لم تُروَ حتى الآن كلّ خفايا معركة نهر البارد، تلك المعركة التي بدأت في مايو/ أيار 2007، في زقاق يعيش فيه أكثر من 30 ألف لاجئ فلسطيني شمالي لبنان.
دارت رحى المواجهات التي امتدّت لأكثر من 6 شهور بين الجيش اللبناني وما عُرف بتنظيم فتح الإسلام، الذي كان قد تشكل حديثًا على يد شاكر العبسي.
وفي حين بقيت تفاصيل الأحداث غامضة ومعقدة، إلا أن معركة نهر البارد التي استمرت بين 20 مايو و3 سبتمبر/ أيلول 2007، خلّفت 166 قتيلًا من الجيش اللبناني و220 قتيلًا من فتح الإسلام بحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش".
كما أدت إلى مقتل 40 مدنيًا، ولا يزال الكثير من منازل المخيم بانتظار إعادة الإعمار.
كيف دخل "فتح الإسلام" مخيم نهر البارد؟
قبل أن تشتعل معركة نهر البارد، دخل تنظيم فتح الإسلام المخيم من أبواب الدولة الواسعة بلا رقيب أو حسيب، فأخضع المخيم وسكانه لسطوته.
حينها، نفذ التنظيم هجمات ضد الدولة والجيش اللبناني قتل فيها العشرات، قبل أن يتسبب بحرب مع الجيش كلّفت عشرات الضحايا ودمر فيها مخيم نهر البارد على رأس ساكنيه.
ووفق مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان - شاهد محمود حنفي، فإن مخيم نهر البارد يقع على ضفاف نهر البارد، ويُعد عاصمة المخيمات في شمال لبنان.
ويقول حنفي إن المخيم يتميّز بكونه ضم الكثير من رجال الأعمال الفلسطينيين، وعُد السوق الرئيسي لشمال لبنان بأكمله ولا سيما منطقة عكار.
من ناحيته، يوضح العميد المتقاعد في الجيش اللبناني جورج نادر أن تنظيم فتح الإسلام تسلّل إلى نهر البارد فرادة وجماعات حاملًا تمويلًا خارجيًا، وتمكن خلال وقت قصير من السيطرة على المخيم تارة بالترهيب وتارة أخرى بالترغيب.
ويقول إن التنظيم عزل المخيم عن محيطه، فتكون لدى الرأي العام أنه منظمة إرهابية لا علاقة لها بالإسلام كما يدعون، وبدأت على الأثر مراقبته عملانيًا ومخابراتيًا وسياسيًا.
من جانبه، يذكر مسؤول الجبهة الديمقراطية في مخيم نهر البارد مصطفى أبو صطيف بدر، أن التنظيم لم يكن يتعاطى مع الناس اجتماعيًا فالدعوة داخله لم تكن ضمن مهامه، بل التجمع فيه لتحقيق هدفه وهو تدميره.
ويشير إلى وقوع عدة إشكالات من جانبه مع أبناء المخيم قبل الاعتداء على الجيش وبدء المعركة، لافتًا إلى تدخل عدد من المشايخ والفعاليات في ذلك الوقت لتهدئة الوضع.
فتح الإسلام وسجون النظام السوري
تشكل تنظيم فتح الإسلام بطريقة غريبة وتمدّد وتوسع نفوذه سريعًا، واضعًا العديد من علامات الاستفهام على الدور الذي سيلعبه لاحقًا.
فقبل خروجه للعلن بعام تقريبًا، خرجت القوات السورية من لبنان، وبدا للمراقبين أن الخروج السوري ودخول التنظيم الذي ترعرع قائده في سجون نظامه كانا مشهدًا واحدًا وإن اختلفت فصوله.
وفي هذا الصدد، يقول المدير العام السابق لقوى الأمن النائب اللواء أشرف ريفي: "تبين لنا أن أغلب قيادات التنظيم خرجت من السجون في سوريا قبل انتهاء مدة محكوميتها"، مذكرًا في الآن عينه بأن "النظام السوري متشدد وغير متسامح".
ويقول: "علمنا لاحقًا عبر معلومات مخابراتية أن مجموعة كانت قد اتجهت إلى العراق ونفذت بعض العمليات في بغداد، وبعدما عادت إلى سوريا أعيد تدريبها ثم دخلت إلى لبنان واستقرت في مخيم نهر البارد".
