الإثنين 18 نوفمبر / November 2024

أسرار ظلّت طيّ الكتمان.. كواليس وخفايا زيارة السادات الشهيرة لإسرائيل

أسرار ظلّت طيّ الكتمان.. كواليس وخفايا زيارة السادات الشهيرة لإسرائيل

شارك القصة

في مذكراته التي حملت عنوان "التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط"، سجّل إسماعيل فهمي كواليس الاتصالات بين مصر وإسرائيل، وما خفي من أسرار.

"السيد رئيس الجمهورية نظرًا للظروف الحالية التي تواجه مصر والعالم العربي وبسبب التطورات غير العادية وغير المنتظرة التي ستحدث مؤثرة في القضية العربية، أقدّم استقالتي لسيادتكم، مقتنعًا تمام الاقتناع بأنني لا أستطيع الاستمرار في مكاني ولا أستطيع أن أتحمّل المسؤولية الناتجة عن التطورات الجديدة".

بتلك الكلمات الموجزة، أرسل وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي بيان استقالته للرئيس المصري أنور السادات، اعتراضًا على إعلانه تحت قبة البرلمان المصري في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1977 استعداده لزيارة القدس وإلقاء خطاب في الكنيست الإسرائيلي، تلك الزيارة التي ظنّ أغلب من سمعها على الهواء أنّها مبالغة معتادة من السادات، لكنّها سرعان ما صارت حقيقة، تشكّلت معها معالم عهد سياسي عربي جديد.

سبّبت استقالة فهمي مشاكل جمّة للسادات، فقد جاءت من الرجل المفترض فيه ترويج سياسات رئيسه والدفاع عنها، لكنّ السادات لم يعبأ ولم يتوقف عن مسعاه رغمًا عن كل العواصف السياسية التي سيواجهها منذ ذلك الحين.

"حان الوقت لأخرج عن صمتي"

في مذكراته التي حملت عنوان "التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط"، دوّن وزير الخارجية المصري ونائب رئيس الوزراء إسماعيل فهمي خلاصة تجربته ومعايشته للأحداث السياسية العاصفة خلال حقبة حكم الرئيس المصري أنور السادات، مسجّلًا كواليس الاتصالات السرية بين مصر وإسرائيل، وما خفي من أسرار ظلّت طيّ الكتمان بشأن مفاوضات السلام المصري الإسرائيلي.

يقول في مذكراته: "لقد حان الوقت لكي أخرج عن صمتي، وأن أكتب روايتي الشخصية، وكسر الصمت الذي فرضته على نفسي طواعية، معتمدًا كليًا على ما سمعته من السادات، ومناقشاتي معه وجهًا لوجه، ومن خلال محادثات هاتفية جرت من خط خاص كان يربط بين مكتبينا ومنزلينا، والحقيقة أنني لا أشعر بأي ارتياح عند سرد ما حدث، إذ جاءت العواقب بالنسبة إلى مصر والعالم العربي كله سلبية، إلى درجة جعلتني أشعر بحزن عميق وإحساس بالأسف".

الإسرائيليون وجدوا أنفسهم في "موقع ضعف"

مع وصول جيمي كارتر إلى الرئاسة في الولايات المتحدة مطلع عام 1977، بدأت الأمور تتحرك من جديد وانتهت فترة الركود الطويلة التي خيّمت على قضية الصراع العربي الإسرائيلي بعد التوقيع على اتفاقية فك الاشتباك الثاني بين مصر وإسرائيل في الأول من سبتمبر/ أيلول 1975، حيث قررت إدارة كارتر السعي من أجل تسوية شاملة في الشرق الأوسط، فتركزت جهودها على استئناف مؤتمر جنيف برعاية أميركية سوفياتية.

وفي الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 1977، صدر البيان السوفياتي الأميركي المشترك، الذي تلقفه العرب بالترحيب، وجابهه الإسرائيلي بالرفض والشجب والتنديد.

يفسّر وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي وجهة النظر الإسرائيلية قائلًا إنّ الإسرائيليين وجدوا أنفسهم في موقف ضعف لا يمكنهم فيه فرض إرادتهم على جبهة عربية موحّدة، ومن ثمّ أرادوا التفاوض مع كل دولة عربية على حدة، ليتسنّى لهم استبعاد الفلسطينيين استبعادًا كاملًا، والحصول على كل ما يريدون، وكالعادة لجأ الإسرائيليون إلى المناورة وطرق الأبواب الخلفية، علّ بابًا منها يفتح، ففتح لهم أنور السادات أبواب عاصمته على مصراعيها.

"تواصل سرّي" بين مصر وإسرائيل

يزيح إسماعيل فهمي الستار عن حقيقة الاتصالات السرية بين مصر وإسرائيل، قائلًا إنّ الإشارة الأولى التي وصلته في ذلك الإطار تمثّلت في ورود برقيّات من السفارات المصرية بالنمسا وواشنطن ولندن تذكر أنّ عددًا من القادة الصهيونيين العالميين عبّروا عن رغبتهم في تدبير اجتماع سري بالرئيس السادات، لكنّ المحاولة فشلت إزاء اعتراض وزير الخارجية المصري، ليجدّد الإسرائيليون طرقهم بعد أسابيع قليلة عبر بوابة الرباط.

تقدّم مناحيم بيغن باقتراح للملك المغربي الحسن الثاني برغبته في إجراء اتصال مباشر مع مصر، وقبل السادات مقترح بيغن، فأوفد حسن التهامي مبعوثًا له لمقابلة وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان بالعاصمة المغربية الرباط، وأخفى ذلك عن وزير خارجيته.

