تابعت ملايين الشاشات حول العالم في 9 أبريل/ نيسان من العام 2003 مشهد الإطاحة بتمثال صدام حسين ونظامه الذي حكم العراق لسنوات بالحديد والنار.
وانهار نظام البعث سريعًا كقطع الدومينو بعد 3 أسابيع من الحرب المتواصلة التي انتهت باحتلال العراق.
ومع هذا الانهيار السريع انهار أيضًا جدار التعتيم الحديدي الذي صنعه نظام البعث على مدى نحو ربع قرن.
وفي أبريل 2003 نفذت وحدة خاصة من الجيش الأميركي مهمة في بغداد للبحث عن أدلة أو وثائق تثبت امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل لتبرير الحرب.
وفي خلال هذه المهمة عثرت القوات الأميركية على أرشيف خطير يتمثل بآلاف الساعات من التسجيلات الصوتية بين صدام وأعضاء حزب البعث ومجلس قيادة الثورة وكبار ضباط جيشه.
دراسة شخصية صدام
وتم تجميع هذه الملفات بإشراف مؤسسة الذاكرة العراقية تحت إدارة كنعان مكية.
في أجواء من السرية والتكتم، وصلت هذه الأشرطة إلى معهد التحليلات الدفاعية في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ليتم تفريغها ولتخضع بعدها إلى عمليات مراجعة دقيقة قبل نشرها بهدف إخفاء أي معلومات قد تلحق الضرر بأي أحد خارج دائرة نظام صدام أو إحراج أي دول حليفة للولايات المتحدة.
وأتاحت هذه التسجيلات لمحللي البنتاغون فرصة للتعرف أكثر على شخصية صدام حسين، الشخصية الأكثر جدلًا طوال فترة حكمه للعراق.
وتتيح التسجيلات تفسيرات مهمة حول صدام حسين وكيف كان يدير عالمه الميكيافيلي الذي خلقه هو بنفسه.
وتظهر التسجيلات صدام حسين بوصفه رجلًا ذكيًا يحلل السياسة العالمية، وتظهره أيضًا رجلًا مخدوعًا يرى العالم بمزيج يجمع بين الدهاء والهراء حسب وصف محللي وزارة الدفاع الأميركية.
فأحيانًا يقول صدام لحاشيته إن الولايات المتحدة كانت وراء الثورة الإيرانية وفي بعض الأوقات يعتبر كتاب "بروتوكولات حكام صهيون" مهمًا لفهم إسرائيل.
كواليس إدارة النظام العراقي
وظلت هذه التسجيلات طي الكتمان إلى أن رفعت الولايات المتحدة السرية عنها بعد نحو 15 عامًا على احتلال العراق. وصدرت الأشرطة في 1 يناير 2007 في كتاب تحت عنوان "أشرطة تسجيل صدام - الأعمال السرية لنظام استبدادي".
وتم نشر أجزاء من هذه التسجيلات عبر موقع إدارة النزاع.
تلك التسجيلات كشفت العديد من أسرار حكم صدام حسين للعراق وأزاحت الستارة عن الكثير من التفاصيل والكواليس عن إدارة النظام في العراق لقضايا عديدة بعضها قلب المنطقة العربية والشرق الأوسط رأسًا على عقب.
وتوضح التسجيلات الطريقة التي تعامل بها صدام مع الأزمات لدرجة أنه كان يتحدث في نوبات الغضب التي تنتابه عن خطط لاغتيال بعض القادة العرب الذين كان على رأسهم الرئيس المصري محمد أنور السادات الذي وصفه بـ"الخائن" بعد توقيعه لاتفاقية السلام مع إسرائيل. وتجاوز ذلك إلى قتل من يدعم السادات.
وفي التسجيلات يحرض صدام على نظام الحكم في السودان وقتل الرئيس جعفر النميري بسبب دعم الأخير للسادات.
إستراتيجية إدارة الحرب الإيرانية العراقية
وتعد الحرب العراقية الإيرانية واحدة من الملفات المهمة التي نالت نصيبها من هذه التسجيلات، وكشفت عن الإستراتيجية التي اتبعها الرئيس العراقي لإدارته لتلك الحرب التي دارت من عام 1980 إلى 1988.
وتكشف التسريبات عن رسائل صدام حسين للنظام الإيراني قبل خوضه حرب الخليج الأولى ضد طهران طالبًا منهم مراجعة موقفهم للحيلولة من دون وقوع الحرب.
وتتحدث التسجيلات عن الدور الأميركي في دعم إيران خلال الحرب، ويشير صدام فيها إلى الطريقة التي تحكمت من خلالها الولايات المتحدة في مسار الحرب. وربما كان ذلك سببًا في زيادة النزعة التآمرية لدى صدام ضد الولايات المتحدة رغم إنكار أميركا ذلك أكثر من مرة.
وسيتطور هذا العداء ويزداد بعد قضية "إيران كونترا" أو ما يعرف بفضيحة إيران جيت بعدما زودت أميركا إيران بالعديد من الأسلحة التي وصلت إلى طهران عن طريق إسرائيل.
