يُعتبر موسم الحج لهذا العام مميزًا، إذ إنّه يأتي بعد ثلاث سنوات من الإغلاق الذي فرضته جائحة كورونا، حيث جرى تخفيض عدد الحجيج إلى أحد أقدس الشعائر الإسلامية وأكثرها رغبة بالتحقيق.
والأسبوع المقبل، يبدأ ملايين المسلمين من جميع أنحاء العالم باللقاء في مكة المكرمة في السعودية. وبالنسبة للحجيج، إنّها اللحظة الروحية الأهم في حياتهم، وفرصة لطلب مغفرة الله.
ورغم أنّها تجربة جماعية، حيث يقوم مسلمون من العديد من الأعراق والطبقات بأدائها معًا كشخص واحد، إلا أنّها تجربة شخصية للغاية لكل واحد منهم.
من بين هؤلاء الحجيج، البوسني أنور بيغانوفيج الذي بدأ رحلة طويلة تمتد على طول 6600 كيلومتر من النمسا إلى مكة المكرمة، سيرًا على قدميه لأداء مناسك الحج.
وسط حب العائلة.. هدى زقوت تُحقّق حلمها
كان من الصعب على الحاجة الفلسطينية هدى زقوت (64 عامًا) تربية 10 أطفال بمفردها في قطاع غزة المحاصر الذي مزّقته حروب متعدّدة. لكنّها تؤكد أنّ حياتها معجزة لأنها محاطة بأسرتها التي تضم 30 حفيدًا.
ستذهب زقوت أخيرًا إلى الحج، بعد تخفيف سماح السلطات السعودية للمزيد من النساء بالحجّ دون "محرم" أو قريب ذكر لمرافقتهن.
انتظرت زقوت هذه الفرصة سنوات، خاصة وأن أبناءها لم يستطيعوا تحمّل تكاليف الرحلة الطويلة والشاقّة من غزة إلى مكة. ستُسافر مع مجموعة من النساء اللواتي يتجاوزن الستين من العمر.
بالنسبة لزقوت الحج كان حلمًا. عام 2010، قدّمت طلبها للمشاركة في الحج، ولكن لم يتم اختيارها للذهاب.
في أبريل/ نيسان الماضي، أبصرت في منامها أن النبي محمد يقف بجانبها. وقالت: "بعد أن رأيت النبي في منامي، شعرت أنني أريد أن أكون هناك بالقرب منه. فقمت على الفور بالتسجيل لأداء العمرة".
بعد عودتها من العمرة، وبينما كانت تستمع لإعلان أسماء حجّاج هذا العام، سقطت على الأرض فرحًا بعد إعلان اسمها.
بالنسبة لسكان غزة، الرحلة صعبة بشكل خاص. إذ على الرغم من السماح للحجاج بالسفر، إلا أنه كابوس بيروقراطي. تستغرق رحلة الحافلة الشاقة إلى مطار القاهرة 15 ساعة على الأقل وأحيانًا ضعف ذلك بسبب الانتظار الطويل على الحدود ونقاط التفتيش المصرية في سيناء.
لكن هذا لم يُثبط فرحة زقوت، التي تُشاهد مقاطع فيديو على "يوتيوب" لتتعلّم مناسك الحج، وتذهب إلى مركز العلاج الطبيعي لعلاج قدميها اللتين تؤلمانها، علمًا أنّها ستسير مطوّلًا وتقف كثيرًا خلال أداء مناسك الحج.
أول فوج من قطاع #غزة يغادر إلى #مكة عبر معبر رفح لأداء فريضة #الحج pic.twitter.com/sOtmujyMKm
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) June 12, 2023
تشعر زقوت أن الحج هو آخر شيء في قائمة مهام حياتها، وتقول: "لا أدين لأحد بالمال، وأولادي تزوّجوا وكوّنوا عائلاتهم. بعد ذلك، لست بحاجة إلى أي شيء من الحياة".
وأضافت: "على جبل عرفة، سأصلي من أجل السلام والمحبة بين الناس".