"رحلة خاصة للقدس"

وفق رواية إسماعيل فهمي، فقد اجتمع به السادات في قصر الضيافة بمدينة سيناء الرومانية. فاجأه بفكرته الجديدة، قائلًا: "إسماعيل، ما رأيك بخصوص رحلة خاصة للقدس وإلقاء خطبة في الكنيست؟".

يقول فهمي إنّه أخِذ على حين غرّة فسأله: "وما الغرض من هذه الرحلة؟"، فقال السادات: "لا شيء إلا الذهاب للقدس وإلقاء خطبة ثمّ العودة"، ليتساءل وزير خارجيته: "هل الغرض هو القيام بعمل إعلامي ضخم؟ هل تريد حركات إعلامية؟".

لم يسعد الرئيس بردّ وزير خارجيته، وظلّ يهمهم "حركات إعلامية، حركات إعلامية، كلا، كلا"، وبدا التوتر على السادات بحسب ما يدوّن فهمي في مذكّراته، حتى إنّه استشاط غضبًا حين اقتحم الغرفة فجأة ابنه الوحيد جمال، ليصيح فيه بحدّة طالبًا منه الخروج بسرعة.

"مناقشات استمرّت ثماني ساعات"

يضيف فهمي في مذكّراته: "استمرّت المناقشات بيننا نحو ثماني ساعات متصلة دون توقف. سألته: يا سيادة الرئيس، هل عندك أي معلومات لا أعرفها تبرّر الرحلة؟ فقال بحسم: لا أخفي عنك أيّ سر، ولم تصلني أي وعود خاصة أو تعهدات من بيغان تبرّر هذه الرحلة".

يقول فهمي: "حاولت إفهامه أنّ مبادرته تعني اللعب بجميع أوراقنا دون أن نجني شيئًا، وأنه بذلك سيجد نفسه مجبرًا على تقديم التنازلات، فهو عمل ينطوي تلقائيًا على الاعتراف بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب".

ويتابع: "حين تركته وذهبت لاستراحتي الخاصة، وجدت أسامة الباز مدير مكتبي والدكتور محمد البرادعي المستشار القانوني بوزارة الخارجية ينتظرانني بفارغ الصبر. قصصت عليهما ما سمعته من الرئيس السادات، فانفجر الباز قائلًا: هذا جنون. لا شكّ أن الرجل غير متّزن. لا بدّ من منع ذهابه للقدس حتى لو استعملنا القوة".

"حركة مسرحية"

يسجّل إسماعيل فهمي في مذكّراته اعتراضه على ما وصفه بـ"الحركة المسرحية" التي فاجأ بها الرئيس أنور السادات العالم أجمع في 9 نوفمبر 1977، ويسرد كواليس تلك الحركة قائلًا إنّه كان قد قرّر بموافقة السادات أن يدعو ياسر عرفات لزيارة القاهرة، وكان على السادات أن يلقي خطابًا هامًا في مجلس الشعب، ولأول مرّة يدعى عرفات من مجلس الشعب للحضور، وللمفارقة، كانت هي المناسبة التي اختارها السادات ليعلن عن استعداده الذهاب للقدس ليوجّه طعنة لضيفه جعلته يتساءل بتشكّك من هول المفاجأة: ما معنى هذا الكلام؟ هل يتعمّد السادات هذا القول في حضوري؟

يروي فهمي في مذكراته أنه اقترح على السادات خطة بديلة عن الذهاب إلى القدس تقضي بأن يدعو رسميًا إلى مؤتمر قمة دولي في القدس يحضره الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن ورؤساء دول المواجهة وياسر عرفات لوضع خطة رئيسية لمعاهدة سلام للشرق الأوسط، ثم يكمل مؤتمر جنيف العمل على هذه الخطة. أبدى السادات إعجابه بالفكرة لكنّه رمى بها عرض الحائط ليخرج على البرلمان المصري بخطبته الشهيرة.

تنازلات سرية "رهيبة" قدّمها السادات

في مذكراته التي جاءت تحت عنوان "المعركة من أجل السلام"، يذكر وزير الدفاع الإسرائيلي عيزر وايزمان أنّ السادات دعاه للاجتماع به في مدينة الإسماعيلية.

يذكر وايزمان ما أسرّ إليه به الرئيس المصري وسمعه منه بأذنه، فيقول إنّ السادات أخبره أنه قرر استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية نهائيًا من قاموسه، لكنه لا يمكن أن يقول هذا لبيغان خشية خروج الأخير في اليوم التالي ليفضحه على رؤوس الأشهاد.

ويمضي وايزمان في سرد التنازلات السرية الرهيبة التي قدّمها لهم السادات على طبق من ذهب، قائلًا إنّ الرئيس المصري بدا له وكأنه تخلى تمامًا عن فكرة إقامة دولة فلسطينية وفق رؤية تتضمن أن تكون الضفة الغربية وغزة منزوعتي السلاح تمامًا.

"ذليل مُعاقَب"

بعد ذلك، تواصلت المفاوضات الإسرائيلية المصرية، ولكن رغم تفاؤل السادات، ظهر بسرعة أنّ مواقف كل من إسرائيل ومصر متنافرة، ليس فقط بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، بل أيضًا في مسألة استعادة سيناء.

ومع تتابع الفشل في المفاوضات، ترامت آمال العالم العربي بعدول السادات في النهاية عن مبادرته، لكنّ السادات بحسب تعبير وزير خارجيته إسماعيل فهمي لم يكن الرجل الذي يمكن أن يعترف بأنه ارتكب خطأ ويعود إلى العالم العربي ذليلًا معاقَبًا.

تابع القراءة
المصادر:
العربي