"إن هذا النظام يعتبر أن أمنه فوق كل شيء وأن المعتقد السياسي الذي يعارضه بالفكر والرأي هو مجرم لا يمكن أن تغتفر له جريمته بينما يغفر للمجرم القاتل"، هذا ما قاله السياسي السوري شبلي العيسمي عام 1984 في لندن، خلال محاضرة ألقاها حول النظام السوري.
ولطالما شكّلت الأنظمة القمعية هاجسًا لدى شعوبها، إذ إن أسماء مواطنيها لا تسقط من دفاترها مع تقادم الأيام وحتى المنفيين الذين هجروا البلاد بدون رجعة، لا تغلق سجلاتهم بل تعلّق حتى إشعار آخر.
وحين يقررون العودة إلى أرض الوطن بدافع الحنين والاعتقاد أنها أضحت آمنة، تطالهم أذرع تلك الأنظمة لتغلق حساباتهم لمرة واحدة وإلى الأبد.
ويُعد شبلي العيسمي واحدًا من هؤلاء، بعدما تم اختطافه في 24 مايو/ أيار 2011 من أمام منزل ابنته في منطقة عاليه بلبنان، بعد خمسة أيام من وصوله آتيًا من الولايات المتحدة الأميركية.
واقتيد العيسمي إلى جهة مجهولة لم تفصح عن مصيره حتى اليوم، رغم مرور سنوات طويلة على الحادث.
حياة العيسمي السياسية
واقتحم العيسمي الحياة السياسية منتسبًا إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، ومع وصول الحزب إلى السلطة عقب انقلاب 8 مارس/ آذار 1963، شهدت مسيرته صعودًا تدريجيًا إلى أعلى مستوى الهرم السياسي في سوريا.
وتولى العيسمي منصب الأمين المساعد للحزب ونائب رئيس الجمهورية وتبوأ مقاعد وزارية متعددة، لكن بعدما دبّ الخلاف داخل أروقة البعث انقسم طرفا الصراع إلى طرفين: اللجنة العسكرية للحزب والقيادة العسكرية تحت قيادة صلاح جديد وحافظ الأسد؛ والقيادة القومية الحاكمة للحزب وعلى رأسها ميشال عفلق والرئيس السوري أمين الحافظ ورئيس الوزراء صلاح البيطار ومعهم شبلي العيسمي.
وفي تصريح لـ "العربي"، قال عضو القيادة القطرية السابق في حزب البعث، رفيق أبي يونس: إن الخلاف بين العيسمي وحافظ الأسد لم يكن شخصيًا، بل هو جزء من الخلاف بين الحزب وقيادته القومية وبين المجموعة العسكرية الحزبية التي اتجهت إلى العمل العسكري للتعبير عن اعتراضاتها الداخلية.
وأدت المواجهة إلى انتصار الطرف الأول في الانقلاب العسكري عام 1966، ليواجه العيسمي مصيرًا قاتمًا وبداية لتحول دراماتيكي لأزمة طوال حياته.
وتم اعتقال العيسمي عقب الانقلاب، لكن تم تهريبه من السجن مع عدد من رفاقه بعد أشهر، واتجه إلى لبنان لمحاولة تجديد العمل الحزبي انطلاقًا من بيروت، وفق أبي يونس.
ولم تقتصر عقوبة العيسمي على السجن، بل جرى تجريده وزوجته وأطفاله من الجنسية السورية، و فق ما أكد نجل العيسمي، بشار، في حديث إلى "العربي".
ولاحقًا، أيقن شبلي أن تجربة البعث في سوريا قد طويت صفحتها مع سيطرة حافظ الأسد على البلاد. وقد قرر اللجوء إلى العراق بدعوة من رئيسها حينها صدام حسين واضعًا رهاناته وأحلامه على النظام البعثي هناك.
وقالت زوجة شبلي ميساء الجبر: إن المسؤولين العراقيين حذروا العائلة من وجود مؤامرة لاختطاف الأطفال، ما اضطرهم إلى حمايتهم عبر وضع مرافقين لهم.
اعتزال السياسة
وعام 1992، اعتزل شبلي الحياة السياسية تمامًا، ومع الاجتياح الأميركي للعراق، غادر العيسمي البلاد متجهًا إلى مصر للإقامة فيها ومنها تنقّل بين لبنان والولايات المتحدة.
وبُعيد اعتزاله، قرر التركيز على التأليف والكتابة وإعادة صياغة بعض الكتب القديمة بحسب تصريحات نجله، فضلًا عن كتابة مذكراته الذي انتهى منها قبل اختطافه.
