الجمعة 15 نوفمبر / November 2024

رجل الحديد والنار.. يوم وصل صدام حسين إلى الحكم في العراق

رجل الحديد والنار.. يوم وصل صدام حسين إلى الحكم في العراق
السبت 17 يوليو 2021

شارك القصة

الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين (أرشيف - غيتي)
الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين (أرشيف - غيتي)

عام 1958 انتهت الملكية وقامت الجمهورية العراقية؛ إذ أطاح انقلاب 14 يوليو/ تموز بالملك فيصل الثاني، آخر الملوك الهاشميين في العراق.

قاد انقلاب يوليو الضابط عبد الكريم قاسم، ليدخل العراق بعد ذلك في سلسلة من  الانقلابات العسكرية المتتالية، أدت في النهاية إلى وصول حزب البعث إلى سدة الحكم.

على مدى عقود، منذ تأسيسه وحتى سقوط نظامه على يد القوات الأميركية عام 2003، كانت أسوار البعث في العراق عصية على الاختراق؛ إذ لم يكن العراقيون يعلمون عن خطط الحزب الساعية لانتزاع "عرش العراق"، حيث تمكن من ذلك عام 1968، عندما أطاح الحزب بعبد الرحمن عارف رئيس الجمهورية آنذاك.

وبعد عشر سنوات تقريبًا، تمكن صدام حسين من انتزاع الحكم تحت راية البعث أيضًا.

يومها قال صدام حسين: إن البعث جاء ليحكم العراق لـ300 عام.

يوميات البعث 

كان حزب البعث ذراع صدام حسين الضاربة في العراق للحفاظ على النفوذ والسلطة. ولرؤية البعث من الداخل، كانت مذكرات رجال الحزب والسلطة هي النافذة الأهم على كواليسه، كمذكرات الوزير الأسبق جواد هاشم التي تعد إحدى أهم الشهادات في تاريخ العراق الحديث.

وجواد هاشم سياسي عراقي من تلك الحقبة، كان مستشارًا لمجلس قيادة الثورة، كما  شغل منصب وزير التخطيط العراقي في حكومة البعث الأولى عام 1968، الأمر الذي أتاح له أن يكون شاهدًا على التحولات السياسية التي رافقت حكم البعث في العراق.

خرج جواد هاشم مبكرًا من منظومة البعث بعد أن تعرّض للاعتقال في أيام حكم صدام حسين الأولى، وبعد أن خرج من سجنه قرر مغادرة العراق.

وفي أواخر الثمانينيات، شرع السياسي العراقي بتدوين شهادته على تلك الحقبة، لكنه لم يستطع نشرها إلا بعد أن سقط نظام صدام حسين عام 2003.

"بعد أن ناضل أبناء العراق لنيل حريتهم واستقلالهم، استلم حكم العراق نخبة مارست التسلط فاستطابته وتمسكت بالسلطة بيدين من حديد ونار، ثم فتحت أبواب السجون ودهاليز المعتقلات لتلقي فيها خيرة شباب الوطن، وعلقت المشانق لمعارضيها، ولم تترك مجالًا للتعبير عن الرأي سوى جدران شوارع لندن وباريس. في ظل ذلك، استمر الحاكم المستبد في بيع الأحلام لشعبه المغلوب على أمره، وأحلام تحرير فلسطين.. ثم افتعال الأزمات الخارجية لتبرير بقائه اللاشرعي في كرسي الحكم..".

الرفيق صدام التكريتي

صار عبد السلام عارف رئيسًا للعراق، بعد أن تمكن حزب البعث من الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم. لكن سرعان ما ساءت العلاقة بين الرئيس العراقي والحزب الذي لجأ إلى العمل السري من جديد.

في تلك الفترة، عاد من المنفى الرفيق البعثي صدام التكريتي، الذي كان فرّ إلى خارج العراق، بعد اتهامه بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.