ففي اجتماع مسجل لصدام مع مستشاره بتاريخ 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1986 يوضح صدام شكوكه في الجانب الأميركي، حتى أنه اعتبر أن الثورة الإيرانية صنيعة أميركية.
ثم يكمل صدام في تفنيد شكوكه في الدعم الأميركي لإيران وطبيعة النظام الإيراني في عهد الخميني.
أسرار من الغزو العراقي للكويت
وأحد أهم الملفات التي كشفت عنها هذه التسجيلات هو ما دار في الغرف المغلقة بين صدام وفريقه قبل وأثناء وبعد الغزو العراقي للكويت.
ففي 7 أغسطس/ آب من العام 1990 وقبل يوم من واحد من إعلان ضم الكويت إلى العراق، أمر صدام بنشر مخدر الهيرويين بين أبناء الشعب الكويتي لتدميرهم ودفعهم للموت والانتحار.
وفي ذات الاجتماع الذي تم التصويت فيه بالإجماع على الوحدة مع الكويت، وبّخ صدام كبار مساعديه وضباطه المعنيين بالملف الكويتي قائلًا: "إذا سمعت أنكم لم تقطعوا لسان أي شخص يتكلم بريبة فسأستبدلكم، قولوا لهم إنكم عراقيون الآن وإذا فتح أي فرد فمه أو أثار ضجة فعليكم أن تفرغوا الرصاص في حنجرته".
وتظهر تسجيلات أشرطة صدام كيف يشرح علي حسن المجيد إبن عم صدام وأحد قياديي البعث قبل أيام من غزو الكويت، مبرر العراق لهذه الخطوة".
ويوضح صدام حسين في التسجيلات خوفه على الجبهة الداخلية للعراق قبل الحرب ويحث فريقه على ضرورة الدعم النفسي لجنوده وهواجس صدام وشكوكه من قدرة الدفاع المدني على الصمود في ظل حالة الهلع التي بدأ يشعر بها سكان بغداد مع اقتراب الغزو.
على جانب آخر، توضح التسجيلات الأفكار التي جالت في عقل صدام حسين في كيفية تعامله مع الشعب العراقي وقت الحرب وخطط إخلاء المدن إذا ما اضطر لذلك.
مخططات ضرب تل أبيب وقصف السعودية
وقبل أيام من حرب "عاصفة الصحراء" عام 1991 وفي اجتماع مسجل عقده صدام مع عدد من المسؤولين، كشف الأخير عن نيته ضرب تل أبيب بل تعداه إلى قصف السعودية وتحديدًا مدينتي الرياض وجدة بالأسلحة الجرثومية.
وفي اجتماع في 23 فبراير/ شباط 1991 وقبيل ساعات من بدء التحالف المؤلف من 33 دولة بقيادة أميركية تحركاته، بحث صدام مع معاونيه إمكانية سحب قواته البرية من الكويت وإقامة ديمقراطية وطنية هناك لكن الأحداث كانت تتسارع بشكل كبير.
وفي تسجيل له في اليوم التالي، يتحدث الرئيس العراقي ومعاونوه عن بدء العمليات البرية للتحالف الذي عرف باسم "عاصفة الصحراء". واعتبر صدام أن اختيار هذا التوقيت مجرد لعبة سياسية وأنه يرتبط بمحاولة الرئيس جورج بوش الأب الإفلات من المبادرة السوفيتية التي كانت تنص على وقف فوري لإطلاق النار.
وبعد تحرير الكويت، فرض حصار اقتصادي على العراق. ومنذ العام 1991 ظل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة يطالب بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل والصواريخ بعيدة المدى كثمن للسلام.
وبعد مرور 12 عامًا وبالتحديد في أبريل/ نيسان 2003 عاد تحالف آخر بقيادة الولايات المتحدة أيضًا وتحت غطاء الحجة نفسها ليطيح بصدام حسين ونظامه.
عداء مع حسني مبارك والملك فهد
كان صدام يكن عداء لكل من الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز فهما بنظره كانا وراء قرار دعم الجامعة العربي للتحالف الدولي ضد بلاده.
ففي أحد التسجيلات يقول صدام إن المسؤول الأول عن استقدام قوات التحالف إلى المنطقة والمشاكل التي وقع فيها العراق هو مبارك والملك فهد مبديًا رغبته في تدبير محاولة اغتيال للرجلين.
وفي اجتماع لصدام مع مستشارين عقد في منتصف التسعينيات، كان الحديث يدور حول ترويج مبارك لنفسه كقائد للعالم العربي وهو ما قابله صدام بالتهكم والسخرية. فصدام كان دائمًا يرى أن زعامة العالم العربي بعد وفاة جمال عبد الناصر كانت محسومة له ولقيادة حزب البعث العراقي.
كان صدام حسين مولعًا بنفسه حتى قارن نفسه بحمورابي ونبوخذ نصر. وكان يهدف من التسجيلات إلى توثيق عظمته.
وشكلت هذه التسريبات مقاربة أكثر دقة ومصداقية لشخصية ومواقف صدام حسين الشخصية الأكثر جدلًا لأكثر من نصف قرن، كما كسرت جدار التعتيم الحديدي لنظام البعث.