تكبح المقاربة الدبلوماسية الأميركية لأزمة النيجر، في التعامل مع الانقلاب على الرئيس محمد بازوم، التسرّع في الانخراط في سيناريوهات التدخل العسكري لحل الأزمة.
الولايات المتحدة التي لا تملك نفوذًا تقليديًا في إفريقيا على غرار دول أوروبية، تحتفظ بوزن سياسي وشراكات اقتصادية وأمنية مع العديد من دولها. كما أن لها حضورًا عسكريًا متناميًا في إفريقيا في السنوات الأخيرة.
وبينما لا تعد واشنطن نظريًا في حالة حرب في إفريقيا، إلا أنها تخوض عمليًا حربًا على الإرهاب والجماعات المتشددة التي تنشط في وسط إفريقيا وغربها، بالإضافة إلى منطقة القرن الإفريقي.
فمنذ عام 2007، أنشأ "البنتاغون" القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا المعروفة باسم "أفريكوم" للدفاع عن المصالح الأميركية هناك، والتي طالما اعتبرت تاريخيًا منطقة نفوذ أوروبي، وتحديدًا فرنسي.
وبينما يعني ما تقدم أن للولايات المتحدة وجودا عسكريا متناميا في إفريقيا، كيف يبدو حجم هذا الوجود وأين ينتشر؟
-
النيجر
ينتشر في النيجر حوالي 1100 جندي أميركي في قاعدتين جويتين؛ هما القاعدة 101 في العاصمة نيامي والقاعدة 201 في أغاديس.
والقاعدتان تشغلان من قبل الجيش الأميركي كقواعد للطائرات من دون طيار، بالإضافة إلى استخدامهما كمقر للجنود الأميركيين والضباط الذين يشرفون على عمليات تدريب جيش النيجر وتمكينه في محاربة الجماعات المسلحة.
-
جيبوتي
يقع في جيبوتي معسكر ليمونييه، الذي استأجرته الولايات المتحدة عام 2002 في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن.
وما زال المعسكر قيد الاستخدام بعد تمديد عقد الإيجار لعشرين عامًا خلال إدارة الرئيس باراك أوباما عام 2014.
-
كينيا
تتموضع القوات الأميركية في كينيا في قاعدة خليج ماندا، التي تشرف على تدريب القوات الإفريقية الشريكة في المنطقة.
وتضم القاعدة مطارًا عسكريًا تنطلق منه عمليات المراقبة وضرب الجماعات المسلحة في القرن الإفريقي، وعلى رأسها حركة الشباب الصومالية.
-
الكاميرون
يوجد في الكاميرون "موقع الطوارئ غاروا"، الذي أُنشئ لدعم الدول الإفريقية في محاربة الجماعات المتطرفة في غرب إفريقيا، وتحديدًا جماعة بوكو حرام.
ويُضاف إلى ما تقدم القواعد العسكرية حيث يوجد الجنود الأميركيون بصفة مستشارين أو مدربين أو خبراء في العديد من الدول، لا سيما في غرب إفريقيا.
فإلى الشرق من النيجر، تستضيف تشاد مجموعة محدودة من القوات الخاصة الأميركية في العاصمة انجمينا، تشرف على تدريب الجيش التشادي وتقديم المشورة للقوة الإقليمية التي تقاتل بوكو حرام.
وبينما لا توجد أي قواعد عسكرية أميركية في نيجيريا وبنين إلا أنهما تشتركان في تدريبات عسكرية مع القوات الأميركية على أراضيها، في إطار تعزيز قوات البلدين لمكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية أمام الشواطئ التي تطل على القسم الجنوبي من الأطلسي.
وينسحب هذا الوجود الأميركي أيضًا على بوركينا فاسو ومالي، اللتين تتلقيان دعمًا لوجستيًا واستخباراتيًا لمحاربة الجماعات المتطرفة الناشطة في المنطقة.
في المحصلة، يتمركز الوجود الأميركي في عموم إفريقيا حول محاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة وتمكين القوات المحلية من الجاهزية الفنية واللوجستية في هذه المعركة، ما يمنح واشنطن قدمًا متقدمة في القارة لمواجهة التمدد الروسي والصيني المتنامي هناك.
ماذا عن الموقف الأميركي من تطورات النيجر؟
بالعودة إلى الانقلاب في النيجر، فإن البلاد لم يزد حرارة صيفها الساخن إلا اشتعال الجدل بشأن سيناريوهات التدخل العسكري، في انتظار ما ستسفر عنه الوساطات والمبادرات الإقليمية والدولية.
وبينما كان من المفترض أن توضح قمة دول "إيكواس" في العاشر من أغسطس/ آب الجاري ما إذا كانت الترجيحات ستذهب باتجاه التدخل لإعادة بازوم، إلا أنها أبقت الأبواب مفتوحة على كل الخيارات لا سيما إعطاء الفرصة لحل الأزمة سلميًا.
وبين المعسكر المتشدد الذي تقوده فرنسا، والذي يدفع في اتجاه التدخل العسكري وأولئك الذين يفضلون الحل السياسي، تدخل الولايات المتحدة بثقلها لترجيح كفة أحد السيناريوهات.
