الخميس 19 Sep / September 2024

"رجال القش".. تقليد إيرلندي عريق يسبق عيد الميلاد

"رجال القش".. تقليد إيرلندي عريق يسبق عيد الميلاد

شارك القصة

تكوّنت مجموعات التمثيل الإيمائي تاريخيًا من الشباب والآن باتوا يمثلون أطياف المجتمع الإيرلندي كاملًا (ناشيونال جيوغرافيك)
تكوّنت مجموعات التمثيل الإيمائي تاريخيًا من الشباب والآن باتوا يمثلون أطياف المجتمع الإيرلندي كاملًا (ناشيونال جيوغرافيك)
كاد تقليد التمثيل الإيمائي أن يختفي منتصف القرن العشرين، بسبب الانقسامات بالمجتمع الإيرلندي. لكنّه عاد للظهور مجددًا، بفضل النوادي التي تقدم عروضًا قبل الميلاد.

على مدار 400 عام على الأقل، وخلال موسم عيد الميلاد، ارتدى الممثلون الإيمائيون في إيرلندا ملابس من القش أثناء انتقالهم من منزل إلى منزل، حيث يأسرون السكان بمسرحياتهم وغنائهم وقوافيهم ورقصهم وموسيقاهم.

كاد هذا التقليد أن يختفي في منتصف القرن العشرين، بسبب الانقسامات في المجتمع الإيرلندي. لكنّ الإيمائيين عادوا للظهور مجددًا، بفضل العديد من نوادي التمثيل الإيمائي التي تقدم عروضًا في الفترة التي تسبق عيد الميلاد.

قبل سبع سنوات، بدأت الفنانة إدوينا جوكيان بمشروع ضخم لإعادة إحياء هذه الثقافة في مقاطعة ليتريم.

يتمّ حصاد القشّ من المزارع المحلية، ونسجه يدويًا على شكل أقنعة وفساتين يرتديها أكثر من 300 ممثل إيمائي شاب، لتأدية عروضهم عبر مجموعات خارج المنازل طوال شهر ديسمبر/ كانون الأول. ويتوّج الحدث بإحراق الأزياء في نار احتفالية.

يرفض أكاديميون إيرلنديون تسمية هؤلاء الممثلين بـ"رجال القش"، ويقولون إنه "على الرغم من الاعتقاد السائد بأن التمثيل الايمائي يعود إلى الأزمنة الوثنية، فإن الأدلة تشير إلى أن الأمر هو تقليد أكثر من كونه حقيقة".

وفي كلتا الحالتين، يساعد التمثيل الإيمائي في تكوين صلة ربط بين الجيل الجديد وتقاليد الأجداد، وفقًا لجوكيان. وبينما تكوّنت مجموعات التمثيل الإيمائي تاريخيًا من الشباب، فإنهم الآن يمثلون المجتمع الإيرلندي كاملًا.

ويمكن للسياح الراغبين في مشاهدة العرض أن يتوجّهوا إلى ليتريم، المقاطعة الشاعرية في شمال غرب إيرلندا التي تشتهر بغاباتها الخضراء وبحيراتها البلورية ومجتمعاتها الريفية المتماسكة.

أصل الكلمة

وتُستخدم كلمة "مومر" (الممثل الإيمائي)، ويُعتقد أنها ألمانية الأصل، للإشارة إلى ممثل مقنّع في البلدان التي ازدهر فيها هذا التقليد، بما في ذلك إيرلندا وإنكلترا واسكتلندا وكندا.

وأوضحت آن أودود، المنسقّة المتقاعدة في المتحف الوطني الإيرلندي، أن هذا التقليد وصل إلى إيرلندا في القرن السابع عشر.

ولعدة قرون خلت، شاع التمثيل الايمائي في النصف الشمالي من إيرلندا، وعلى طول أجزاء من الساحل الشرقي. وأُضيفت إليه لمسة إيرلندية من خلال شخصياتها وموضوعاتها.

تاريخيًا، صوّرت كل فرقة من الرجال أبطالًا إيرلنديين مثل القديس باتريك، وشخصيات سياسية مثيرة للجدل مثل البريطاني أوليفر كرومويل والملك جورج، وشخصيات شعبية مثل جاك سترو، ومخلوقات أسطورية من بينها بعلزبول (استخدم اليهود هذا الاسم وصفًا للشيطان، بينما يدلّ عند الفينيقيين إلى الإله بعل).

وشرحت أودود أن "موضوع المسرحيات عن الحياة والبعث، هو حدث يتكرر سنويًا في الطبيعة. حيث يدور القتال بين شخصيتين، إحداهما شريرة والأخرى بطلة، وينتهي بالدم. ليصل بعد ذلك الطبيب ويعيد الشخصية الميتة إلى الحياة".

بدوره، شرح كريوستور ماك كارثاي، مدير مجموعة الفولكلور الوطنية في جامعة كلية دبلن، أن الممثلين الإيمائيين التقليديين "كانوا يتمتعون بمظهر شرس، من وجوه مخفية، وأزياء ممزقة، والعصا في قبضتهم"، مضيفًا أنهم "من دون سابق إنذار سوف يدخلون المنزل ويطلبون تقديم مسرحيتهم. بعض السكان يرحّبون بذلك، فيما يرفض آخرون خوفًا من ترويع أطفالهم. وفي كلتا الحالتين، يدفع السكان للممثلين الإيمائيين الأموال مقابل حضورهم".

"مسلية لكن مخيفة"

وعن تلك العروض، كتب هنري غلاسي عام 1977 أنها "كانت مسلية، ولكنها مخيفة"، مضيفًا أنه مع نهاية مسرحية التمثيل الإيمائي النموذجية، ستظهر شخصيتان شيطانيتان. إذا لم يتمّ الدفع لهما بشكل كاف، فسيهددان بسرقة حيوانات صاحب المنزل وإدخاله إلى القبر".