كان صدام قد تعرف على قيادة البعث السوري، وعلى رأسها ميشيل عفلق الذي رأى بالشاب البعثي "مشروع زعامة" قادم لا محالة.

يقول ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث السوري: عرفت الرفيق صدام حسين بعد ثورة 1963، كان ذلك في مؤتمر قطري في بغداد. والانطباع الأول والأساسي الذي تركته في نفسي هذه المعرفة هو الاتزان وهدوء الأعصاب وسيطرة العقل ووضوح الفكر، هو نموذج غير مألوف في العمل الثوري في وسطنا العربي".

الرفيق البعثي صدام حسين التكريتي (غيتي)
الرفيق البعثي صدام حسين التكريتي (غيتي)

انقلاب عام 1968

ألقت النكسة عام 1967 بظلالها على العراق. وفي ذلك العام عقد حزب البعث مؤتمرًا قوميًا في لبنان، اعتبر فيه أن ما حصل هو هزيمة لكافة الأنظمة الحاكمة.

أطلق الحزب في المؤتمر نداء طالب فيه كافة أعضائه في "الأقطار العربية" بإزالة الأنظمة التي تسببت بالهزيمة، وقد تردّد صدى النداء في بغداد.

هكذا بدأ العد التنازلي للإطاحة بعبد الرحمن عارف الذي كان استلم السلطة بعد أخيه عبد السلام الذي قتل في حادث تحطم مروحية عام 1966.

يتحدث جواد هاشم في مذكراته عن عرض تلقاه فؤاد الركابي زعيم حزب البعث العراقي ومؤسسه، قدمه له رئيس الاستخبارات العسكرية حينها عبد الرازق النايف الذي أراد تنفيذ انقلاب عسكري بالتعاون مع قائد الحرس الجمهوري إبراهيم الداوود.

كان العسكر بحاجة إلى حزب البعث من أجل دعمهم ومؤازرتهم، لذا طلب النايف من الركابي توفير غطاء سياسي للانقلاب. لكن الزعيم البعثي رفض ذلك، بحسب مذكرات هاشم.

اضطر العسكر إلى عرض الأمر على القيادي البعثي أحمد حسن البكر، الذي وافق على ذلك. وبعد عدة أيام، وتحديدًا في 17 يوليو/ تموز 1968، سيطرت مجموعة النايف والداوود على القصر الجمهوري، وأطاحت بكل سهولة بالرئيس عبد الرحمن عارف.

ويروي بعض البعثيين أن صدام حسين كان ضمن مجموعة الدبابات التي اقتحمت القصر الجمهوري حينها وسيطرت عليه.

الرئيس العراقي الأسبق عبد الرحمن عارف (غيتي)
الرئيس العراقي الأسبق عبد الرحمن عارف (غيتي)

عهد البكر

أوصل الانقلاب حزب البعث إلى سدة الحكم، فبعد 13 يومًا فقط من نجاحه، تمكن البعثيون من الإطاحة بصانعي الانقلاب الفعليين: عبد الرزاق النايف وإبراهيم الداود، لتتشكل بعدها أول حكومة بعثية خالصة.

في تلك الفترة دُعي دكتور الاقتصاد المعروف جواد هاشم إلى القصر الجمهوري لمقابلة الرئيس العراقي الجديد أحمد حسن البكر، الذي أراد تعيينه وزيرًا للاقتصاد.

وفي ذلك اليوم قابل جواد هاشم الضابط صدام حسين لأول مرة.

وأنا جالس مع البكر، دخل علينا الغرفة شاب طويل القامة يرتدي الكاكي، ولم يكن يحمل رتبة عسكرية. قدَّمه البكر لي وقال: الرفيق صدام التكريتي. لم أكن قد التقيته من قبل، لكني كنت قد سمعتُ باسمه أثناء محاكمة المتهمين بمحاولة اغتيال عبد الكريم قاسم.