انتظر دوره 40 عامًا
حسين بن نيسان (85 عامًا) يعمل مراقبًا متطوّعًا للمرور في إندونيسيا، والذين يُعرفون باسم "باك أوجا". منذ أكثر من 30 عامًا، يُدير بن نيسان حركة المرور في قرية ريفية خارج جاكرتا لمدة 12 ساعة يوميًا، ويعيش على إكرامية تعادل بضعة دولارات في اليوم.
خلال هذه السنوات، ادخر بن نيسان بعض هذه الأموال، كي يحقق حلمه في أداء فريضة الحج. ولطالما ردّد الدعاء نفسه، والبكاء يُغالبه: "أتوسل إليك يا رب، افتح لي طريق مكة والمدينة. من فضلك امنحني بركتك".
قضى بن نيسان معظم حياته بانتظار هذه الفرصة. وبعد عقدين من العمل، تمكّن عام 2009 من توفير 25 مليون روبية (1680 دولارًا) اللازمة للتسجيل لأداء مناسك الحج. استغرق الأمر أربع سنوات أخرى، قبل أن تعلن السلطات عن موعد ذهابه لأداء فريضة الحج عام 2022.
لكنّه، لم يستطع الذهاب في ذلك العام، لأنه تجاوز الحد الأقصى للسن المسموح به. لكن بن نيسان حافظ على إيمانه بأن الوباء سينتهي وسيصل إلى مكة.
في وقت سابق من هذا العام، سدّد بن حسين 26 مليون روبية المتبقية (1750 دولارًا)، وسيكون من ضمن حجاج بيت الله الحرام هذا العام.
في أوائل يونيو، حزم بن حسين حقيبته، وجهّز رداء الإحرام، قبل أن يودّع عائلته وأصدقاءه قائلاً: "الآن يمكنني أن أموت بسلام، لأن الله استجاب لصلواتي".
قربه من الموت عزّز إيمانه
قد لا تكون إطلالة عباس بزي تتوافق مع صورة المسلم الملتزم دينيًا. بشعره الطويل، يعمل بزي في المقهى العضوي الذي يملكه في بيروت. يقوم بتدريس دروس التنفّس، ويمارس علاج الريكي ورياضة اليوغا. وهو الآن يستعد لما يأمل أن تكون رحلة الحج الرابعة له.
وُلد بزّي في جنوب لبنان، لوالدين علمانيَين. اهتمّ بالإسلام بنفسه، وبدأ بالصلاة في سن التاسعة والصوم في سن 11. وفي وقت لاحق، درس جميع الأديان الرئيسية في العالم، لكنه ظل أكثر اقتناعًا بالإسلام، كما يقول.
يعزو بزي اهتمامه المبكر بالدين إلى الظروف المحيطة بولادته قبل الأوان في المنزل عام 1981، في ذروة الحرب الأهلية في لبنان. لم يكن يتنفّس بشكل صحيح، لذلك قدّمت له صديقة والدته، وهي امرأة ملتزمة دينيًا، التنفّس الاصطناعي حتى يتمكنوا من نقله إلى المستشفى.
قال بزي إنه في الشهر الأول من حياته كان مريضًا لدرجة أن والديه لم يسمياه خوفًا من أن يموت. خلال نشأته، اكتشف بزّي الممارسات الروحية، بما في ذلك التأمل واليوغا. بينما وجد آخرون الخلط بين هذه الممارسات والإسلام غريبًا، رآها هو مكمّلة لبعضها البعض.
وقال: "قد يعتقد بعض الناس أن الحاج يجب أن يبدو مختلفًا، أو يصلي بشكل أكثر وضوحًا. لقد اتخذت قرارًا بأن حياتي كلها ستكون في خدمة الله".
عام 2017، في سن السادسة والثلاثين، تقدّم بزي لأداء فريضة الحج. لكن حتى اللحظة الأخيرة، لم يحصل على تأشيرته. ذهب إلى المطار مع مجموعته من الحجاج لتوديعهم. في صباح اليوم التالي، تلقّى مكالمة تفيد بأن تأشيرته جاهزة. سارع إلى حجز تذكرة جديدة وتبع أصدقاءه إلى مكة.
