في الثاني من أغسطس/ آب عام 1990، شقّت الآليات العراقية التابعة للحرس الجمهوري طرقها نحو الكويت لغزوها.
الخطوة التي عُدت خطيئة صدام حسين المأساوية، دفع ثمنها العراق حصارًا وسيادة، والعرب فرقة وتشتتًا، منذ صيف العام 1990 إلى حين سقوط صدام ونظامه.
وتلك الخطوة لم يعرف عن تفاصيلها حتى أقرب القادة العسكريين والسياسيين إلى صدام، فخلال ساعات وصلت القوات العراقية إلى عاصمة الكويت وانسحب قادة الكويت نحو السعودية خلاصًا من خطر الأسر أو الاغتيال.
حينها، ادّعت القيادة العراقية دخولها لتحرير الكويتيين من نظامهم نزولًا عند طلب "الثائرين منهم"، وقال صدام إنّ الوقت قد حان ليعود "الفرع" قاصدًا الكويت، إلى "الأصل" قاصدًا أرض العراق.
وبينما أعلن الكويتَ محافظة تاسعة عشر للعراق، استمرّ الغزو العراقي للكويت سبعة أشهر، مخلفًا مئات القتلى والأسرى، وخسائر قُدّرت بمليارات الدولارات. ولم ينتهِ إلا بتدخل عسكري عربي وأجنبي، أجبر القوات العراقية على الانسحاب.
لكن ماذا عن الأجواء التي سبقت الغزو العراقي للكويت؟
باستعادة المشهد، جلس على طاولة اجتماعات في مقر صغير متنقّل أقيم بالقرب من الحدود العراقية-الكويتية، قائد في الحرس الجمهوري العراقي يقابله الفريق الركن رعد الحمداني قائد اللواء المدرّع 17 في الحرس الجمهوري.
وبينما توسط الرجلين مصحف، أمر قائد الفرقة الحمداني بأن يحلف عليه، لكتمان سرّ كبير: "ستغزو قواتنا الكويت".
وكان الحمداني تلقى قبل أيام قليلة أمرًا عسكريًا شديد الغموض من قيادة الحرس الجمهوري لإرسال لوائه إلى جنوب غرب البصرة قرب الحدود الكويتية، أسوة بألوية أخرى.
فقبْل أقل من سنتين توقفت حرب الخليج الأولى ولا يحتمل العراق حربًا أخرى. وكان أقصى ما توقعه الضباط مناورة سياسية تضغط على الكويت، في سياق صراع سياسي ودبلوماسي مستمرّ منذ أشهر.
وبعد حوالي أسبوعين من ذلك التاريخ، التاسع عشر من شهر يوليو/ تموز 1990، لم يكن أمام رعد الحمداني خيار سوى أن يضع خطّة سريعة لغزو جيرانه في الكويت بغتةً في حرب خلّفت سلسلة من الأزمات، تدفع المنطقة ثمنها إلى اليوم.
الغزو العراقي للكويت بعد صراع عنيف
والعام الذي سبق الغزو العراقي للكويت ازدحم بالتقلّبات والاتهامات المتبادلة، حيث بدأ كل شيء مع نهاية فصول صراع آخر عنيف.
فبعدما خرج منتصرًا من حرب دامية مع إيران، احتفى الإعلام الغربي بالجيش العراقي وقوته، وتوافد العرب أفواجًا للتهنئة.
أما الرئيس العراقي صدّام حسين، وعلى الرغم من زهوّه بهذا الصيت، إلا أنه كان يدرك فداحة الخسارة ويشكوها للمهنّئين.
فعلى طول جبهة شاسعة، استمرت الحرب ثماني سنوات بكلفة بشرية واقتصادية باهظة. وبعد أن كان العراق غنيًا بفضل عائدات النفط، صار مدينًا بعشرات مليارات الدولارات.
وفي هذا الصدد، يلفت جوزيف ساسون، أستاذ التاريخ والاقتصاد السياسي للشرق الأوسط في جامعة جورجتاون، إلى الانهيار الذي شهده الاقتصاد العراقي، وهبوط أسعار النفط بشكل فظيع.
