بعد غياب دام لأكثر من عشر سنوات، ظهر أخيرًا نجل الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك جمال مبارك، معلنًا انتصاره في ملف استرداد الأموال، مدعيًا نظافة يده من الفساد واستغلال المنصب، وأن هذه الملايين من الدولارات التي دخلت لحسابات العائلة المصرفية كانت مشروعة وشرعية بحكم القضاء الدولي.
وكانت 18 يومًا في ميادين مصر كفيلة بإنهاء فترة حكم الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، التي دامت 30 عامًا. وأتاح السقوط فتح الكثير من الملفات المسكوت عنها، وأحدها هو ملف ثروة مبارك وعائلته.
وقد قدرت مصادر مصرية بأن هذه الأموال تصل إلى أكثر من 25 مليار دولار أميركي؛ لكن وبعد مضي أكثر من 10 سنوات على اندلاع ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، لم تتمكن مصر من استرداد الأموال المهربة للخارج، بل على العكس من ذلك، أصدرت محكمة العدل الأوروبية في أبريل/ نيسان 2022 حكمًا تؤكد فيه إلغاء تجميد أموال أسرة الرئيس الراحل.
فما الذي حدث خلال هذه السنوات، وما الذي دفع محكمة العدل الأوروبية للتراجع عن قرار التجميد؟
غياب الجهود الحقيقية
في هذا السياق، اعتبر المحامي في محكمة العدل الأوروبية ديفيد ديفيرس أنه لم يتم بذل جهود حقيقية لاستعادة هذه الأموال.
وقال في حديث إلى "العربي": "إن مصر لم تقم بتوفير الدلائل الصريحة للمضي في الدعوى على المنحى الصحيح، خصوصًا وأن هذا الملف كان يضم الكثير من الوثائق".
وأضاف: "هناك الكثير من المعلومات مثل أن أسرة مبارك كانت تشتري الأراضي بثمن زهيد، ثم تبيعها لبعض المستثمرين وتحقق أقصى حد من الربح، ثم تحوّل كل الأموال إلى أوروبا أو إلى دبي".
لكن ديفيرس أعرب عن تفهمه للحكم الصادر رغم أنه صادم، متسائلًا: "على أي أساس تريدون مصادرة هذه الأموال الهائلة دون سبب مقنع؟".
من جهته، أوضح الباحث الاقتصادي عمر سمير أن سبع لجان لملاحقة هذه الأموال قد شكلت، "ولكن للأسف لم تقدم الأدلة الكافية لمحكمة العدل الأوروبية، كما لم تصدر أحكام باتة تدين نظام مبارك".
تجميد أموال 19 شخصية مصرية
وفي ظل الضغط الشعبي المتعلق بثروة مبارك في الخارج، وبعد 37 يومًا فقط من تنحيه، اتخذ الاتحاد الأوروبي قرارًا بتجميد أموال 19 شخصية مرتبطة بنظام مبارك. لكن قرار التجميد وحده لم يكن كافيًا، حيث إن تجميد الأموال لا يضمن عودتها إلى مصر.
وقال ديفيرس: "أعتقد أن أي متابع للأحداث في مصر سيعرف كارثية الموقف، فالقوانين ليست على المستوى المطلوب وهذا ليس كلامي بل كلام المحكمة الأوروبية، فالدفاعات القضائية في القضية كانت متأخرة ولم يتم عرض الدلائل بالطريقة الصحيحة".
وأضاف: "لذلك يمكننا القول إن هناك أخطاء مرتكبة"، متسائلًا: "كيف لمسؤول سياسي أن يجمع هذه الثروة؟". ولفت إلى أن القضاة يعرفون جيدًا أن هذه الثروة أتت من الفساد، لكن حجج وبراهين السلطة المصرية كانت ضعيفة جدًا.
الإجراءات السويسرية
من جهته، أشار أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر سابقًا، أحمد ذكر الله، إلى أن الإجراءات السويسرية كانت أكثر قسوة وأكثر تعاملًا مع الموقف مقارنة بالإدارة المصرية. وقد جمّد المدعي العام السويسري عام 2011 أموال مبارك ومنع التعامل فيها، كما حظر أموال نحو 17 شخصية مصرية ثم ارتفعت لتشمل 30 شخصية.
ومددت مدة الحظر من عام 2013 إلى 2016، ولم يفرج عنها حتى عام 2022. وقال ذكر الله: "إن الادعاء العام السويسري كان أكثر حرصًا على استرداد الشعب المصري لهذه الأموال من الإدارات المصرية المتعاقبة منذ عام 2011 وحتى عام 2022".
وكان على الدولة المصرية منذ اليوم الأول أن تقدم دليلًا مقنعًا على أن هذه الأموال تم الحصول عليها من فساد أو استغلال المنصب، وهو الأمر الذي لم يحدث، بل حصل المتهمون في هذه القضايا على حكم بالبراءة. ولم تستجب الحكومات المصرية منذ عام 2011 لطلب الاتحاد الأوروبي بتسليمه تفاصيل التحويلات الكبرى التي تمت في مصر أثناء ثورة 25 يناير وما بعدها.
إقرار التصالح المالي
ولفت ذكر الله إلى أن المحطة الثانية هي ما حدث عام 2015 عندما عدّلت السلطة المصرية قانون الإجراءات الجنائية في الشق المتعلق بالمال العام المصري، والذي منح إمكانية التصالح للمدانين.