ويضيف: "ظهر لنا أن هناك نية حكمًا لدى النظام السوري لإقامة إمارة إسلامية في لبنان، ليقدم نفسه على أنه الوحيد القادر على تثبيت الاستقرار ومنع التطرف والتشدد، فيما كان هؤلاء رجالاته".
من ناحيته، يشرح العميد المتقاعد في الجيش خليل الحلو أن "التنظيم تمركز في بادئ الأمر في مخيم شاتيلا بعد انتهاء حرب 2006 (التي شنتها إسرائيل على لبنان)، وبينما لم يكن مرحبًا به في شاتيلا انتقل إلى الشمال عله يجد بيئة مناسبة".
ويوضح أن التنظيم "تمركز في مخيم نهر البارد الذي يعد ثاني أكبر مخيم فلسطيني في لبنان، وقطنه بين 30 و40 ألف نسمة"، واصفًا المخيم بأنه "مسالم ويتعاطى التجارة الشرعية وغير الشرعية، وتتقاسم النفوذ فيه عدة تنظيمات فلسطينية".
وبينما يلفت إلى أن "التنظيم حاول في ذلك الوقت التمدد أيضًا نحو مخيم البداوي على أبواب مدينة طرابلس"، يقول إنه "طرد من البداوي بالتزامن مع إعلان حركة فتح الإسلام في أكتوبر/ تشرين الأول 2006".
من جهتها، تستذكر مديرة النجدة في مخيم نهر البارد نوال حسن، أن سكان المخيم لم يتقبلوا عناصر التنظيم وأنهم كانوا يخافونهم، حتى في فترة المعركة لم يتجرأوا على الكلام معهم وتواروا في المنازل".
من يقف خلف "فتح الإسلام"؟
إذًا، دخل التنظيم إلى مخيم نهر البارد وسط رفض السكان، وبدأ قلق الأهالي يتصاعد وبدأت تطرح التساؤلات عن أهداف التنظيم ومن يقف خلفه وإلى أين يمكن أن يوصل المخيم بمشروعه.
ويتحدث الصحافي ومدير تحرير موقع التحري نيوز عمر ابراهيم عن لقاء جمعه في تلك الفترة بقائد فتح الإسلام شاكر العبسي، مشيرًا إلى استغرابه من اختياره شخصيًا من بين الصحافيين لهذا الأمر.
ويقول إنه وصل يومها إلى المخيم وشاهد انتشارًا مسلحًا في محيط موقع صامد ومركز التعاونية، وإنه التقى في ذلك اليوم العبسي وتعرّف إلى المسؤول الإعلامي في التنظيم أبو سليم طه.
ويستطرد بأنه مُنع من استخدام آلة التسجيل أو الكاميرا، في حين طُلب إليه تسجيل الملاحظات عن أهداف التنظيم. ويوضح أنه انسحب بعدما حصل منهم على المطلوب.
كبر تنظيم فتح الإسلام داخل أزقة مخيم نهر البارد وأخذ ينفذ هجمات ضد الدولة اللبنانية. وقد بدا المشهد أنه يريد استدعاء الجيش للدخول في مواجهة عسكرية، حيث استهدف حافلتَي ركاب موقعًا عددًا من المواطنين بين قتلة وجرحى.
كما قام باقتحام مصارف وتحصّنت مجموعات منه في أكثر من مكان سري في طرابلس لتنفيذ هجمات ضد الجيش اللبناني.
ويشير مستشار الرئيس الأسبق ميشال سليمان بشارة خير الله، إلى أن المجموعات التي حطت رحالها في مخيم نهر البارد لاعتباره - برأيهم - خزانًا سنيًا ومحميًا يمكنهم تنظيم أنفسهم داخله، اكتشفت بعد الهجوم على العسكريين في بلدة المحمرة أن الاحتضان الشعبي، السني تحديدًا، للجيش اللبناني أهم بكثير من أن يراهنوا عليه ليحتضنهم.
ويستعيد العميد المتقاعد في الجيش خليل الحلو، الهجوم على مراكز اللواء الخامس للجيش اللبناني عند تخوم مخيم نهر البارد. ويقول إن 27 عسكريًا قُتلوا في ذلك اليوم ولم يكونوا في وضع قتالي.