وبحسب حيدر سعيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فإن الحرب العراقية الإيرانية شهدت تفاوتات صعودًا وهبوطًا، حيث تعرض الجيش العراقي في بعض الأحيان لهزائم كما في العام 1982 في المحمرة وفي العام 1986 في الفاو.
ويردف بأنه بعد تحرير الأخير ورضوخ الإيرانيين لوقف إطلاق النار بدا كأنما الحرب انتهت بنصر عراقي.
المشهد السياسي في الكويت وعلاقته بالغزو
على الجانب الآخر، كانت الكويت تعيش أجواءً مختلفة، إذ رأى قادتها أنهم دعموا صدام حسين بكل ما يستطيعون وعرّضوا أمن بلادهم للخطر، في الوقت الذي كانت فيه البلاد تعيش أزمات سياسية داخلية.
وبرأي أستاذ التاريخ في جامعة الكويت علي الكندري، شجع المشهد السياسي داخل الكويت الجانب العراقي على الدخول إلى الكويت، والقول إنه دخل من أجل تحريرها من السلطة السياسية التي كانت موجودة.
ويشدد على أن القراءة تلك كانت خاطئة بالتأكيد، لافتًا إلى أن الخلاف السياسي لا يصل إلى استبدال وتبديل النظام بآخر.
ودونًا عن معظم الجيران والحلفاء، تأخّرت تهنئة الكويت أشهرًا بعد الحرب؛ صارت خلالها نظرة القيادة العراقية غائمة تجاهها، ثمّ تأرجحت العلاقة بين توجّس وارتياح.
ففي فبراير/ شباط من عام 1989، قرّر ولي عهد الكويت الشيخ سعد العبد الله زيارة العراق، لكنّه تفاجأ في صباح يوم الزيارة بمقال هجوميّ في صحيفة "القادسية" التابعة لوزارة الدفاع العراقية.
وبينما تمت الزيارة على الرغم من التحفظ الكويتي، ادّعى صدام في اللقاء عدم علمه بأمر المقال.
كانت الحادثة مربكة، فقد ظنّ الكويتيون أنّهم أدّوا واجبهم عندما مدّوا العراق بمليارات الدولارات خلال مهمة عُرفت بـ"حراسة البوابة الشرقية للعرب".
ويشير مبارك الدويلة، النائب السابق في مجلس الأمة الكويتي، إلى أن الكويت فتحت في تلك المرحلة موانيها لكل البضائع العراقية والأسلحة القادمة إلى العراق.
ويلفت إلى أن مجلس الأمة الكويتي أقر في الثمانينات في أسبوع واحد اعتماد 6 مليارات دولار دعمًا للعراق الشقيق في حربه مع إيران.
وتظهر وثيقة مبكرة قرارًا كويتيًا يقضي بإقراض العراق ملياري دولار مع خطّة سداد مدتها عشر سنوات.
وخلال الحرب، تتالت قروض دول الخليج العربي للعراق، وقُدّرت بتسعة وأربعين مليارًا في نهايتها. فالخليجيون الذين قالوا إنّهم بدعمهم العراق وضعوا أمن بلادهم في مرمى الخطر رأوا أنه نداء العروبة وأمنُ الأمّة.
ويعتبر سفير أميركا السابق في الكويت عام 1991 إدوارد غنيم، أن العامل المهم في فهم الدور الذي لعبته الحرب العراقية الإيرانية على تفكير صدام هو المجال الاقتصادي.
سياسة العراق في التعامل مع الكويت
في سبتمبر/ أيلول من عام 1989، دُعي أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصُباح إلى بغداد.
صدام الذي قال إنّ الأمير جابر رجل شجاع وقومي وإنهما إخوة.. عائلةٌ واحدة في دولتين مستقلّتين، منح الأمير وسامَ الرافدين وهو أرفع الأوسمة العراقية، بينما تقلّد صدّام قلادة مبارك الكبير.
مع ذلك، لم تكن سياسة القيادة العراقية في التعامل مع الكويت محسومة، حتى تختبر استعداد الكويت لتقديم المزيد من العون والتسهيلات.
