شهدت العاصمة الفرنسية أسبوعًا عاصفًا، بدأ بإعلان الرئيس إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، أعقب ذلك سلسلة من المظاهرات في باريس وغيرها من المدن الكبرى احتجاجًا على فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية التي جرت الخميس الماضي.
ويأتي هذا في وقت تدور فيه مناقشات سياسية ساخنة إزاء قرار ماكرون وتداعياته المتوقعة.
ويتوجب على الدوائر الأوروبية التعامل مع هذا الواقع الجديد مع برلمان أوروبي أكثر خضوعًا لتوجهات اليمين المتطرف، بعد التقدم الكبير الذي حققته الأحزاب اليمينية في الدول ذات الثقل السياسي في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة.
فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية
تصدُّر اليمين في الدول الأوروبية المحورية، لم يخالف التوقعات واستطلاعات الرأي السابقة للانتخابات، حيث حقق اليمين المتطرف فوزًا تاريخيًا في فرنسا، وإيطاليا والنمسا، بينما عززت التيارات اليمينية مواقعها في ألمانيا والمجر وبولندا، وحققت مكاسب كبيرة أيضًا في إسبانيا وهولندا.
إلا أن النتائج لم تكن كذلك بالنسبة لدول شمال أوروبا، فقد تراجع اليمين بشكل ملحوظ في السويد وفنلندا والدنمارك، لصالح الأحزاب اليسارية والتيارات الوسطية، حيث تتقدم قضايا المناخ والتغير البيئي، على ما عداها من القضايا.
وبالرغم من المكاسب الكبيرة لليمين المتطرف في الانتخابات، فإنه لم يحرز أغلبية حاسمة تخل بتركيبة التكتلات والمجموعات السياسية ضمن البرلمان الأوروبي.
لكن رياح اليمين المتطرف عصفت بفرنسا، ثاني كبرى الدول من حيث عدد المقاعد في البرلمان الأوروبي، بعد أن اكتسح حزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان الانتخابات الأوروبية حاصدًا 31.5% من الأصوات وبفارق كبير عن التكتل الرئاسي الذي حصل على نسبة تخطت 15% بقليل.
وأرخت هذه الهزيمة الثقيلة، بظلالها مباشرة على المشهد السياسي الفرنسي، فبعد ساعات قليلة من إعلان تلك النتائج بادر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اتخاذ قرار صادم حل بموجبه الجمعية الوطنية الفرنسية، وأعلن عن انتخابات عامة مبكرة، فاتحًا بذلك الباب واسعًا على جميع الخيارات.
"قفزة نحو المجهول"
ووصف بعض المراقبين لمآلات المشهد السياسي الفرنسي الخطوة بأنها قفزة نحو المجهول، فهي تأتي في وقت يحظى فيه اليمين بزخم انتخابي قد يسمح له بالسيطرة على الأغلبية في الهيئة التشريعية، ويضع حزب التجمع الوطني في قلب صناعة القرار الفرنسي.
لكن ماكرون، من جهته، يراهن بقراره هذا على ظرفية هذا الزخم أوروبيًا على أساس أنه لن يمتد إلى الانتخابات التشريعية المحلية بل قد تخدمه الظروف وتمنحه فرصة لتحقيق أغلبية في البرلمان المقبل.
بدورها، ذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية في عددها الصادر عشية قرار ماكرون، بسوابق تاريخية تشبه الظروف التي تحيط بقرار ماكرون، وذلك حين نجح الديغوليون في الفوز بالأغلبية المطلقة، بعد حل الجمعية الوطنية على خلفية انتفاضة الطلاب عام 1968.
إلا أن هذا السيناريو مستبعد بحسب غاسبار جانتزر المسؤول السابق في إدارة فرانسوا هولاند، الذي رجح في حديث إلى صحيفة "لوموند" أن يواجه ماكرون سيناريو آخر يشبه ما جرى مع جاك شيراك حين حل البرلمان عام 1997، وخسر الأغلبية ليقضي فترته الرئاسية متعايشًا مع جمعية وطنية يسيطر عليها معارضوه.