اللاجئون الفلسطينيون ضحايا الصراع
أمام هذه الوقائع التي توسّعت دائرتها، قررت الدولة اللبنانية مواجهة التنظيم واختارت أن تواجهه بقوة عسكرية كبيرة.
لكن المشهد العسكري انعكس بشكل مباشر على اللاجئين الفلسطينيين في المخيم، فوقعوا ضحية هذا الصراع.
وبحسب مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان - شاهد محمود حنفي، كان المشهد الإنساني في معركة نهر البارد يغلب على العمليات العسكرية، فالفلسطينيون الذين كانوا يعيشون في أمن وأمان وبحبوحة اقتصادية قُتل منهم من قُتل ونزح منهم من نزح.
ويقول حنفي إن من نزحوا خرجوا إلى بيئة كانت في الماضي القريب تعتبرهم أصدقاء وأنسباء، قبل أن تعدهم في لحظة أعداء، لأن معظم العسكريين الذين قتلوا من الجيش اللبناني كانوا ينتمون إلى منطقة الشمال.
بدوره، يقول المسؤول السياسي لحركة حماس في مخيم نهر البارد عبد الرحيم أحمد الشريف: "تفاجأنا بالمعركة، والمخيم كان في حالة ذهول، حيث لم يكن هناك مشاكل بين أبناء المخيم والجيش".
ويلفت إلى أن "القصف على مخيم نهر البارد كان صادمًا، ولا سيما في الساعات الأولى بعدما سقط أكثر من شهيد من أبنائه.. ثم للأسف الشديد راحت الأمور تأخذ طابعًا تصاعديًا".
خفايا معركة نهر البارد
طوّق الجيش اللبناني مخيم نهر البارد من جميع الجهات، وكان القرار حاسمًا في القضاء على الإرهاب، حيث استنفرت الوحدات والألوية وأرسلت القيادة نخبة ضباطها إلى محيط المخيم بدعم عربي علني من معظم الدول العربية، التي أيّدت لبنان وحقه في الحفاظ على أمن أراضيه وسلامة مواطنيه.
ويوضح العميد المتقاعد في الجيش جورج نادر، أنه "في مرحلة احتواء المخيم القديم كان لدى الجيش قرار صارم بعدم دخوله عملًا بالعرف السياسي اللبناني القائم منذ لجوء الأخوة الفلسطينيين إلى لبنان".
وبينما يشرح أن العرف مفاده "ترك المخيمات الفلسطينية تتدبر شؤونها بنفسها"، يلفت إلى أن "رفض العصابة كل محاولات تسليم القتلة والحوار مع هيئات دينية وسياسية لتسليم السلاح، أجبر الجيش على احتلال المخيم القديم، وهناك كانت الصعوبة التامة".
لكن مدير المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان - شاهد محمود حنفي، الذي يلفت إلى أن "التبريرات التي قدمت لبدء الحرب ربما كانت في المعنى التكتيكي صحيحة وسليمة، لأن الجيش فقد في ذلك الوقت عناصر كثر قُتلوا بطريقة بشعة، بينما لجأ القتلة إلى مخيم نهر البارد، فأصبح الجيش اللبناني أمام ضغط الرأي العام"، يقول إن القرار كان خاطئًا على المدى البعيد.
ويرى أن المسألة لو تركت بالتفاهم بين الجيش والقوى الفلسطينية لوقت أطول نسبيًا لربما عولجت بطريقة تحفظ للجيش عساكره وجنوده وللمخيم وسكانه حياتهم ومنازلهم.
ويتوقف عند "القصف العسكري في ذلك الوقت الذي كانت فيه الكثير من الشدة؛ حيث ألقيت براميل متفجرة على أحياء هشة ودمر المخيم تدميرًا شديدًا".
ويشير في الآن عينه إلى أن "أولئك الذين دخلوا المخيم بطريقة ملتبسة وغامضة، خرجوا أيضًا بطريقة ملتبسة وغامضة".
فبعد انتهاء المعركة بقي اختفاء شاكر العبسي لغزًا، وتضاربت المعلومات حول مصيره إن كان قد قُتل أو فر إلى أحد المخيمات في المنطقة.