في شهر شباط من العام التالي، توجّه وزير خارجية الكويت في ذلك الوقت صباح الأحمد الصُباح إلى بغداد، حيث التقى نائب صدام حسين للشؤون الاقتصادية سعدون حمادي، الذي كان واحدًا من أهمّ سياسيي العراق وقادة بعثه.
وبحسب حيدر سعيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كان حمادي الاقتصادي الوحيد تقريبًا في القيادة العراقية، ويكاد يكون أول عراقي انتمى إلى حزب البعث، وأدار الملف النفطي لفترة طويلة، ثم عُين وزيرًا للخارجية بين العامين 1974 و1983.
بالعودة إلى اللقاء، كان الأمل معقودًا عليه لحلّ أزمة عالقة منذ عقود، تتعلّق بترسيم نهائي للحدود بين البلدين.
لكن الوزير الكويتي لم يجد بغدادَ التي زارها الأمير قبل فترة قصيرة؛ فقد انقلبت الأمور، حيث لم تتّسم نبرة الطرفين بالودّ بل بتصعيد حذر.
ففي ذلك اليوم، أصرّ حمادي على إقناع الكويت بتوقيع اتفاقية أمنية ثنائية، ما يفضي إلى تسهيلات عسكرية على الحدود، بينما ظلّ الموقف الكويتي ثابتًا على أولوياته، بحسب محضر اجتماعهما في الثامن عشر من فبراير عام 1990.
وفي الشهر التالي للقاء حمادي والصُباح، أكدّت الكويت رفضها لطرح الاتفاقية الأمنية الثنائية مع العراق، ودعت إلى ترسيم نهائي للحدود المتفق عليها منذ ستينيات القرن العشرين، لإغلاق ملفّها المفتوح منذ أمد.
مسألة الحدود بين العراق والكويت
والحدود مسألة مؤجّلة ومتعثرة، أبقتها بعض القيادات العراقية معلّقة لعقود. فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، خضعت الكويت لحماية البريطانيين، وفقًا لاتفاقية وقّعها معهم الشيخ مبارك الصباح.
أراد الصُباح وقف مدّ العثمانيين الذين تولّوا مدن العراق من البصرة جنوبًا إلى الموصل شمالًا. كما سعى من خلالها لحماية ظهره من بعض القبائل المنافسة.
وفي حين رُسّمت الحدود الكويتية العراقية لأول مرة عام 1913 نتيجة اتفاقية بين بريطانيا والدولة العثمانية إلا أن الاتفاقية لم تُصدَّق، إذ وقعت الحرب العالمية الأولى بعد نحو عام، وكان العثمانيون والبريطانيون أعداءً فيها.
في عهد الهاشميين، وبينما سعى العراق للانضمام إلى عصبة الأمم عام 1932، أرسل رئيس وزرائه نوري السعيد كتابًا إلى أمير الكويت أعاد فيه التأكيد على تبعية جزر وربة وبوبيان وفَيلكا وغيرها من الأراضي للكويت، وتبعية سفوان وجبل سنام وغيرها من الأراضي للعراق، فردّ أمير الكويت على رسالة السعيد مقرًا بهذا التقسيم.
وظلّ الحذر يسود العلاقة بين الطرفين، ولم تتوقف القيادة العراقية عن ادّعاء تبعية الكويت أو جزء منه على الأقل للعراق.
وبعد انقلاب العام 1958 على العهد الملكي الهاشمي، سار قادته على النهج نفسه في المطالبات بتبعية الكويت التي استقلت عن الحماية البريطانية في 19 يونيو/ حزيران عام 1961.
وبعد أقل من أسبوع، عقد رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم مؤتمرًا صحافيًا أعلن فيه الكويت قضاء تابعًا لمحافظة البصرة وتعيين أمير الكويت آنذاك الشيخ عبد الله السالم بوظيفة "قائم مقام" براتب قدره 85 دينار.
وفي حين انضمت الكويت إلى الأمم المتحدة عام 1963، إلا أن مسألة الحدود بقيت غير محسومة؛ يورثها جيل سياسي لآخر حتى عام الغزو.