الرجل الثاني في العراق

كان صدام حسين، الذي تقلد منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، يُمارس مهامه اليومية من غرفة متواضعة في القصر الجمهوري. لكنه بدأ يمسك بزمام الأمور شيئًا فشيئًا، إلى أن أصبح الرجل الثاني في العراق.

كان القرار يميل إلى تعيين الرفيق البعثي صالح مهدي عماش نائبًا لرئيس مجلس قيادة الثورة. لكن أحمد حسن البكر أراد أن يكون صدام في ذلك المنصب. ومن أجل ترتيب الأمر، أرسل عماش إلى الأردن لتفقد الوحدات العسكرية العراقية الموجودة هناك. وأثناء غيابه، أصدر قراره بتعيّن صدام حسين نائبًا له، واضعًا الجميع أمام الأمر الواقع.

الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر ونائبه صدم حسين
الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر ونائبه صدم حسين

حاكم الظل

أقيل جواد هاشم من منصبه عام 1971، لكن على الرغم من ذلك، لم تنقطع صلته بحكومة البعث، حيث عُين في هيئة عُرفت باسم "مكتب الشؤون الاقتصادية".

كانت الهيئة تتولى مراجعة كافة التشريعات الاقتصادية والشؤون المالية في العراق، تحت إشراف صدام حسين، ما منحها ثقلاً كبيرًا في دوائر الحكم الداخلية، فأي مقترح يوافق عليه الرجل الثاني في العراق كان يعني موافقة مجلس قيادة الثورة حتمًا.

في تلك الأثناء، كان الغضب الشعبي على شركات النفط الأجنبية قد بلغ ذروته. وفي حوار دار بين جواد هاشم  وصدام حسين، قال له الأخير إنه يفكر في اتّباع سياسة جديدة مع شركات النفط.

أدرك جواد أن صدام ينوي تأميم النفط في العراق، الأمر الذي سيرفع من شعبيته لا محالة.

كان صدام حسين يريد تحقيق نصر سياسي كبير يثبت مواقعه داخل العراق لينطلق منه إلى الوطن العربي، مخاطبًا جماهيره، ليقول لهم إنه البديل الأوحد لقيادة العرب. ولم يكن المناخ السياسي في السبعينيات مهيأ لنصر عسكري، كما لم تكن إمكانيات العراق آنذاك كفيلة بتحقيق أي نصر عسكري. إذن، لابد من البحث عن مجال آخر للنصر، هذا المجال وجده صدام في الجانب الاقتصادي: النفط.
أراد صدام حسين تأميم النفط في العراق، الأمر الذي سيرفع من شعبيته (غيتي)
أراد صدام حسين تأميم النفط في العراق، الأمر الذي سيرفع من شعبيته (غيتي)

تأميم النفط

في الأول من شهر يونيو/ حزيران عام 1972، ظهر الرئيس البكر على شاشة التلفزيون وقرأ بيانًا، كتبه له صدام حسين، أعلن من خلاله إصدار قانون تأميم النفط.

خرجت الجماهير إلى شوارع بغداد فرحة بذلك القرار، لكن ما لم تعلمه الجماهير حينها أن قرار التأميم لم يشمل كافة حقول العراق البترولية، فقد اقتصر القرار على نفط الشمال فقط.

كما أن صدام حسين قرر الاحتفاظ بـ5% من امتيازات "نفط العراق" في حساب مستقل خارج العراق، وتحت إشرافه الشخصي.

قال لنا صدام في إحدى الجلسات السرية: إن حزب البعث قد جاء إلى العراق ليحكم 300 سنة. ولكي يستمر في الحكم أو يعود إليه في حال سقوطه، لا بد من وجود مصدر مالي ضخم خارج العراق. نحن لا نريد أن نقع في أخطاء عام 1963 عندما سقط حكمنا وواجهنا صعوبات مالية كبيرة.

أسرى صدام

باتت طريق صدام حسين نحو الانفراد بعرش العراق مُمهدًا أكثر من أي وقتٍ مضى، لا سيما بعدما نجح في إقصاء مُنافسه صالح عماش الذي أقيل من كل مناصبه.