وقد أوفدت واشنطن فيكتوريا نولاند، نائبة وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية، لتجتمع مع قادة الانقلاب في عاصمة النيجر نيامي.
"إيكواس" تحدد موعد التدخل العسكري في #النيجر وطائرات مقاتلة تصل نيامي، من مالي وبوركينا فاسو.. على تقف منطقة غرب إفريقيا على أعتاب الحرب؟ تقرير: محمد الشياظمي pic.twitter.com/jmuSyJ9MXw
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) August 19, 2023
فبدت المبعوثة الأميركية منهكة من الاجتماع الذي وصفته بالصعب والمضني، لكنها كانت منسجمة مع السياسة الخارجية الأميركية التي أعلنها الوزير أنتوني بلينكن في الثاني من أغسطس عندما استبعد الخيار العسكري لحل الأزمة في البلاد.
ويخفي الموقف المعلن في طياته مخاوف واشنطن من تمدد عناصر "فاغنر" الروسية في النيجر، لكنه يتجاهل في الوقت ذاته – بحسب خبراء في شؤون غرب إفريقيا – مصالح الحلفاء المتضررة نتيجة الانقلاب، وعلى رأسهم فرنسا التي كانت تتحضر لاتخاذ نهج أكثر صرامة مع الانقلابيين.
فواشنطن على أبواب انتخابات رئاسية العام القادم، وتدير ملفات ملتهبة في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي وغيرها.
ويرى خبراء في العلاقات الأميركية الإفريقية أن إضافة ملف جديد ما هو إلا تشتيت للجهود الأميركية في منطقة حيوية بالنسبة لها، لا سيما في ملف مكافحة الإرهاب.
وفي حين يبدو واضحًا أن وجود فرنسا في النيجر مهدّد في ظل تضاؤل نفوذها في منطقة الغرب الإفريقي، بعد إلغاء المجلس العسكري اتفاقيات التعاون مع باريس، لم تتلق واشنطن مثل هذا الإجراء من قادة الانقلاب.
وقد بدا الموقف الأميركي من الانقلاب في النيجر غير مفهوم بالنسبة للفرنسيين، حيث أشارت وسائل إعلام فرنسية إلى انزعاج ومخاوف باريس من عدم وضوح الموقف الأميركي واحتمالات تجاوزها.
ويترك هذا الأمر انطباعًا بتباين المقاربات الأميركية والفرنسية بشأن الأحداث في النيجر وتداعيات الانقلاب على كل منهما، إذ يمكن للقاعدة الجوية الأميركية في النيجر أن تبقى قيد التشغيل بغض النظر عمّن يحكم البلاد، في حين يتحدد مستقبل الوجود الفرنسي بمستقبل الحكم في النيجر.
في غضون ذلك، تدرك فرنسا ومعها إيكواس أنها ستخوض مغامرة عسكرية إذا امتنعت واشنطن عن دعمها لوجستيًا واستخباراتيًا، كما تدرك واشنطن – بحسب خبراء في شؤون غرب إفريقيا – أنها لو فعلت ذلك لربطت نفسها بالصورة الاستعمارية المرسومة عن فرنسا في النيجر وعموم الدول الإفريقية.
وعليه، تحاول واشنطن أن تنأى بنفسها عن التورط في مغامرة عسكرية قد تضعها في الخانة الفرنسية وتهدد وجودها السياسي والعسكري في منطقة الساحل، وترك الساحة خالية أمام موسكو وبكين للتمدد في هذه البقعة الهامة من العالم.
"حكومة بايدن تتمسك بالنيجر"
ويشير الأستاذ في جامعة جورج ميسون وعضو لجنة خبراء الأمم المتحدة سابقًا محمد شرقاوي، إلى أن حكومة بايدن تتمسك بالنيجر لأنها من أهم المناطق استراتيجيًا في ما يتعلق بالحرب الأميركية على الإرهاب.
ويقول في حديثه إلى "العربي" من واشنطن: "كان هناك توافق بين واشنطن وباريس منذ عام 2013 عندما قررت حكومة أوباما آنذاك إرسال أول 100 جندي أميركي إلى النيجر، قبل فترة من إرسال 800 جندي، والآن يبلغ مجموع الجنود الأميركيين هناك 1100 جندي يعملون في مجال المراقبة وتعقب المجموعات المتطرفة.
وبينما يشير إلى استمرار وجود توافق بين فرنسا والولايات المتحدة إلى حد ما، إلا أنه يلفت إلى أن واشنطن بدأت تشعر بأن المد الفرنكوفوني وسياسة ماكرون في المنطقة لم تعد تأتي أكلها.
ويردف بالإشارة إلى "النزعة المعادية للغرب"، موضحًا أنه بالحديث عن الغرب في منطقة الساحل وشمال إفريقيا تكون النزعة موجهة إلى مخاصمة باريس أكثر من عواصم غربية أخرى.
ويوجز الأمر بالقول إن واشنطن تتحمل تبعات النزعة المعادية لفرنسا، وإن كانت لا تستطيع القطع نهائيًا مع باريس، ويلفت إلى أن الولايات المتحدة تريد الآن على الأقل أن تمشي على البيض دون أن تكسره، بمعنى ألا تدع الظروف تدفع بالنيجر باتجاه قوات فاغنر والمد الروسي.