وفي هذا الشأن، يتوقف أستاذ التاريخ والاقتصاد السياسي للشرق الأوسط في جامعة جورج تاون جوزيف ساسون، عند توصيف الكويت في الخطاب الرسمي العراقي في ثلاثينيات القرن الماضي وفي عهد عبد الكريم قاسم، والذي تم التأكد فيه أن الكويت جزء لا يتجزأ من العراق، حتى أنه تم تدريس ذلك في المدارس.
شكوك صدام وعلاقته بالأميركيين
في أبريل/ نيسان من عام 1990 كان قد مضى شهر آخر على اجتماع وزير خارجية الكويت بسعدون حمادي في العراق، غير أن الأخير عاد برسالة جديدة ليست مرتبطة بالحدود ولا بالاتفاقية الثنائية الأمنية، بل بطلب دعم لميزانية العراق بقيمة 10 مليارات دولار.
حينها، ردّ أمير الكويت بحزم بأن المبلغ غير متوفر، حتى أنه يتجاوز موازنة الكويت السنوية. فازداد شعور صدام حسين مرارة ممّا اعتبره نكران الأشقاء، أو هذا ما أراد إظهاره لمحيطه العربي.
بالنسبة له، فإنّ دماء العراقيين سالت دفاعًا عن حِمى العرب، ولولاه لطالتهم أطماع إيران الثورة، وما عاد خليجهم موجودًا. والآن، حان الوقت لسداد دينهم الكبير للعراق، لا أن يسدّد العراق ديونه المتراكمة.
هكذا صارت شكوك صدام تجاه الكويت والأميركيين وأصدقائهم في الخليج العربي أكثر جلاء.
ويقول النائب السابق في مجلس الأمة الكويتي مبارك الدويلة، إن "العراق بعدما قرر الغزو بدأ التصعيد"، مشيرًا إلى آلة العراق الإعلامية الرهيبة في ذلك الوقت، والتي قال إنه لا يشك بأنها كانت تسيطر على بعض أجهزة الإعلام داخل الكويت".
ومن مؤتمر مجلس التعاون العربي في العاصمة الأردنية، الذي تأسس عام 1989 بمبادرة من العراق كغريم لمجلس التعاون الخليجي، اتهم صدام حسين في كلمته الولايات المتحدة بالطمع في مقدّرات المنطقة ومصيرها.
ورأى أنّ السبب المُعلن الذي احتشدت له الأساطيل الأميركية في الخليج العربي قبل سنوات، كان حماية المنطقة من إيران أثناء الحرب، وأنّ استمرارها بالبقاء لم يعد مبررًا.
وقد جاءت كلمة صدّام في فبراير/ شباط من عام 1990، بعد أيام قليلة من الاجتماع المتعثّر بين سعدون حمادي والشيخ صُباح الأحمد، وبالتزامن مع تحريض وسائل إعلام أميركية ضدّ أنظمة ديكتاتورية في المنطقة، من ضمنها نظام صدام، والذي تبعه تقرير للخارجية الأميركية ينتقد الحكومة العراقية وممارستها للتعذيب.
مع ذلك، حاولت الإدارة الأميركية احتواء الموقف كي لا تخسر العراق، وتكررت زيارات مسؤولين وشخصيات أميركية لطمأنة صدام حسين، لكنّها لم تكبح جماح شكوكه فصارت خطاباته تهديدية.
ويلفت إدوارد غنيم، سفير أميركا السابق في الكويت، إلى اجتماع جمعه وصدام حسين رفقة مساعد وزير الخارجية جون كيلي وسفيرة بلاده في بغداد، ويقول إن أول نقطة أوضحها كيلي أن الرئيس الأميركي طلب إبلاغ صدام مباشرة برغبته في تكوين أفضل العلاقات الممكنة معه ومع العراق.
ويردف بأن "صدام مال إلى الأمام قليلًا، وقال: لا أعتقد أني أصدق أن هذا صحيحًا..".
