كانت تلك سابقة في التاريخ الأميركي. في السادس من يناير/ كانون الثاني 2021، اقتحم الآلاف من مؤيدي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مبنى الكابيتول، الذي يضم مجلسَي النواب والشيوخ، احتجاجًا على نتائج الانتخابات الرئاسية التي فاز بها الرئيس جو بادين.
"كواليس عقل ترمب.. سنوات عاصفة في البيت الأبيض" وثائقي من إنتاج التلفزيون العربي يتعقب ماضي ترمب، ورحلة صعوده من عالم العقارات وصناعة الترفيه إلى البيت الأبيض، وكيف أن نشأته وسيكولوجيته الشخصية أوصلته إلى أن يجلس على طاولة الطعام في البيت الأبيض، أمام شاشة التلفاز ليتابع وقائع اقتحام مبنى الكابيتول، من دون أن يتدخل.
لقد توسّل له أبناؤه ومستشاروه بأن يوجه كلمة إلى أنصاره لوقف اقتحامهم، لكنه رفض كل النداءات التي وجهت إليه.
كان المشهد الذي جري على بعد كيلومترين اثنين فقط من البيت الأبيض تتويجًا للسنوات الأربع، التي قضاها ترمب في السلطة.
لقد خسر ولاية ثانية، ونفّذ مؤيدوه ما هدّد به، وقدموا صورة قاتمة لمستقبل الديمقراطية في البلاد، وحبس الأميركيون بل العالم كله أنفاسهم تحسبًا لتبعات ما حدث.
لكن الصورة كانت مختلفة بالنسبة لترمب، فهناك صورة أخرى تتناسب مع ما كان يدور في ذهنه في تلك الساعات العصيبة، فماذا كان يدور في ذهنه آنذاك؟ وكيف وصل إلى ما وصل إليه، وما هي العوامل التي جعلته على هذه الصورة التي عرفها العالم؟
لم يسبق للولايات المتحدة أن عرفت رئيسًا مثل دونالد ترمب، حيث كانت الإدارة الأميركية في عهده استثنائية بكل المقاييس، مع انقلابه على ما تسمى أعراف الحكم وتفرده بالقرار، ما تسبب بتأجيج موجات من العنصرية والعنف لم تعرفها البلاد بهذه الحدّة من قبل.
وفي عهده، تراجع عن اتفاق تاريخي أبرمته بلاده مع إيران، كما قام بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس المحتلة، واعترف بـ"السيادة الإسرائيلية" على مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
كما رعى ترمب اتفاقيات تطبيع مثيرة للجدل بين دول عربية وإسرائيل، ودفع التوتر مع كوريا الشمالية إلى حدوده القصوى.
هل هو "ميداس" العصر الحديث؟
فمن هو ترمب؟ وكيف نشأت لديه هذه الجرأة على قلب الأمور رأسًا على عقب خلال رئاسته للولايات المتحدة الأميركية؟
يقول ديفيد كاي جونستون، صحافي التحقيقات وأستاذ القانون في جامعة سيراكيوز، إنه بينما ينظر الناس إلى ترمب باعتباره رجل أعمال فإنه يعتبر نفسه "ميداس" العصر الحديث، وأن كل ما يلمسه يتحوّل إلى ذهب.
بدوره، يرى أسامة أبو ارشيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في واشنطن، أن ترمب متمركز حول نفسه، ويظن أن العالم يدور حوله.
أما مارك فيشر، المحرر في صحيفة واشنطن بوست، فيقول إن المبدأ الأساسي لدى ترمب يقوم على مفهوم العرض والطلب.
أب قاس جدًا
وُلد ترمب عام 1946 في نيويورك لأبوين يتحدران من عائلتين مهاجرتين، وكان والده مطوّرًا عقاريًا ومستثمرًا نمت أعماله وتطورت في حيي بروكلين وكوينز.
وبرأي فيشر، فإن ترمب وُلد "بمبالغ كبيرة" في جيوبه، كناية على ثراء أسرته، فقد كانت لديه العديد من المركبات والخدم في منزل أسرته، لكن جوستون يقول إن سيرة طفولته تكشف عن معاناته من مشكلات سلوكية.
من جانبها، تقول باندي إكس لاي، الطبيبة النفسية الشرعية ورئيسة التحالف العالمي للصحة العقلية، إن ترمب كان يعاني من اضطرابات شخصية ذات طبيعة نفسية لا اجتماعية أو وراثية، فقد تم التخلي عنه في طفولته من والدته التي كانت تتردد على المستشفيات للعلاج، مما جعلها لا توليه ما يكفي من محبة واهتمام.