وفي زيارة وداعية، قال عماش لجواد هاشم محذرًا من خطورة المسار الذي يدفع إليه صدام حسين: لو انفرد بالحكم فستسيل الدماء أنهارًا، إنه شخص دموي خطير.

كان صدام يشرف على كافة الملفات السيادية في العراق، الأمر الذي همش رئيس الدولة أحمد حسن البكر. يقول جواد هاشم: إن رئيس الجمهورية اشتكى له ذات يوم من فرط سيطرة صدام: "اعتبروني وزيرًا وأطلعوني على عملكم، فأنا لا أعرف ما يدور في هذا البلد".

وفي اجتماع آخر قال البكر: نحن أسرى عند صدام ولا نملك حق الاستقالة.

لقد خطط صدام مسار مستقبله السياسي تخطيطًا دقيقًا مدروسًا. وفي الوقت الذي كان يعمل على تثبيت مواقعه وهيمنته على مفاتيح العمل الاقتصادي والسياسي في الداخل والخارج، لم يغفل لحظة عن بسط سيطرته الكاملة على أجهزة الأمن والمخابرات.
أطاح صدام حسين بالرئيس أحمد حسن البكر ليلة 17 يوليو/ تموز عام 1979 (غيتي)
أطاح صدام حسين بالرئيس أحمد حسن البكر ليلة 17 يوليو/ تموز عام 1979 (غيتي)

ليلة الانقلاب الأخير

ثم جاءت لحظة صعود صدام حسين إلى موقع الرجل الأول، وتحديدًا عندما قرر أحمد حسن البكر الوحدة مع سوريا.

كانت هذه الخطوة كفيلة بزلزلة عرش البكر وإسقاطه، لأنها سترفع من موقع حافظ الأسد، العدو اللدود لصدام حسين. كما أنها ستدفع بصدام إلى موقع مجهول في دولة اتحادية جديدة.

عندها، سارع صدام إلى الإطاحة بالبكر؛ كان ذلك ليلة 17 يوليو/ تموز عام 1979.

في تلك الليلة، استدرج صدام حسين الرئيس العراقي إلى مسكن خاله، ثم طلب منه أن يتنحى عن كافة مناصبه ليحل هو بدلاً منه. في البداية قاوم البكر ذلك الضغط، ثم رضخ بعدما أدرك أن الأمر قد انتهى.

أعلن البكر تخليه عن منصبه لأسباب صحية، ليطلق صدام حسين رصاصة الرحمة على مشروع الوحدة مع سوريا الذي لم يولد في الأصل.

ثم عقد صدام حسين مؤتمره الشهير في قاعة الخُلد في بغداد، حيث أعلن فيه أن دمشق قد تورطت في مؤامرة على حزب البعث العراقي.

بعدها، تلا الرئيس الجديد قائمة أسماء طلب منها مغادرة القاعة. ولاحقا أعدم من شخصيات القائمة 22 شخصًا.

وهكذا بدأ عصر صدام حسين بالحديد والنار.

لم يخطر ببالي أن صدام حسين سيصل في ظلمه وبطشه وطيشه الحد الذي وصله بعد فترة قصيرة من استلامه مقاليد الحكم في العراق. لم يكن بحاجة إلى كل هذا العنف اللامحدود وكل هذه الاستهانة بأبسط الأعراف والقواعد القانونية. لقد كان بإمكانه البقاء في الحكم طوال حياته في عراق تسوده الرفاهية والاطمئنان وسيادة القانون، لو أنه تروّى وتعقّل وتخلص من عقدة الخوف من التآمر عليه، ولو لم يحط نفسه بحفنة من الجهلة والمتخلفين، وبمجموعة غير عراقية من المنتفعين: تجار السلاح ومحترفي السياسة.
وصول حزب البعث إلى السلطة وسيطرة صدام حسين على الحكم │مذكرات جواد هاشم
المصادر:
العربي
Close