يشرح المدير السابق لمركز مكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية روبرت غرينيه كيفية التحضيرات التي سبقت عملية غزو العراق في مارس/ آذار عام 2003 داخل أروقة الإدارة الأميركية.
ويصف غرينيه في مقابلته مع برنامج "وفي رواية أخرى" ضمن الحلقة الثانية عبر "العربي" عودته إلى المقر الرئيس لوكالة الاستخبارات المركزية في أغسطس/ آب عام 2002 بـ"المثيرة"، حيث كان "يفترض الانتصار في الحرب في أفغانستان"، بحسب قوله.
الاستعداد للغزو
ويتحدث الضابط السابق في "السي آي أيه" عن تفاصيل الاجتماع مع مدير الوكالة جورج تينيت في ذاك الوقت الذي تحدث صراحة حينها أنه يمتلك "معلومات وافية" بشأن العراق.
ويقول غرينيه إنّ مدير الوكالة حينها "رجح أننا على وشك أن نغزو العراق رغم أنه أكد أنه لا يعلم موعد ذلك، لكن تخميناته اعتبرت حدوث ذلك في نهاية عام 2002 والواقع أن الغزو تم في مارس/ آذار 2003".
ويضيف أن تينيت طلب خلال الاجتماع أن يكون الجميع مستعدًا للغزو، لكن غرينيه يؤكد "أنه لم تكن هناك خطة جاهزة للغزو" في تلك الفترة.
وينقل الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أن تينيت "لم يكن متأكدًا من أن الأمور تسير باتجاه الغزو، وما لم يحدث أمر يقنعهم بأن صدام حسين لن يشكل تهديدًا بأسلحة الدمار الشامل فإن الحل سيكون عسكريًا" وفق ما اعتقده تينيت.
ويوضح أن مدير الـ"سي آي أيه" طلب منه أن يكون "المرجع الأساسي بشأن العراق وأن يحيط بكل ما تفعله الإدارة" في هذا البلد.
ويشير إلى جون بيرنان، الذي كان مديرًا لمكتب تينيت وأصبح في ما بعد مديرًا لـ"سي آي أيه"، هو الذي أشار على تينيت بتعيينه مديرًا للمهمة في العراق.
ويرى أنه كان من الممكن أن يمنع الكونغرس منح الترخيص لرئيس بغزو العراق وبالتالي استحالة فكرة الغزو، لكنه يوضح أنه "من غير الدقيق القول إن قرارًا اتخذ في أغسطس/ آب عام 2002 بغزو العراق".
ويقول: "لا يمكن انتظار أن تأتي الأشياء مجتمعة لكي تبدأ التحضير، وهناك سيكون خطأ جسيمًا إذا كنت تتوقع احتمال حدوثها فعليك الاستعداد".
"تبريرات" الغزو
وبشأن تبريرات الإدارة الأميركية في ذلك الوقت لغزو العراق، يشير غرينيه إلى أنه "قد قيل الكثير وثمة من يجادل وربما بشكل مقنع أن الإدارة ممثلة بالرئيس جورج دبليو بوش ونائبه ديك تشيني أدركت عدم وجود أسلحة دمار شامل، وبالتالي تعين تصميم المعطيات الاستخباراتية لتبرير الغزو"، لكنه يؤكد أن "ذلك لم يكن صحيحًا".
وفي ما يتعلق بعلاقة تنظيم القاعدة بنظام صدام حسين، وهي من التبريرات التي ساقتها الإدارة الأميركية في ذلك الوقت، يوضح الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أنه كان "هناك اجتماع في براغ ومن المفترض أنه جمع ممثلين عن المخابرات العراقية بأفراد من القاعدة".
ولفت إلى الكلمة الشهيرة لوزير الخارجية حينها كولن باول بالأمم المتحدة حيث "كانت الطريقة التي تحدث بها عن تلك المسألة مثيرة للاهتمام، فهو لم يقل صراحة إننا نعلم بوجود رابط بين المخابرات العراقية والقاعدة". ويضيف أن "كلمته لم تشر تحديدًا إلى الاجتماع المفترض".
ويؤكد غرينيه أن "سي آي أيه" خلصت في ذلك الوقت إلى عدم وجود مؤشر لحوار أو علاقة مباشرة بين القاعدة والنظام العراقي ومخابراته، إلا أنه يكشف أنه بعد أشهر عدة من استنتاج الوكالة "ظل ديك تشيني نائب الرئيس يعتقد بوجودها".
