بعد 75 عامًا على النكبة الفلسطينية، ترتفع الأصوات في الغرب المنتقدة لإسرائيل وسياساتها ضد الفلسطينيين، حتى باتت توصف تلك الدولة بالعنصرية، وبأنها دولة فصل عنصري أو أبرتهايد.
فقد بات العالم يلاحظ ميولًا في الرأي العام الغربي يناهض إسرائيل، وينظر إليها بشكل سلبي، بمقابل ارتفاع التأييد للفلسطينيين وقضيتهم في مقاومة إسرائيل بوصفها دولة احتلال.
ولعل استطلاعات الرأي تعطي صورة أوضح عن المواقف المتغيرة، والتبدلات الحاصلة في مجتمعات كانت داعمة لإسرائيل بحكم الدعاية التاريخية والسردية الصهيونية المحملة بالمظلومية لليهود.
ففي مايو/ أيار من العام الماضي، أظهرت دراسة أميركية تأييدًا متناميًا للفلسطينيين في أوساط الشبان الأميركيين بنسبة 61% مقابل 56% تأييدًا لإسرائيل، وذلك بين الفئات العمرية التي تتراوح بين 18 و30 عامًا.
الدراسة نشرتها مؤسسة "بيو" للأبحاث تحت عنوان "ارتفاع طفيف في وجهات النظر تجاه إسرائيل والفلسطينيين"، علمًا أن المؤسسة تعتبر واحدة من أكثر مؤسسات الأبحاث مصداقية في الولايات المتحدة، بما يخص استطلاعات الرأي العام.
واستبين الاستطلاع المتضمن في الدراسة فئات اجتماعية أكثر تسيسًا بانتماء حزبي واضح وصريح، فقد وجدت الدراسة أن 64% من الديمقراطيين لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الشعب الفلسطيني بمقابل 60% للإسرائيليين.
وتلتقي هذه الأرقام مع ما خلصت إليه إحدى المؤسسات اليهودية المعروفة باسم رابطة "مكافحة التشهير"، فقد وجدت أن 40% من الأميركيين يعتقدون أن إسرائيل تعامل الفلسطينيين معاملة النازيين.
واللافت أن كلا الاستطلاعين أظهرا زيادة في المشاعر المناهضة لإسرائيل بين الفئات العمرية الشابة، بينما ما زالت الأجيال الأكبر سنًا تدعم مواقف إسرائيل.
وتنسحب هذه النتائج على الدول الأوروبية أيضًا التي يعد سكانها أكثر اطلاعًا ومتابعة وقربًا من السياسات الدولية من نظرائهم الأميركيين، إذ يبدي الكثير من الأوروبيين تضامنًا مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لانتهاكات مستمرة من قبل سلطات الاحتلال.
فعلى سبيل المثال، استطاع النشطاء البريطانيون حشد حملة شعبية لمقاطعة إسرائيل في 2021، وفرضوا على مجلس العموم مناقشة السياسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.
في ذلك الوقت، استطاعت الحملة جمع أكثر من 380 ألف توقيع على عريضة، تطالب بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، كما وقع أكثر من 600 فنان من بريطانيا وأوروبا على عريضة تعهدوا فيها بمقاطعة إسرائيل ووقف التعامل معها.
هذا التحول في الرأي العام الغربي ليس جديدًا، لكنه يكتسب زخمًا أكبر بمرور الوقت، وبدأ يشكل عاملًا ضاغطًا على صانعي السياسات وأصحاب القرار في العواصم الغربية.
تبدل واضح في وجهة النظر الغربية
إلى ذلك، مع تكرار استطلاعات الرأي التي تظهر تبدلًا واضحًا في وجهة النظر الغربية تجاه القضية الفلسطينية، وإبداء الإيجابية تجاه الفلسطينيين، تبرز تساؤلات بشأن رسوخ هذا الرأي، وتجذره في الوعي العام، وما إذا كان يمكن أن يشكل عامل ضغط لدى صناع القرار في تلك الدول لاتخاذ مواقف أكثر فاعلية لدعم الحقوق الفلسطينية.
وقد يبدو ذلك التغير عامل ضغط في الديمقراطيات الغربية، على اعتبار أن هذا الرأي لم يعد يعبر عن مزاج فردي، بل بات يشمل القواعد الحزبية والشخصيات المسيسة المنخرطة في صياغة السياسات العامة في الدول الغربية.
فشخصيات مثل السياسي العمالي جيرمي كوربن يظهر كأحد أبرز الشخصيات السياسية المتضامنة مع فلسطين، والمنتقدة لسياسات الفصل العنصري التي تنتهجها إسرائيل، ومن الداعمين لحق الفلسطينيين في المقاومة، ونظر داعموه إلى ترؤسه حزب العمال عام 2015 كنقطة تحول كبيرة فيما لو نجح في الانتخابات البريطانية، ووصل إلى مركز القرار في مختلف المستويات، ومنها السياسة الخارجية.