وفي كلمته بعمّان، صرّح الرئيس العراقي بامتلاكه سلاحًا كيميائيًا مزدوجًا منذ فترة، وهو سلاح لا يمتلكه سوى الأميركيين والسوفييت. وقال إنه على استعداد لاستخدامه ضد إسرائيل إن استهدفت منشآت العراق العسكرية بأسلحة ذرية.
وفي ظلّ هذا التصعيد، وصلت إلى العراق مجموعة من أعضاء الكونغرس الأميركي، على رأسها السيناتور الجمهوري روبرت دول، موفدة من جورج بوش الأب.
اجتمع الوفد مع الرئيس العراقي في مدينة الموصل. وخلال الجلسة، أعاد صدّام التأكيد على أنه أعطى توجيهات لقواته بالاستعداد لإطلاق السلاح الكيماوي تجاه إسرائيل إن هي بادرت باستخدام قوتها الذرية ضده. فأثارت هذه التهديدات رعب الأميركيين أكبرِ داعمي إسرائيل.
وبحسب السفير الأميركي السابق إدوارد غنيم، عرض صدام حسين على وفد الكونغرس صورة له نشرتها مجلة نيوزويك الأميركية في الصفحة الأمامية مرفقة بمرثية أو ما شابه أو ذكرت أنه أسوأ ديكتاتور في العالم، وتلك كانت ملاحظة مهينة للغاية.
ويوضح أن "أعضاء الكونغرس حاولوا أن يشرحوا له أن الحكومة الأميركية لا تسيطر على المجلة ولا على الصحف، فلم يصدقهم حيث لم يكن يعرف كيف تجري الأمور في الغرب.." وفق غنيم.
وقبل أسبوع من انعقاد قمّة بغداد في أواخر مايو/ أيار 1990، أرسلت الإدارة الأميركية مذكّرة لجامعة الدول العربية، طلبت فيها من الزعماء العرب عدم استخدام "اللغة الحماسية المفرطة"، الأمر الذي أثار استفزاز صدام وصار أكثر وضوحًا.
فاتخذ الرئيس العراقي القمّة، التي تناولت تحديات الأمن القومي العربي، وأيّدت الفلسطينيين في انتفاضتهم، وهنأت اليمنيين على وحدتهم، منبرًا لمهاجمة الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، واصفًا أميركا لأول مرة بالإمبريالية.
"مؤامرة نفطية أميركية خليجية"
وفي كلمته الختامية، أثار أزمة إنتاج النفط، ووضعها في سياق المؤامرة، ولو بأسلوب موارب.
فبينما بدا في خطابه وكأنّه يفترض حسن النوايا، تحدث فيه عن مؤامرة نفطية أميركية خليجية سرعان ما تبيّن أنّه قصد بها الكويت والإمارات.
ففي رأيه، استفادت الولايات المتحدة من إنتاج الكويت والإمارات المتزايد من النفط والأسعار المخفّضة خلال حرب العراق مع إيران، ما جعل واشنطن بالضرورة الرابح من استمرار الحرب.
هكذا، صارت قضية النفط ورقة سياسية يرفعها صدام لممارسة المزيد من الضغط على الكويت، التي ترفض مطالبه منذ أشهر.
لكن حيدر سعيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقول إن كل ذلك أتى في سياق أزمة نفطية عالمية لم يكن سببها الأساسي - كما اتهم صدام بشكل مباشر في قمة بغداد - الإمارات والكويت بإغراق السوق النفطية.
ويوضح أنه وفقًا للدراسات ولمجموعة من الفاعلين في الصناعة النفطية في المنطقة والعالم، فإن الانخفاض الصارخ بالأسعار جاء بعد ارتفاعها في أواسط الثمانينيات، وذلك بسبب محاولة دول أوبك مواجهة صعود نفط الشمال.
ويشير إلى أن استهداف العراق لم يكن العامل الأساسي الذي حرك بعض دول الخليج ومنها الكويت إلى إغراق السوق النفطية.
ومع منتصف يوليو/ تموز 1990 لم يكن شيء ليوقف التوتّر المتصاعد، حيث أرسلت الخارجية العراقية مذكرة لجامعة الدول العربية ذكرت فيها بمسألة تحديد الحدود المعلقة مع الكويت، متحدثة عما وصفته بـ"اشتراك حكومتي الكويت والإمارات بعملية مدبرة لإغراق سوق النفط بمزيد من الإنتاج".