ويضيف فيشر أن والد دونالد، فريد، كان قاسيًا للغاية، وكان يعتبر نجله دونالد خيبة أمل في حياته بسبب فشله في الدراسة، مما دفعه لنقله إلى أكاديمية عسكرية ليعلّمه الخشونة.
صعود كبير في السبعينيات
حصل ترمب على الشهادة الجامعية الأولى في الاقتصاد عام 1968، وبحلول عقد السبعينيات أصبح وجهًا معروفًا لإمبراطورية ترمب العقارية في مدينة نيويورك.
يقول مارك فيشر المحرر في واشنطن بوست، إن الفرص أتيحت له لمعرفة جوانب عدة من شخصية ترمب.
كان يفشل مرارًا وتكرارًا لكنه كان يستطيع أن ينهض ثانية ويبدأ من جديد، وعندما شعر أن نطاق عمل والده محصور ومحدود سعى لتوسيعه بأن انتقل من بروكلين وكوينز إلى مانهاتن، قلب نيويورك.
وهناك بنى برج ترمب الشهير، وتوسع في الاستثمار في الفنادق والكازينوهات، مستفيدًا من علاقات والده بالمتنفذين وأصحاب القرار.
وفي هذا السياق، يرى أستاذ القانون في جامعة سيراكيوز، أن مبدأ ترمب في أعماله التجارية كان قائمًا على الكذب والغش والسرقة، حيث "تقوم بتوقيع العقود ولا تحترمها وتخالف الوعود، وتأخذ ما استطعت من خدمات وترفض دفع ثمنها".
اضطربت أعمال ترمب في عقد التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، وأعلنت عدة شركات مملوكة له إفلاسها، وبلغت الديون المتراكمة على مجموعته من الفنادق والكازينوهات نحو 1,7 مليار دولار.
لكنه مع ذلك، استطاع الاحتفاظ بلقب قطب العقارات في نيويورك، وذلك بفضل استعانته بالإعلام وتسويق صورته باعتباره رجلًا ناجحًا وقويًا.
أحاط نفسه بالمشاهير
يقول الصحافي في واشنطن بوست مارك فيشلر: إن ترمب كان يحيط نفسه بالمشاهير، وإنه كان يعرف أهمية الظهور الإعلامي، إلى درجة أن صحيفة نيويورك تايمز قالت عام 2004 إن اسمه أصبح مرادفًا للنجاح، فحتى أكثر الانتكاسات إهانة لا تؤثر عليه، فالقواعد التي تحكم الآخرين لا تنطبق عليه.
وجاء التطور الأكبر في مسيرة استثمار ترمب للإعلام في بناء صورته، وتطوير أعماله وزيادة نفوذه، عندما أصبح يقدّم برنامج تلفزيون الواقع "أبيرنتس" عام 2004، الذي جعل اسمه معروفًا أكثر من ذي قبل في أرجاء البلاد كافة.
إضافة إلى ذلك، قام ترمب بتوطيد علاقاته مع وسائل الإعلام. وبحسب فيشر، فإنه كان متاحًا دائمًا، ويتمتع بجاذبية للإعلاميين الذين كانوا يبحثون عن سبق صحفي، فترمب كان جريئًا ويتعمد إهانة خصومة، ما يشكل مادة مثيرة للإعلام.
في يونيو/ حزيران عام 2015، سلطت الأضواء على ترمب كمرشح للحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة، وكان الرئيس السابق أوباما مترشحًا لولاية ثانية، عندما دعي ترمب لحفل العشاء السنوي لمراسلي البيت الأبيض.
عقدة أوباما
في كلمته تعمّد أوباما إلقاء عدة نكات تتناول ترمب الذي كان من بين الحضور، ولم ينبس هذا الأخير ببنت شفة حتى عندما أشار إليه أوباما، وقال إنه يحتفظ بتسجيلات عن ولادته، وأظهرت الصور على الحائط مقطعًا من فيلم "الأسد الملك" لولادة الشبل سامبا.
وكان أوباما يرد بذلك على ادّعاءات لترمب قال فيها أن أول رئيس أميركي من أصول إفريقية لم يولد داخل الولايات المتحدة، ووسط ضحكات الحضور حافظ ترمب على صمته.
ربما كان ذلك العشاء منعطفًا حاسمًا في حياة ترمب، وقرر بسببه الترشح جدّيًا للانتخابات الرئاسية، للثأر لنفسه من أوباما الذي تحوّل إلى إحدى عقد ترمب الكبرى.
ترشح ترمب للرئاسة فعلًا وفاز بها، لكن الطبيبة النفسية إكس لي تؤكد أنه جاء إلى البيت الأبيض وهو أكثر انجذابًا للديكتاتوريين المتوحشين في العالم.