وفي الولايات المتحدة، يبرز السناتور الأميركي بيرني ساندرز صاحب المواقف المتقدمة في فضح الممارسات الإسرائيلية التعسفية في الأراضي المحتلة، وهو من الشخصيات المؤثرة في خطاباته ومقالاته الداعية إلى مساءلة إسرائيل وعدم الانجرار وراء حروبها العنيفة ضد الفلسطينيين.
مواقف متوازنة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي
مع ذلك، وبالرغم من عدم وصول هذه الشخصيات إلى موقع القرار في بلدانهم، فقد استطاعت حملات المناصرة والتضامن أن تفرض مواقف متوازنة تجاه الصراع العربي الإسرائيلي على صنّاع القرار أنفسهم، منها تبني الرئيس الأميركي موقفًا متقدمًا من أحداث حي الشيخ جراح في القدس، والضغط على الحكومة الإسرائيلية لوقف التصعيد ضد الفلسطينيين.
لكن وبالنظر إلى الفعالية السياسية في دعم الحقوق السياسية للفلسطينيين، فلم يترجم هذا الرأي العام إلى تبني سياسات واضحة ببرامج عملية، بل لم يتعد ذلك مسايرة المزاج العام المستاء من الممارسات الإسرائيلية.
تاريخ النكبة في ظل التحديات التي يواجهها القائمون على حفظ الذاكرة الفلسطينية#قراءة_ثانية #75_ولم_ننس #فلسطين pic.twitter.com/y4uEYKQsbi
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 17, 2023
فحتى لو كان الرأي العام ضاغطًا للميل إلى الحقوق الفلسطينية، إلا أن الرواية الصهيونية لا تزال تفعل فعلها في وسائل الإعلام والثقافة الغربية المتبنية لسرديات المظلومية على مدار عقود، هذا إلى جانب التأثير السياسي المباشر لمجموعات الضغط واللوبيات التي تتدخل في صنع السياسات.
وفي ظل محدودية الموارد السياسية للفلسطينيين وغياب إستراتيجية موحدة للتأثير في الرأي العام العالمي، تتحمل المنظمات المدنية والمبادرات الشعبية مهمة التعريف بالقضية وفضح الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين.
أسباب تصاعد التأييد للقضية الفلسطينية في الغرب
وفي هذا الإطار، يوضح الكاتب الصحافي أسا ونستانلي، أن الإنترنت لعبت دورًا في تصاعد الأصوات الداعمة للقضية الفلسطينية، بحيث بات من الصعب على إسرائيل أن تغطي على جرائمها في الغرب، مضيفًا أنه منذ عشرات السنين كان هناك دعم يساري لإسرائيل، ولكن الآن يحصل العكس، بحيث أن الليبراليين بدورهم يدعمون القضية الفلسطينية بنسب كبيرة.
ويردف في حديث لـ"العربي" من لندن، أن مواقع التواصل الاجتماعي لها دور في دعم القضية الفلسطينية، وأن هناك مواقع أنشأها فلسطينيون، كمنى ومحمد الكرد اللذين يوثقان الحياة اليومية في فلسطين، وإجراءات الاحتلال، مشيرًا إلى أن هذا الأمر يصعب على الغرب إنكار هذه الأحداث الواقعية، حيث إن هناك ملايين الأشخاص حول العالم يشاهدون هذه المواقع.
لماذا طُردت الناشطة منى الكرد إحدى أهالي #حي_الشيخ_جراح، من جلسة لمجلس حقوق الإنسان؟#فلسطين @AnaAlarabytv pic.twitter.com/n5JLHq6VBi
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 28, 2021
ويرى ونستانلي أن الرواية الفلسطينية انتصرت على الرواية الإسرائيلية، بالنسبة للدعم في المملكة المتحدة وأوروبا وشمال أميركا من الناحية الشعبية، إلا أنه أشار إلى أن هذا الدعم لم يترجم على المستوى السياسي، ولم ينعكس على مستوى الحكومات والمسؤولين السياسيين.
وفي هذا الإطار، يوضح أن هناك سببين رئيسيين، الأول هو أن هناك عجزا من الناحية الديمقراطية في دول الغرب وفي شمال أميركا، التي تدعي بالديمقراطية، أما السبب الثاني هو الخوف من اللوبيات الإسرائيلية، مشيرًا إلى أن الخوف يتمثل باتهامات مناهضة السامية.
ويرى الكاتب الصحافي أسا ونستانلي أن وصول أحد مؤيدي القضية الفلسطينية إلى مركز صناعة القرار في بريطانيا أو الولايات المتحدة ليس مسدودًا، ولكنه قد يكون صعبًا للغاية، في ظل التغييرات البطيئة التي تحدث في العالم.
ويخلص إلى أنه يمكن لمؤيدي فلسطين الوصول إلى مركز صناعة القرار مع إرادة ورغبة سياسية كافية والاعتماد على المؤسسات الديمقراطية لإحداث تغيير مع مرور الوقت.