وأردفت بأن "الكويت أضافت إلى هذه الإساءات المتعمدة إساءة أخرى.. فقد نصبت، منذ عام 1980، وخاصة في ظروف الحرب، منشآت نفطية على الجزء الجنوبي من حقل الرميلة العراقي، وصارت تسحب النفط منه".
الكويت التي ردت برسالة موجهة للأمين العام لجامعة الدول العربية، قالت إن "ذلك يعد تزييفًا للواقع، وعرضًا لحقائق معكوسة، حيث إن للعراق سجلًا حافلًا في تجاوزاته على الأراضي الكويتية".
ولفتت إلى أنّ "المتتبّع لقضية أسعار النفط، يدرك وبوضوح أن تدهور الأسعار كان بفعل مشكلة عالمية تدخل في أطراف عدة".
تابعت: "وفيما ادعته المذكرة العراقية بسحب الكويت للنفط من الجزء الجنوبي من حقل الرميلة العراقي، فإنه لا بد من التأكيد هنا بأن هذا الجزء من الحقل يقع ضمن الأراضي الكويتية".
في تلك الأثناء كانت القوات العراقية قد احتشدت بالفعل على الحدود الجنوبية مع الكويت، والأمر لم يكن خفيًا عن القيادات العربية أو الأميركيين.
اللقاء الأكثر جدلًا في تاريخ الأزمة
بعد لقاء جمعها بوكيل وزارة الخارجية العراقي نزار حمدون بناء على تعليمات لبحث الأزمة مع مسؤولي الخارجية العراقية، دُعيت السفيرة الأميركية في بغداد أبريل غلاسبي إلى لقاء آخر مهم اكتشفت في حينه أنه كان مع صدام حسين شخصيًا.
عبّر صدّام لغلاسبي - بحسب المحضر العراقي للاجتماع - عن رغبته باستعادة العلاقات مع الولايات المتحدة وحمّلها رسالة للرئيس جورج بوش الأب.
ثمّ سرد الأسباب التي تدعوه لاتخاذ موقف حذر من واشنطن يصل أحيانًا إلى التهديد، مؤكدًا اعتقاده بوجود مؤامرة نفطية خليجية تقف أميركا وراءها. وقال إنّه يريد السلام إن بادر به الآخرون، لكنّه لن يتردّد عن الحرب إن أرادوها.
كان ردّ غلاسبي عليه برغبة الإدارة الأميركية في تمتين الصداقة، متفهّمة أزمة العراق الاقتصادية وحاجته للأموال لردم ما خلّفته الحرب. ثمّ سألت عن حشد القوات العراقية على الحدود مع الكويت.
وقد تطابقت تفاصيل المحضر العراقي إلى حدّ كبير مع رسالة كُشف عنها عام 2011 ضمن وثائق ويكيليكس، كانت غلاسبي قد أرسلتها للإدارة الأميركية.
وحول مسألة الحدود، أشارت غلاسبي إلى أنها أكّدت لصدام بأن لا موقفَ للولايات المتحدة في شؤون عربية كهذه. فقيل لاحقًا إنّ صدام فهم كلامها هذا على أنّه ضوء أخضر لغزو الكويت.
وخلال الاجتماع، رنّ الهاتف فاستُدعي صدام ليجيب ثمّ عاد وأخبر غلاسبي بأنّ الرئيس المصري محمد حسني مبارك يقول إنّ لقاءً قريبًا يجري ترتيبه بين العراقيين والكويتيين.
غادرت يومها السفيرة الأميركية بعدما بدت مرتاحة للخطوة وهنّأت الرئيس العراقي على الفور، ثم ذهبت في إجازة خاصة، بينما تقف المنطقة على حافّة حرب أخرى.
وفي واشنطن، وقبل أيام من الغزو العراقي للكويت قدّم مجتمع الاستخبارات إيجازًا استخباريًا سريًا للإدارة الأميركية كان عنوانه "الكويت في مرمى النار".