وأضافت أنه عبّر خلال حملته الانتخابية عام 2016 وبعدها، عن إعجابه بأولئك الديكتاتوريين، "من رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مرورًا برئيس النظام السوري بشار الأسد والعراقي السابق صدام حسين".
"الاستبداد المطلق"
وأظهر كتاب شارك فيه 37 طبيبًا نفسيًا وباحثًا في الصحة النفسية وجود أدلة كثيرة في حياة ترمب تؤكد أن حلمه الكبير هو الاستبداد المطلق، وتعيد إكس لي سبب ذلك إلى ما تصفها بهشاشته النفسية التي تجعله يتحوّل بسرعة إلى حالة هجوم.
وخلال ولايته لم يخفِ ترمب فوقيته كرجل أميركي أبيض، فتحدث عن المسلمين بلغة عنصرية، ووصف المهاجرين المكسيكيين بالقتلة والمغتصبين.
ويقول أسامة أبو ارشيد: إن هناك تيارًا داخل الولايات المتحدة يناصر ترمب، ولدى هؤلاء مخاوف من تحوّل أميركا إلى "بنيّة" لا يكون العنصر الأبيض هو الغالب فيها، ولا المسيحية أيضًا.
ويؤكد جونستون، أستاذ القانون في جامعة سيراكيوز، أن ترمب يقصد عودة أميركا بيضاء عندما يقول لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى.
غرينبلات وكوشنر
عندما فاز ترمب جلب إلى البيت الأبيض جيسون غرينبلات، نائب الرئيس التنفيذي في تكتل شركاته التجارية، رغم عدم وجود أي خبرة سياسية لديه.
وقام غرينبلات، وهو يدين باليهودية، وجاريد كوشنر صهر ترمب ومستشاره، بتغيير شكل علاقات الولايات المتحدة مع دول الشرق الأوسط.
وكانت أول رحلة خارجية للرئيس ترمب إلى السعودية، وقام بعدها بإعادة الدفء إلى العلاقات مع إسرائيل التي شهدت توترًا في نهاية ولاية أوباما الثانية.
وفي مايو/ أيار 2017، زار ترمب القدس المحتلة وبيت لحم. ويروي جاريد كوشنر في كتابه كسر أو "خرق التاريخ"، أن السفير الأميركي لدى تل أبيب ديفيد فريدمان أطلع ترمب خلال الزيارة على مجموعة فيديوهات، يظهر فيها الرئيس الفلسطيني محمود عباس وهو يطلق تهديدات ضد إسرائيل.
بينما ينقل بوب وودورد، الصحافي الاستقصائي الشهير، في كتابه "غضب" عن وزير الخارجية في عهد ترمب، ريكس تيلرسون، أن هذا الأخير دُعي إلى اجتماع عاجل مع ترمب ونتنياهو، عرض خلاله نتنياهو مقاطع مصوّرة لعباس بدا فيها كأنه يدعو لقتل الأطفال.
وبحسب وودورد، فقد عبّر تيلرسون عن قناعته بأن الفيديوهات مفبركة وتم التلاعب بها.
في اليوم التالي، اجتمع ترمب مع عباس وانفجر فيه غاضبًا، واتهمه بأنه قاتل وغير جدير بالثقة.
"سهولة التلاعب بترمب"
وفي رأي أستاذ القانون جوستون، فإنه من السهل التلاعب بترمب، والتأثير فيه بسبب هشاشته النفسية، وهو ما يؤكده وودورد الذي قال إن ترمب كان يعتقد أن نتنياهو، وليس عباس، يشكّل عقبة في طريق السلام قبل زيارته إلى الشرق الأوسط.
ويشير إلى أن تلك الفيديوهات المفبركة كانت حاسمة في تغيير موقف ترمب آنذاك، رغم تأكيد تيلرسون أنها مفبركة.
ويرى أبو ارشيد أن ترمب دائمًا ما كان يسلك طرقًا مخالفة لتلك التي انتهجها أوباما، ما يفسر انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، وسوى ذلك من قرارات شكّلت صدمة لدى فريقه في البيت الأبيض، من العداء لكوريا الشمالية إلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، والاعتراف بضم الجولان المحتل.
من ناحيته، يقول فيشر، الصحافي في واشنطن بوست، إن الثلاثي "كوشنر وغرينبلات وفريدمان" دفعوا ترمب للقيام بكل ما يصب في صالح إسرائيل.
ويضيف أن نشأة ترمب في نيويورك حيث النفوذ اليهودي الكبير، جعلته يميل إلى الوقوف معهم، ما جعل من إدارته، كما يقول أبو ارشيد، مجرد قناة لتمرير أجندة اليمين الإسرائيلي المتطرف في الشرق الأوسط.