجوي حول العالم.

 كما زادت كذلك أسعار الشحن الجوي، فالجزء الأكبر من هذا الشحن يتم في الطائرات المدنية مع أمتعة المسافرين، ومع انخفاض عدد الرحلات الجوية حول العالم ارتفعت أسعار الشحن الجوي بالنسبة للمستهلك الأخير.

شركة فين إير (Finnair) الفنلندية تأثرت سلبًا بقرار بوتين إغلاق المجال الجوي الروسي أمام الطائرات الغربية - غيتي
شركة فين إير (Finnair) الفنلندية تأثرت سلبًا بقرار بوتين إغلاق المجال الجوي الروسي أمام الطائرات الغربية - غيتي

الرد الروسي والتيتانيوم.. ورقة قوة وخطر محدق

وبالحديث عن الرد الروسي على العقوبات، يبرز قرار الرئيس فلاديمير بوتين منع تصدير التيتانيوم الخام والمصنع إلى الدول الغربية، علمًا أنّ صناعة الطيران الحديثة تعتمد بشكل كبير على هذا المعدن لعدة أسباب، فهو متين كالصلب، ويتميز بوزن يقل بنسبة 45%، كما أن درجة انصهاره عالية جدًا تصل إلى 1668 درجة مئوية، ما يجعله الأنسب للاستخدام في محركات الطائرة.

ومع أنّ روسيا ليست المنتج الأكبر لهذا المنتج، بل الصين وتليها اليابان، إلا أنّ خصائصه تجعل تصنيعه أمرًا معقدًا للغاية، وهنا تتفرد روسيا بقدرات لا تمتلكها دول أخرى، فهي الرائدة عالميًا بتصنيع أجود أنواع التيتانيوم المطلوب في صناعة الطيران. وقد اكتسبت روسيا هذه القدرات منذ أن استخدمت التيتانيوم في صناعة غواصاتها النووية، ويُعتقد أن الغرب لم يتدارك خصائص هذا المعدن إلا بعد وقت طويل، حيث كانت روسيا قد قطعت أشواطًا في هذا المجال.

وبالفعل، تلبي شركة بوينغ ثلث حاجتها من التيتانيوم من روسيا، وتحصل إيرباص على نصف حاجتها منه من روسيا كذلك، كما تعتمد الشركات المصنعة لمحركات الطائرات بنسبة كبيرة على هذا المعدن المصنع في روسيا، ولا سيما الأوروبية منها.

صناعة الطيران الحديثة تعتمد بشكل كبير على معدن التيتانيوم لعدة أسباب - غيتي
صناعة الطيران الحديثة تعتمد بشكل كبير على معدن التيتانيوم لعدة أسباب - غيتي

وإذا كان عمالقة صناعة الطيران في الغرب عمدوا منذ أزمة القرم عام 2014 إلى شراء كميات كبيرة منه، فإنّ الأمر مختلف مع الشركات المصنعة لمحركات الطائرات، حيث إنه قد يعقّد صناعة الطائرات إجمالًا، علمًا بأنّ هذه المصانع لن تكون قادرة على شراء التيتانيوم من دول أخرى، نظرًا لضرورة توفر الترخيص، فإنتاج هذه الأجزاء يتم بمواصفات معينة، وهذا يستغرق وقتًا لإجازتها بعد طول تجربة واختبار.

أما الخطر المحدق في روسيا، فيكمن في تمكن هذه الشركات من تأمين مصدر جديد للتيتانيوم ذي المواصفات المطلوبة والاستثمار في إنتاجه. حينها، ستتحرر من المُنتج في روسيا حتى لو انتهت الحرب ورفعت العقوبات، ما يعني خسارة روسيا لسوق كبير ذي تأثير مهم.

هل تنجح روسيا في "التحدّي"؟

في النتيجة، يبدو أنّ استمرار الحرب في أوكرانيا، وتواصل العقوبات الغربية على روسيا، سيجعل من الحفاظ على قطاع الطيران مهمة صعبة بالنسبة لموسكو، ويضعها أمام تحد حقيقي.

يتمثّل هذا التحدّي في إنتاج طائرات روسية بوتيرة تسبق وتيرة توقف الطائرات الغربية التي لديها عن الطيران، ولذلك قد تلجأ في هذه المرحلة الانتقالية إلى تشغيل الطائرات الغربية دون الدعم الفني اللازم، وبغض النظر عن بعض متطلبات الشركات المصنعة، وهو ما قد ينعكس على متطلبات الأمان.

ومع أنّ روسيا لطالما نجحت بصناعة آليات عسكرية متطورة وكانت السباقة في بلوغ الفضاء، إلا أنّ آلياتها المدنية بقيت بعيدة كل البعد عن المنافسة؛ ومنها على سبيل المثال سيارات لادا. لكنّها في المقابل، برعت في صناعة المقاتلات العسكرية مثل ميغ وسوخوي، فهل تتمكن من وضع قدمها على عتبة مستقبل مماثل للطائرات المدنية؟

تابع القراءة
المصادر:
العربي
Close