وفي أغسطس/ آب 2012، وقف أنديس لوتر النائب البريطاني ووزير العدل في حكومة الظل أمام مجلس العموم، مطالبًا المصريين بالحصول على تفاصيل من شأنها أن تساعده في الضغط على حكومة المملكة المتحدة من أجل إعادة أموال النظام السابق التي تم تهريبها خارج البلاد.
في ذلك الوقت، كانت وزارة الخزانة البريطانية قد قامت بتجميد أصول وحسابات مصرفية بقيمة 85 مليون جنيه إسترليني مرتبطة بمبارك وعائلته.
ورغم ذلك، لم تتعامل السلطات البريطانية بجدية مع مسألة التجميد، وهو ما كشفه تحقيق لموقع "درج" في تحقيقات "أوراق بنما". وأشار التحقيق إلى أن شركة "بان ورلد أنفستمنت" المملوكة للابن الأكبر لمبارك علاء التي تم تأسيسها عام 1993، كانت نشطة في جزر العذراء حتى بعد قرار التجميد.
وكان هذا الملف محل اهتمام الصحافة الأجنبية، لذا بدأت التسريبات حول حجم الأموال المهربة من مصر ومنها التسريب التي نشره اتحاد الصحافيين الاستقصائيين في فبراير/ شباط 2015.
كيف استطاعت عائلة مبارك تهريب الأموال؟
طرح هذا التسريب التساؤل عن الطريقة التي استطاعت من خلالها أسرة مبارك ورموز مبارك تهريب الأموال خارج مصر، لتصل إلى أكثر من نتيجة.
فقد استخدم مبارك الشركات واجهة لتهريب الأموال، وهو ما مكّن جمال مبارك وعلاء مبارك من تهريب الكثير من الأموال نتيجة مساهمتهم في شركات مصرية عن طريق شبكة معقدة من صناديق استثمار في الخارج. وتعتمد هذه الطريقة على شركات في ملاذات ضريبية تتستر على هوية مالكيها.
ومن خلال هذه الشركات الموجودة في بريطانيا وموريشيوس وقبرص وصل الأخوان مبارك إلى سوق الاستثمارات المصري.
أمّا الشخص الذي كان يدير هذه العملية فكان حسين سالم رجل الأعمال المصري المعروف. واختار سالم بنكًا يسمح بدفن الأموال فكان بنك "كردت سويس". وأصبح هذا البنك المفضل لأصحاب الأموال المشبوهة من الكبار في مصر، بل أن حسين سالم أقنع شخصيات مثل رئيس المخابرات المصرية عمر سليمان بالتعاون مع هذا البنك، وهو ما اعترف به سالم في التحقيقات.
كما عملت أسرة مبارك على إخفاء الأصول من خلال شراء عقارات في بلد عن طريقة شركة وسيطة في بلد آخر. فالبيت الذي يسكنه علاء مبارك في لندن كان مملوكًا لشركة في بنما.
التدخل في القضاء
ووجد تحقيق "العربي" أن هناك إشكالية سياسية وقانونية واجهت الدولة المصرية في ملف استعادة الأموال، ويبدو أن الدولة لم تكن لديها نية للتغلب عليها.
ويعد التدخل الحكومي في القضاء أحد أهم الأسباب التي عرقلت التعاون بين الدولة المصرية والمؤسسات الدولية، وهو ما دفع دولًا مثل سويسرا لعدم التعاون مع ملف تجميد الأموال المصرية في بعض بنوكها أو إعادتها إلى مصر؛ بسبب الهيكلية المؤسسية في مصر واتفاقيات التصالح المالي مع بعض الشخصيات مثل جمال مبارك وحسين سالم عام 2016، كما أفاد تقرير بعنوان "كيف أفرجت سويسرا عن أموال شخصية مصرية معروفة".
وما زال مسلسل التسريبات في هذه القضية متواصلًا، ومنها تسريب من بنك "كريدي سويس" السويسري والذي شاركت في نشره 46 مؤسسة إخبارية حول العالم منها موقع "درج".
وقد كشف التحقيق عن أسماء عشر شخصيات مصرية امتلكت حسابات في هذا البنك بمبالغ طائلة، من بينهم جمال وعلاء مبارك اللذين امتلكا 6 حسابات أحدها منذ عام 2003 بقيمة 196 مليون دولار.
ولم يقدم جمال مبارك الطريقة التي حصل بها جمال مبارك على هذه الأموال. وبحسب "العربي"، فقد كان الرجلان يشاركان عددًا من رجال الأعمال إجباريًا في توكيلات الشركات الأجنبية، مقابل أن يسمحا لهم بالعمل في مصر.
وجود الحجة القانونية وغياب النية السياسية
وبالرغم من هذه التسريبات والأرقام التي تثبت بما لا يدعو للشك بأن عائلة مبارك قد حصلت على هذه الأموال إما بالفساد أو عن طريق استغلال المنصب، وهو ما يجعل الحجة القانونية في هذه القضية قوية، إلّا أن الدولة المصرية ومنذ عام 2011 لم تستطع أن تقدّم دليلًا قاطعًا يؤكد صحة الشكوك.
وأكد أستاذ الاقتصاد ذكر الله أن المشكلة الرئيسية كانت في القضاء المصري، حيث أشارت التحقيقات الأوروبية إلى أنه لا وجود لدليل على حصول فساد في مصر.
يعيدنا ذلك إلى ما نشر حول صفقة بين الرئيس مبارك والجيش، وفيها يضمن الجيش ألا تمس ثروة مبارك، مقابل قبوله بالتنحي، وهو ما يجعل الباب مفتوحًا أمام العديد من علامات الاستفهام حول مدى جدية الدولة منذ اليوم الأول بشأن استرداد أموالها وأصولها من الخارج.