وقال: "في مكة، رأيت السلام. رأيت أن هذا هو المكان الوحيد الذي يتجمّع فيه الناس من كل بلد في العالم. رأيت الوحدة، ورأيت الحب".
عاد إلى مكة في العام التالي، والسنوات التي تلت ذلك، وشعر أن لديه المزيد ليتعلمه. وقال: "لا يمكن الوصول إلى معرفة كل (الإسلام) في رحلة واحدة أو يوم واحد".
هذا العام، وافقت السلطات على منحه التأشيرة، لكن جواز سفره منتهي الصلاحية، ويحتاج تجديده إلى الكثير من الوقت نظرًا للأزمة التي يعانيها لبنان.
ويروي بزي: "الوقت ينفد. لكننّي أصلّي أن أتمكن من تجديده، إن شاء الله".
سعيها للحج زاد خلال جائحة كورونا
اجتاحت موجة من المشاعر سعدية خالق، وهي تتحدّث عن الأهمية الروحية لحجّها المقبل إلى مكة المكرمة، على بعد أكثر من 11 ألف كيلومتر من منزلها في ولاية تينيسي الأميركية.
وقالت المهندسة الباكستانية الأميركية (41 عامًا): "إنها دعوة، وتكريم. أنت تأمل فقط أن تكون جديرًا بهذا الشرف وأن يقبلها الله منك".
كانت خالق تفكّر بأداء فريضة الحج منذ عدة سنوات، لكن سعيها الديني اكتسب إلحاحًا خلال جائحة كورونا. وقالت: "لقد وضع الوباء الأمور في نصابها. الحياة قصيرة، ولديك فرص محدودة للقيام بأشياء تريد فعلها حقًا".
هذا العام، تقدّمت بطلب لأداء فريضة الحج لها لوالديها اللذين أديا الفريضة من قبل.
وقالت: "إنه الحج الأول لنا مع بعض. إنّه حلم كبير وإنجاز مدى الحياة بالنسبة لهم".
إنّها تتعجّب من "الشعور بالوحدة والتواضع، بينما يصلي المسلمون من خلفيات متنوعة من جميع أنحاء العالم إلى جانب بعضهم البعض، في رحلة إلى الله طالبين المغفرة".
"لن يثنيه شيء عن أداء فريضة الحج"
قبل عامين، دمّر الوباء خطط طلال منذر للحج. لذلك لم يخاطر العراقي، البالغ من العمر 52 عامًا، بأي فرصة عندما تمّ قبول طلبه للحج هو وزوجته هذا العام.
توقّف عن لعب كرة القدم، هوايته المفضّلة، خوفًا من تعرّضه للإصابة وعدم قدرته على السفر لأداء الفريضة.
حاول منذر، وهو من سكان مدينة تكريت وسط العراق، أداء فريضة الحج عدة مرات خلال العقدين الماضيين، إلى أن تمّ قبول طلبه عام 2021، عندما لم يكن بإمكان الأجانب أداء الفريضة بسبب كورونا.
هذا العام، كان منذر عاطل عن العمل وسط الأزمة الاقتصادية في العراق، لكنّه باع هو وإخوته عقارًا ورثوه عن والدهم، فغطّى نصيبه مصاريف الحج.
الأسبوع الماضي، انطلق منذر وزوجته مع مجموعتهم إلى مكة للوصول مبكرًا قبل بداية مراسم الحج الرسمية في 26 يونيو. وامتدت رحلتهم الشاقة على مدى 36 ساعة مرهقة في حافلة عبر الصحراء.
لكنّه أكد أنّ كل الإرهاق من الطريق تلاشى بمجرد أن زار هو وزوجته المسجد النبوي في مكة.
وقال: "لا أستطيع وصف الشعور. شعرت براحة نفسية، ولكن في نفس الوقت، بكيت. لا أعرف ما إذا كانت دموع الفرح أم الخشوع".