وتقول حفيدة العيسمي، داليا شرف الدين، إنه رأى في أحلامه أنه اختُطف، وقد عمل على كتابة ما رآه في قصيدة أطلق عليها عنوان "الكابوس".
وتكشف السنوات ما قبل اختطاف العيسمي مزيدًا من الكواليس بشأن موقف النظام السوري، بعدما قدّمت له عدة عروض وعبر أكثر من وسيط، حيث طرح عليه بعض المعارف عند إقامته بمصر فكرة العودة، لكن العيسمي رفض شروطها الصعبة، وفق بشار.
وتم تكرار المحاولة في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2010 في الولايات المتحدة، حيث طلب منه السفير السوري عماد مصطفى العودة وقبلها كتابة رسالة على شكل اعتراف منه بأنه أخطأ خلال مسيرته السياسية، وهو ما رفضه أيضًا.
الاختفاء الغامض
وتتذكّر عقيلة العيسمي ما قبل عملية اختطاف زوجها، قائلة إنه قرر المجيء إلى لبنان لزيارة ابنته بعد اندلاع الثورة السورية، وبعد يومين من وصوله، خرج ليمارس رياضة المشي، لكنه تأخّر لساعات طويلة، فبدأت بالبحث عنه داخل المستشفيات دون أي أثر، وحين عادت إلى المنزل كان موجودًا داخله ووجدت على جسده بعض الجروح، دون أن يشرح لها السبب.
وقبل يوم من الاختطاف، قال نجله إنه جرى اختطافه لمدة ثلاث ساعات حيث تم إحضاره إلى السفارة السورية في لبنان بأمر من السفير السوري، بهدف كتابة بيان تأييدي للنظام السوري ضد الثورة، لكنه رفض فأعادوه لأنهم لم يكن لديهم أي أوامر من المخابرات السورية لإحضاره إلى دمشق.
وفي اليوم التالي، وبأمر من المخابرات السورية، تم تنفيذ عملية الاختطاف من قبل السفارة السورية عبر ثلاث سيارات رباعية الدفع، وكان هناك عناصر من حزب الله اللبناني اشتركوا في العملية، وقد وصل إلى سوريا وتحديدًا إلى فرع للمخابرات بعد نحو ساعتين، وفق ما أفاد به بشار.
عجز لبناني
وعن هذه القضية، قال مدير عام قوى الأمن الدخلي اللبناني السابق، أشرف ريفي: إن السلطات اللبنانية لم تستطع تحديد هوية الفريق الخاطف، لكنه أوضح أنها توصلت إلى قراءة خلصت إلى أن النظام السوري كلّف أحد أدواته لتنفيذ عملية الاختطاف، من دون أن يتم تحديدها.
واعتبر بشار العيسمي أن النظام السوري اختطف والده بسبب "ارتباكه" عند بداية اندلاع الثورة السورية، حيث كان شبلي يمثل أقدم البعثيين، مضيفًا: "برزت مخاوف لدى النظام من عودته إلى الحياة السياسية وإصداره بيانات مؤيدة للثورة...".
وأكد بشار أن بعض المسؤولين داخل الأجهزة الأمنية اللبنانية أعطوا العائلة معلومات دقيقة تؤكد أن السفارة السورية أقدمت على اختطاف العيسمي، لكن لم تحصل أسرته على أي جواب بشكل رسمي.
وأشار إلى أن العائلة تواصلت مع رئيس لبنان السابق ميشال سليمان ومع نائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم طلبًا للمساعدة، إضافة إلى تنظيم مظاهرات عدة للمطالبة بالكشف عن مصيره، من دون نتيجة.
وأقر الوزير اللبناني السابق أكرم شهيّب بأن دور الأجهزة اللبنانية كان محدودًا، كما أن الملف لا يعنيها كثيرًا كون العيسمي سوري الجنسية، كما يبدو أن هناك سلطة أقوى من السلطة اللبنانية في ملفات مماثلة.
بدوره، أكد الوزير اللبناني السابق مروان حمادة أن بعض النواب حاولوا طرح الموضوع أمام الحكومة والأجهزة الأمنية، لكن دون جدوى.
ولا يزال النظام السوري معتصمًا بالصمت بينما توالت على آل العيسمي الأخبار والشائعات بين فترة وأخرى عن وضعه داخل السجن، حيث قال بشار: إن المعلومات التي حصل عليها من الأجهزة الأمنية السورية تشير إلى أنه كان في حالة يرثى لها خاصة أنه كان في الـ 86 من عمره، ولا يمكن له تحمّل ظروف الاعتقال القاسية.
ورغم مرور عشر سنوات، لا يزال الأمل يراود محبي شبلي بالعودة، في ظل الأخبار المتداولة عن الانتهاكات التي يقترفها نظام بشار الأسد.