وذكر غلاسي أن "القافية والعمل يجعلان كل شيء مضحكًا، لكن الكلمات واضحة. هناك العديد من الشبان المسلّحين بالعصي، يقفون حول مطبخك، ويريدون منك أن تمنحهم بعض المال".

وفي كل مجموعة ممثلون، تطلب شخصية واحدة الدفع على شكل أغنية بقافية. وتقول إحدى تلك الأغنيات: "ها أنا أتيت، أنا هنا لجمع المال. أريد الفضة لا النحاس".

بدوره، أوضح ماك كارثاي إن "الممثلين الإيمائيين قاموا، تاريخيًا، بتحويل هذه الأموال إلى احتفالات تضجّ بالمشروبات الروحية. بينما في العصر الحديث، عادةً ما يتم توجيه أي تبرّعات للممثلين الإيمائيين في البرامج الخيرية والمجتمعية".

وشرح أن التمثيل الإيمائي كان له أيضًا تأثير إيجابي في العصور القديمة، حيث ساعد التقليد في ربط بعض المجتمعات الكاثوليكية والبروتستانتية المعزولة في إيرلندا مع بعضها، مع وجود فرق تضمّ أحيانًا أعضاء من كل ديانة".

ولكن مع اتساع الانقسام الطائفي في البلاد خلال القرن العشرين، تلاشى التمثيل الإيمائي.

من الخمسينيات وحتى الثمانينيات، كانت إيرلندا محاصرة بالاضطرابات المدنية. وغالبًا ما احتاج الممثلون الإيمائيون إلى تصاريح للأداء بالقرب من الحدود بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا. ومع وجود الوحدات شبه العسكرية المحلية، التي دبّرت العديد من حوادث العنف التي أدت إلى مزيد من الانقسام في إيرلندا، انزعج الناس من وجود مجموعات متجوّلة من الرجال المقنعين.

وصل هذا التقليد إلى ايرلندا في القرن السابع عشر
وصل هذا التقليد إلى ايرلندا في القرن السابع عشر (www.creativeireland.gov.ie)

البهجة أثناء الإغلاق جراء كوفيد

أما اليوم، في إيرلندا الأكثر هدوءًا، يُنظر إلى التمثيل الإيمائي، على نطاق واسع، على أنه نشاط غريب مفتوح للجميع. ويتراوح الممثلون الإيمائيون في ليتريم بين الأولاد الذين لا تتجاوز أعمارهم سنتين إلى النساء في السبعينيات من العمر. كثير منهم موسيقيون بارعون، يُسعدون المتفرجين بإتقانهم للعزف على الكمان أو البانغو أو صافرة القصدير أو الطبلة. والبعض الآخر راقصون أو ممثلون أو مغنّون ماهرون. بعضهم صغار جدًا لدرجة أن مواهبهم بالكاد ترقى إلى ارتداء القش وتبدو رائعة عليهم.

وينقسم هؤلاء إلى فرق تمثيلية من أربعة إلى ثمانية أشخاص -غالبًا ما تكون مزيجًا من البالغين والأطفال- ويتنقلون من باب إلى باب يرقصون ويغنون ويعزفون على الآلات الموسيقية أو يؤدون المسرحيات القصيرة. وعلى عكس الممثلين الإيمائيين القدامى، لا يتلقّون الأموال مقابل جهودهم. وبدلًا من ذلك، تأتي مكافأتهم على شكل دعوة لحضور احتفال الانضمام إلى الممثلين الإيمائيين، بعد عيد الميلاد مباشرة، عندما تضرم النار بالأزياء.

ومعظم المعجبين المسنين الآن كانوا في السابق ممثلين إيمائيين. وعندما قرّرت تنفيذ مشروعها الأخير للتمثيل الإيمائي، كانت غوكيان تفكر بالضبط في هؤلاء الأشخاص الضعفاء، الذين أُمروا بالبقاء داخل ممتلكاتهم أثناء عمليات الإغلاق جراء جائحة كورونا في إيرلندا.

نشط التمثيل الإيمائي في إيرلندا خلال جائحة كوفيد 19
نشط التمثيل الإيمائي في إيرلندا خلال جائحة كوفيد 19 موقع "www.creativeireland.gov.ie"

وبمشاركة أصدقائها وزميليها الموسيقيين فيونوالا ماكسول وبراين موستين، قدّمت غوكيان العروض في حوالي 130 دار رعاية ومنزلًا لكبار السن خلال الأشهر الـ18 الأخيرة. ونتيجة جائحة كوفيد 19، والقواعد الحكومية الصارمة، كان على الثلاثي الأداء على أعتاب المنازل إذ لا يمكنهم المغامرة بالداخل، بغض النظر عن توسلات الأشخاص المتعطشين للمحادثات والصحبة.

وقالت غوكيان: "كان الترحيب بنا حارًا لدرجة أن البعض أخرجوا آلاتهم وانضموا إلينا. أراد آخرون فقط قضاء اليوم في التحدّث، وسأل بعضهم عما إذا كان بإمكانهم الانضمام إلينا طوال اليوم".

بالنسبة للعديد من هؤلاء المسنّين، كانت هذه التجارب المرحة من بين آخر تجاربهم على الأرض، كونهم نشأوا في مجتمعات غنية بالتمثيل الإيمائي، وشاهدوا هذا التقليد يتلاشى.

ولكن قبل وفاتهم، تلقّى هؤلاء الرجال والنساء من ليتريم زيارة أخيرة: عاد الممثلون الإيمائيون.

تابع القراءة
المصادر:
ترجمات
Close