حين نشرت روسيا قواتها العسكرية قبل أربعة أعوام في جيب ناغورني كاراباخ حينذاك، كانت مهمتها واضحة وهي الحفاظ على وقف إطلاق نار بين أرمينيا وأذربيجان لتجنب نزاع جديد في القوقاز، لكن هذا الوضع تغير في سبتمبر/ أيلول الماضي مع سيطرة جيش باكو على هذه المنطقة.
وفي غضون ساعات، استعاد الجيش الأذربيجاني هذه المنطقة الجبلية منهيًا بذلك الجمهورية المعلنة من جانب واحد ويشكل الأرمن غالبية سكانها.
ولم يوقف ذلك الجنود الروس الذين رأوا أن لا سبب لبقائهم بعد ذلك في المنطقة، في حين نددت أرمينيا بما اعتبرته خيانة.
وخلال الأسبوع الجاري أكد الكرملين من دون ضجة انسحاب قوات حفظ السلام الروسية، وقد حملت معها جزءًا كبيرًا من النفوذ الروسي في منطقة تعتبرها موسكو باحة خلفية لها.
"عملية مغادرة تاريخية"
وقال المحلل الأذربيجاني المستقل إلهان شاهينوغلو: "نحن شهود على عملية تاريخية: الروس يغادرون البلاد للمرة الأولى منذ قرنين".
وتحاول موسكو وهي لاعب رئيسي في المنطقة، الحفاظ على سيطرتها منذ تفكك الاتحاد السوفيتي الذي كانت أرمينيا وأذربيجان جزءًا منه.
ونشرت روسيا في 2020 ألفي جندي في ناغورني كاراباخ من أجل فرض احترام وقف لإطلاق النار أنهى حربًا استمرت ستة أسابيع بين باكو والعناصر المدعومة من يريفان.
وانتهت هذه الحرب، التي سبقتها أخرى في تسعينيات القرن الماضي، بهزيمة كبرى للقوات الأرمنية، التي اضطرت إلى التنازل عن مساحات واسعة من الأراضي.
ويرى جيلا فاسادزي الخبير في مركز التحليل الإستراتيجي الجورجي، أن وجود الجيش الروسي في ناغورني كاراباخ كان "في الأساس سياسيًا نظرًا لقلة عدد جنود وحدته".
لكن موسكو كما يقول: "أرادت الاحتفاظ بجيشها في كاراباخ كدليل على قدرتها على بسط نفوذها على ما تسميه ’الخارج القريب منها’".
إلا أن الحرب على أوكرانيا أعادت خلط الأوراق واستحوذت على موارد الكرملين واهتمامه منذ فبراير/ شباط 2022. وتعاني روسيا نتيجة لذلك من تآكل "ثقلها الجيوسياسي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي"، كما يعتقد جيلا فاسادزي.
ويقول إلهان شاهينوغلو: إن روسيا تدفع ثمن "الطاقة المهدرة في حربها الفاشلة ضد أوكرانيا".
استياء أرميني من روسيا
ومع الانسحاب من ناغورني كاراباخ "تحطمت الأسطورة القائلة بأن الأقدام الروسية لا تغادر أبدًا الأراضي التي تطأها"، حسب فاسادزي.
مع ذلك، ما زالت لدى موسكو قاعدة عسكرية تضم ثلاثة آلاف جندي في أرمينيا حيث ينتشر عدد من حرس الحدود الروس أيضًا.
على كل حال، لم تعد روسيا التي يتقدم عليها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في طليعة القوى التي تسعى إلى تسهيل التوصل إلى اتفاق سلام دائم بين أرمينيا وأذربيجان.
وقد اقتربت باكو أكثر من تركيا حليفها العسكري الأساسي، وأدت سيطرتها على ناغورني كاراباخ إلى حالة من الفتور بين يريفان وموسكو.
ومنذ ذلك الحين، ركز رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان على علاقاته مع الغرب واستمر في مهاجمة الحليف التقليدي الذي يتهمه بالفشل. وشدد على أن أرمينيا "ليست حليفة روسيا في الحرب في أوكرانيا"، وعلق مشاركة بلاده في تحالف عسكري ترأسه موسكو.
ويعبّر مواطنون في العاصمة الأرمينية يريفان عن استيائهم من روسيا.
"ترحل روسيا والغرب يعود"
وتقول المحاسبة إيفيتا مارغاريان (53 عامًا) إن "الروس خانونا". وهي ترى أن رحيل الجنود الروس يقضي على كل أمل في أن يتمكن الأرمن الذين فروا من ناغورني كاراباخ بعد هجوم سبتمبر من "العودة إلى ديارهم".
ويعتبر فاليري هاروتيونيان الذي عاش في تلك المنطقة قبل فراره إلى أرمينيا، أن "روسيا خانت الشعب الأرمني مرة أخرى وباعتنا". وقال: "لا يمكننا الاعتماد على الروس مرة أخرى. هذا مستحيل. يجب طرد الروس ليس فقط من كاراباخ بل من أرمينيا".
وكثفت فرنسا حيث تعيش جالية أرمنية كبيرة، اتصالاتها بيريفان، التي تعد من الداعمين التقليديين لها.
وقال الخبير الأذربيجاني إلدار نامازوف: "لا يبقى أي مكان مهم فارغًا: روسيا ترحل والغرب يأتي".
ورأى إلهان شاهينوغلو أن موسكو لم يعد بإمكانها الاعتماد على أرمينيا والتيار الانفصالي الأرمني "الذي استغلته لعقود وفق مبدأ فرق تسد".
وأضاف أن "روسيا خسرت نقاط ارتكازها التاريخية في القوقاز إلى الأبد".