منذ تولي الرئيس الأميركي جو بايدن السلطة ورفضه التواصل مع القيادة السعودية بداية حكمه، تعززت القناعة في الرياض بأن الرهان الكامل على الولايات المتحدة يضيّق خياراتها السياسية والإستراتيجية، فما أن أعلن بايدن تجميد صادرات بلاده من الأسلحة الهجومية للسعودية مطلع 2021 حتى انتكست العلاقة بين البلدين.
لم تكتف إدارة بايدن بهذا بل تسارعت الدبلوماسية الأميركية لوقف دعم العمليات العسكرية للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، إلا أن الضربة الأكثر إيلامًا للعلاقات السعودية الأميركية جاءت عندما أزالت واشنطن جماعة الحوثيين اليمنية من قائمة المجموعات الإرهابية.
ردّ سعودي
استهدفت إدارة بايدن الأمير محمد بن سلمان شخصيًا واستثنته من الاتصالات المباشرة مع الرياض، وأعلنت أن أيّ تواصل رسمي سيقتصر على العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز.
وكانت الانتقادات التي وجهتها إدارة بايدن إلى السعودية بشأن حقوق الإنسان وحرب اليمن وقضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي والضخ الإعلامي الأميركي الهائل الذي رافقها دور كبير في هذا الاستهداف الشخصي لولي عهد السعودية.
ردّت الرياض على القرارات الأميركية بإعادة ترتيب أولوياتها وفق مقتضيات مصلحة السعودية، بحسب مسؤولين سعوديين، فحثت الخطى في فصل سياستها المتعلقة بمنظمة "أوبك" عن الاعتبارات والضغوط الأميركية.
"الاتفاق السعودي - الإيراني يعكس واقعا عالميا جديدا".. جولة على أبرز عناوين الصحف العربية والعالمية 👇 pic.twitter.com/ib4evgqOTr
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 17, 2023
وتترجم ذلك بحالة من التعاون الوثيق مع روسيا ضمن تحالف "أوبك بلس" عبر خفض إنتاج النفط ورفعه تباعًا للقراءة السعودية الخاصة لسوق الطاقة العالمي، ما أدى إلى عدم تجاوب الرياض مثلًا مع المطالب الأميركية برفع إنتاج النفط.
وفي رد السعودية على تجاهل الرئيس بايدن للقيادة السعودية، قال الأمير محمد بن سلمان: إنه غير مهتم بما يعتقده بايدن رافضًا التدخل الأميركي بالشؤون السعودية الداخلية.
وفي هذه الأثناء اكتملت القناعة السعودية بضرورة تنويع علاقاتها الإستراتيجية مع القوى العالمية الصاعدة، فكان التوجه شرقًا نحو الصين ذروة هذه القناعة. وتوالت اللقاءات السعودية الصينية في الرياض وبكين مدشنة حقبة جديدة من التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين والذي ربما ينسحب الى التعاون السياسي.
"ضربة قوية" لواشنطن
بعد إعلان الاتفاق الإيراني السعودي باستئناف العلاقات المتوقفة بينهما منذ سبع سنوات، ثمة اعتقاد كبير في الأوساط الغربية وخصوصًا في الولايات المتحدة أن هذا الاتفاق "ضربة قوية" لواشنطن ومقارباتها السياسية للمنطقة في عهد الرئيس جو بايدن.
فالاتفاق الذي جاء برعاية صينية شكل مفاجأة للدور الجديد الذي يمكن أن تلعبه بكين كوسيط معتمد في العديد من بؤر التوتر العالمية، كما يعكس ثقة الأطراف الدولية المتنازعة في الشرق الأوسط بالدور الصيني لتسوية نزاعات مزمنة كانت حكرًا على الولايات المتحدة في المنطقة.
لكّنه يعكس في ذات الوقت حالة من انعدام الثقة بدور الولايات المتحدة، لا سيّما وإننا نتحدث عن السعودية التي لطالما اعتبرت حليفًا إستراتيجيًا لواشنطن في منطقة الخليج والعالم العربي، وتطرح تساؤلًا كبيرًا بشأن استدارة الرياض شرقًا والابتعاد عن الفلك الأميركي.
علاقات محكومة بحجم المصالح
تراوحت العلاقات الأميركية السعودية في العقدين الماضيين بين مد وجزر على وقع سياسات مختلفة للإدارات الأميركية المتعاقبة بين ديمقراطيين وجمهوريين، لكنها بقيت محكومة بحجم المصالح الكبير الذي يجمع بين البلدين.
فالاستثمارات السعودية التي تقّدر بالمليارات في الولايات المتحدة شكلت ضامنًا لاستمرار العلاقات الاقتصادية والسياسية بمعزل عن التجاذبات الحزبية وتباينها داخل الولايات المتحدة.