ويرى أن المسوغ الوحيد لدى الإدارة الأميركية في ذاك الوقت لغزو العراق كان يرتبط تحديدًا بـ"وجود أسلحة دمار شامل"، لكنه يؤكد أنه كان على اطلاع واسع بما يجري في البيت الأبيض وكان يشارك في جميع الاجتماعات التي تعقد بشأن العراق ما قبل الغزو وحتى يناير/ كانون الثاني عام 2004 وصولًا إلى "التمرد".
وفي هذا السياق، يؤكد غرينيه أن إحدى أكبر المشاكل وهي "حقيقة تاريخية تتعلق بمسألة الخداع الكبير على مستوى القيادة" داخل الإدارة الأميركية. ويقول: "المسؤولون البارزون في إدارة بوش لم يتباحثوا في جميع المسائل التي يتعين التباحث بشأنها حول غزو العراق".
ويشير إلى أن "الشخصيات الوحيدة التي كان لها قول مؤثر في غزو العراق هي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني"، لكنه يرى أن تأثير كونداليزا رايس حينها كان محدودًا.
"أسلحة الدمار الشامل"
وبالنسبة إلى مسوغات الحرب، يؤكد غرينيه أن "الإدارة الأميركية حينها لم تأبه كثيرًا لما إذا كانت تلك الأسلحة فاعلة أم لا. فمثلًا التقييم الاستخباراتي الشهير بشأن العراق الذي خلص إلى الاعتقاد بأن العراق ما يزال يملك أسلحة دمار شامل. البيت الأبيض لم يطلب إنشاء ذلك النظام بل الكونغرس الذي طلبه".
ويوضح أن رأي تلك الإدارة كان "يقوم على أن العراقيين يمتلكون الأسلحة الكيميائية حيث كانت البيانات متاحة من قبل المفتشين الدوليين بعد الحرب مباشرة الذين رأوا تلك الأسلحة ودمروها وكذلك كانوا على دراية بقدرات تصنيعها في العراق".
ويقول: "كان هؤلاء أيضًا على معرفة بوجود عمليات تهدف إلى صناعة سلاح نووي على الرغم من أن العراق لم يكن قد صنع سلاحًا نوويًا في ذلك الوقت".
ويضيف: "العراق امتلك برنامجًا متقدمًا فككته الأمم المتحدة". ويوضح في هذا الإطار أن "المسألة الأساسية تمثلت في الإمكانية المعرفية" حول بناء برنامج نووي متكامل.
ويتحدث أنه "إذا كان لديك الخبراء والعلماء الذين تمكنوا من تطوير برنامج لمرة واحدة فإن بوسعهم تكرار ذلك إذا أفسح لهم المجال".
وبحسب رأيه، فإن تلك النقطة هي الأساسية في "التوجس" لدى الإدارة الأميركية في تلك الفترة بخاصة أنه في "حال رفع العقوبات فيجد عندها صدام حسين لديه القدرة والمعرفة" لإعادة البناء من جديد.
لا خطط ما بعد الغزو
وينفي المدير السابق لمركز مكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية روبيرت غرينيه "عدم وجود أي حسابات لإعادة البناء في العراق" ما بعد الغزو.
ويلفت إلى أن وزارة الخارجية الأميركية أعدت حينها برنامج واسع اسمه "مستقبل العراق" شمل الكثير من العراقيين بمن فيهم الخبراء الذين وضعوا الخطط بشأن كيفية ترتيب الحكومة والعملية السياسية.
لكنه يوضح أن نائب الرئيس ووزير الدفاع تجاهلا مساعي وزارة الخارجية وقد أجريا الكثير من النقاشات الداخلية بشأن البناء السياسي وما الذي يتعين فعله بعد الانتهاء من الغزو وإسقاط صدام، إضافة إلى طبيعة الحكومة التي يجب تشكيلها.
ويؤكد أنّ الاختلافات "كانت عميقة جدًا بما في ذلك وجهتا نظر نائب الرئيس ووزير الدفاع اللذين أرادا تشكيل حكومة في المنفى وقد حدث ذلك فعلًا، إذ أسست المعارضة تجمعًا تحت اسم المؤتمر الوطني العراقي من بين الشخصيات العراقية كان أحمد الجلبي".
ويشير إلى أنّ وكالة الاستخبارات المركزية "كانت ضد الجلبي تمامًا لجملة من الأسباب"، ويذكر أنه في ذلك الوقت "اعترض شخصيًا على هذه الفكرة في اجتماعات مجلس الأمن القومي وجادل بثبات ضدها حيث لم تفلح الإدارة في المضي قدمًا بها"، حسب قوله.