إذًا فإن قرار ماكرون اتخذ، وستجرى الدورة الأولى للانتخابات التشريعية في 30 يونيو/ حزيران الجاري، وسيعود السياسيون إلى حلبة المنافسة من جديد، لتُترك للمواطن الفرنسي إعادة تشكيل الخريطة السياسية الداخلية، فإما أغلبية تدعم الرئيس، أو تعايش مرير مع اليمين المتطرف بقية سنوات ولايته.
هل تعد خطوة ماكرون مغامرة غير محسوبة؟
وفي هذا الإطار، اعتبرت الصحافية المتخصصة في الشؤون الفرنسية أمل نادر، أن خطوة ماكرون قد تكون مغامرة محسوبة أو غير محسوبة، ولكن الأكيد هي أنها أحدثت زلزالًا في الأوساط السياسية الفرنسية على كل الأصعدة، وصدعت أغلب الأحزاب والتحالفات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لأنها غيرت المشهد الذي كان سائدًا في الانتخابات التشريعية الأخيرة الماضية.
وفي حديث إلى "العربي" من العاصمة باريس، أضافت نادر أن ماكرون يعتبر أن ليس لديه ما يخسره بما أنه لا يزال أمامه 3 سنوات من الحكم، وربما لن يترشح بعدها، موضحة أن الدستور الفرنسي يمنعه من الترشح لولاية ثالثة.
وبشأن ما إذا كانت فرنسا مستعدة لأن تكون لوبان رئيسة للوزراء، لفتت نادر إلى أنها ربما لن تكون رئيسة الوزراء، مشيرة إلى أنه من الممكن أن يتولى هذا المنصب رئيس الحزب جوردان بارديلا، في حال استطاع حزب التجمع حصد أغلبية كبيرة.
على ماذا يعول ماكرون؟
وفي هذا الإطار، تابعت نادر أن ماكرون قد يعول على أن يصل اليمين المتطرف وأن ينهزم في الممارسة السياسية، ويثبت فشله في الحكم، مشيرة إلى أن الرئيس الفرنسي يراهن على انضمام جزء من اليمين المعتدل الوسطي الجمهوري إلى تحالفه، لكن استطلاعات الرأي لا تعطيه أغلبية حتى نسبية.
وبشأن خطورة احتمال أن يكون رئيس وزراء فرنسا لأول مرة في تاريخها من اليمين المتطرف بغض النظر عن هويته، أوضحت نادر أنه ستكون هناك مرحلة تعايش بين ماكرون رئيسًا للدولة ورئيس الحكومة الذي سيعين من اليمين المتطرف، وستكون مرحلة تعايش صعبة جدًا لأن اليمين المتطرف سيتصدى لكل قرارات الرئيس، وسيكون هناك صدام صعب.
وتابعت أن أمام ماكرون 3 سنوات من الحكم، لا بد أن يمررها وليس لديه الحق في الترشح مرة أخرى، فإما أن يتعايش مع الواقع الجديد الذي ستفرزه صناديق الاقتراع، وإما أن يستقيل ويمكنه ذلك.
وشرحت نادر أنه حينما يصعد اليمين المتطرف، فهذا يعني أن الحكومة القائمة لم تتمكن من طمأنة المواطنين، مشيرة إلى أن اليمين دائمًا ما كان يلعب على خوف المواطن، أكان الخوف من الأوضاع الاقتصادية والأمنية واندلاع حرب في كل أوروبا قد تصل إلى فرنسا، بالإضافة إلى الخوف من قضايا الهجرة.
وخلصت إلى أن كل هذه المخاوف لم يجب عليها الرئيس والحكومة الحالية، مشيرة إلى أن هناك أخطاء في الحكم ارتكبها الحزب الحاكم والتحالف الحاكم ولعبت عليها مارين لوبان وحزبها.