كما شكل التعاون العسكري بين الرياض وواشنطن واعتماد السعودية على السلاح الأميركي، عقيدة عسكرية تضمن متانة الحلف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة.
لكن مع قدوم إدارة بايدن وتصريحاته النارية تجاه القيادة السعودية ومجموعة الإجراءات الأميركية التي لم تراع مصالح البلاد ولا تنسجم مع تاريخية العلاقات، بحسب مسؤولين سعوديين، دفعت الرياض إلى معاندة الإملاءات الأميركية في ملفات دولية مهمة.
ابتعاد الرياض عن واشنطن
وكانت أبرز هذه الملفات تجلى في سوق الطاقة العالمية، عندما رفضت الرياض دعوات واشنطن لزيادة الإنتاج لخفض أسعار النفط، بالإضافة إلى انتهاج الرياض طريقًا جديدًا لتنويع شركائها الدوليين عبر تحالف "أوبك بلاس"، الذي يسمح بتنسيق الإنتاج مع روسيا لضبط سوق النفط بما تمليه المصالح السعودية.
لقد كان لأداء إدارة بايدن دور كبير في ابتعاد الرياض عن واشنطن، بحسب مسؤولين سعوديين، فمع تعليق صادرات السلاح ووقف دعم عمليات التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، وإزالة جماعة "أنصار الله" الحوثي من قوائم الإرهاب، وتجاهل المصالح السعودية فيما يتعلق بمفاوضات الملف النووي الإيراني اكتملت القناعة لدى الرياض بضرورة توسيع وتنويع خياراتها الإستراتيجية.
يبدو الاتفاق السعودي الايراني عبر الوساطة الصينية بمثابة تدشين "عهد جديد" ينهي حالة الاستفراد الأميركي بسياسات المنطقة ويدخل فاعلين دوليين جددًا في التوازنات الإستراتيجية في الشرق الأوسط. ووفقًا لخبراء فإن هذه التطورات تعيد تعريف الأمن الإقليمي ومصالح دوله وفق مصالحهم الذاتية.
"كجزء من الاتفاق الإيراني السعودي".. صحيفة أميركية تكشف أن #طهران ستوقف تسليح "جماعة الحوثي"#العربي_اليوم pic.twitter.com/Y2xT8pGOLP
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 17, 2023
"مكسب سياسي" للصين
وبشأن السبب وراء اختيار الصين لتكون وسيطًا بين الرياض وطهران، يرى المستشار السابق في وزارة الخارجية السعودية سالم اليامي أنّ هناك أكثر من سبب وراء ذلك، معتبرًا أن ما جرى هو "مكسب سياسي" لبكين.
ويقول اليامي في حديث إلى "العربي"، من الرياض، إنّ "الأطراف الإقليمية (العراقية والعُمانية) ربما لم يكن لديهم الوزن النوعي الذي تمتلكه الصين كراعية وضامنة للاتفاق" بين السعودية وإيران.
ويضيف أن "الجانب الصيني بعلاقاته المتميزة مع الطرفين السعودي والإيراني يبحث عن نصر سياسي وتحقيق إنجاز في المنطقة"، لذلك يعتقد أن "السعودية قدمت له هذه الفرصة كحليف جديد وإعلان بيان حسن نوايا وتعاون جديد قد يتطور في المستقبل إلى عمل إستراتيجي بين الطرفين".
"غير مهتمة" بالمنطقة
ويعتبر المستشار السابق في وزارة الخارجية السعودية أنّ انزعاج بعض القوى الدولية من الاتفاق بين الرياض وطهران ليس بسبب البيان المشترك الصادر عن الطرفين، بل من "الإنجاز السياسي الصيني".
ويشدد على أن الولايات المتحدة عليها أن تلوم نفسها في هذا الملف باعتبار أن واشنطن ومنذ أواخر ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2015 "لم تعد راغبة أو مهتمة لأن تكون العنصر المحرك في العلاقات السياسية والأمنية في منطقة الشرق الأوسط".
ويذكّر اليامي بتصريحات نقلتها الصحافة الأميركية عن أوباما بأنّ "على الرياض وطهران حلّ مشكلاتهما بأنفسهما، وبأن الولايات المتحدة ليس لديها الوقت لحلّ مشاكل الآخرين".
ويشير إلى أنّ الظروف التي كانت تحيط بالجانب الإيراني في تلك الفترة "لم تكن كما هي اليوم"، معربًا عن اعتقاده بأنّ ما قدمه الطرف الإيراني للسعودية يعطي دفعًا للأمام والوصول إلى الاتفاق بينهما.