ويروي غرينيه أن وزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية ومجلس الأمن القومي بمن فيهم زلماي خليل زادة الذي كان مشاركًا في التخطيط لإعادة بناء العراق سياسيًا "كانت فكرتهم تقوم على عقد عدد من الاجتماعات الإقليمية تشارك فيها شخصيات بارزة من المنطقة تقوم على اختيار ممثلين عن المكونات الدينية والسكانية الذين بدورهم سيشكلون ما يشبه هيئة وطنية تتقلد زمام الأمور وتشرع في تشكيل حكومة انتقالية وصولًا إلى وضع دستور للبلاد وما إلى ذلك".
أحمد الجلبي.. "التقاء المصالح"
ويصف غرينيه أحمد الجلبي بأنه "كان معارضًا بارزًا لصدام حسين" حيث كانت السياسة الأميركية في عهد إدارة بيل كلينتون تقوم على فكرة العمل على تغيير النظام في العراق وإسقاط نظام صدام حسين، إضافة إلى تقديم وكالة الاستخبارات المركزية الدعم للمعارضين بمن فيهم أحمد الجلبي.
ويلفت إلى أن علاقة الـ"سي آي آيه" بدأت مع أحمد الجلبي منذ تأسيسه للمجلس الوطني الانتقالي، حيث "التقت المصالح الأميركية معه".
ويشير إلى أن للجلبي علاقات مختلفة مع الإدارة الأميركية في ذاك الوقت، لكن "ربما العلاقة الأهم بالنسبة إلى غزو العراق كانت تلك التي جمعته بنائب الرئيس ديك تشيني الذي كان مقتنعًا بخطط الجلبي ويعتبره بأنه ديمقراطي عظيم".
ويوضح أن العلاقة بين الجلبي وفريق نائب الرئيس الأميركي وقتذاك ديك تشيني بدأت كـ"علاقة وطيدة" بين عامي 2001 و2002. ويبين أنه حينها كان لدى وكالة الاستخبارات الأميركية "صورة أعمق لشخصية أحمد الجلبي الذي لم نر أنه شخص صادق".
كيرفبول.. معلومات مفبركة
ويكشف الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أنه كان في تلك الفترة "وجود مصدر مهم جدًا للمعلومات والتي تبين لاحقًا أنه كان يفبركها ويعرف بلقب كيرفبول" وهو رافد علوان الجنابي الذي كان حينها طالب لجوء في ألمانيا.
ويوضح غرينيه أن السي آي أيه "لم تكن على اتصال مباشر معه، بل كان الاتصال بين المخابرات العسكرية بالتنسيق مع الألمان".
ويشير إلى أنه حين "وصلت التقارير التي فبركها والتي أشارت إلى ما يفترض وجود مخابر بيولوجية متحركة يمكن استخدامها لصنع أسلحة بيولوجية وقد كانت بحوزته التصاميم ومعلومات الأجهزة والعربات وما إلى ذلك".
ويرى أن قصة كيرفبول "كانت شديدة الإحكام، حيث كان من الصعب التثبت مما إذا كانت صحيحة أم لا". ويؤكد أن وكالة الاستخبارات لم تكن على تواصل مباشر معه حيث كان الألمان لا يرغبون في ذلك.
ويعتبر أن الإدارة الأميركية "لم تشكك في ذاك الوقت بمعلوماته التي قدمها" وأنه "تبين بعد ذلك علاقته بالمجلس الوطني الانتقالي بما يعني علاقته بأحمد الجلبي والجسم السياسي الذي أسسه".
بول بريمر.. حاكم العراق
ويؤكد أنه حين وقع الغزو لم تكن هنالك خطة أميركية "متفقًا عليها بشأن إعادة البناء السياسي" في العراق حيث كانت "الإدارة في صراع داخلي وكان هناك الكثير من الارتجال".
ويلفت إلى أنه "حين بدأت الوكالة ووزارة الخارجية سلسلة الاجتماعات التي تم التخطيط لها لإنشاء حكومة وطنية تحظى بالقبول قوبلت تلك الخطة بالرفض القاطع من قبل نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد".
كما يشير إلى أنه "حين عين بول بريمر حاكمًا عامًا للعراق لم يعلم أحد كيف اتخذ ذلك القرار". لكنه يوضح أن القرار "صدر بالمقام الأول من قبل الوزير رامسفيلد". ويقول: "إذا كانت هناك صلة بين بريمر ورامسفيلد فجميعنا لم يكن يعلم من هو بول بريمر".
ويبين أن "بريمر كان بمثابة دكتاتور جديد في العراق، حيث مُنح كامل الصلاحيات" من قبل الرئيس جورج بوش في تلك الفترة. ويؤكد أن الفريق العامل في العراق "اتضح له حينها أن الوزير رامسفيلد حسم الأمر له بعد السجالات التي خاضوها معه".
ويرى غرينيه أن "تعيين بول بريمر سببه أنه لم يكن يعلم أي شيء عن العراق وبالتالي يسهل التحكم فيه".